أقلام حرة
حميد علي القحطاني: في متاهات الروح.. ترنيمة الرغبة والإرادة والعقل

في دهاليز الروح، حيث تتشابك أنفاس الوجود بلغة لا تُنطق، وتتشكل الأحلام والقرارات على هيئة ومضات، تتجلّى الحقيقة الإنسانية كلوحة مرسومة بألوان متباينة: نزوة، عزيمة، وبصيرة. فلنتأملها، لا كمتفرجين، بل كرحالة يخوضون غمارها، ويغوصون في بحارها بأشرعة الوعي وقلوبٍ على أهبة الدهشة.
الرغبة.. غيوم تتشكل وتنجلي
هي الرغبة... ذلك الوميض الذي يمرّ في سماء النفس كغمامةٍ ناعسة، أحيانًا تُبشّر، وأحيانًا تُنذر. تسري كأنفاسٍ دافئة في ليالٍ باردة، تُغري وتعد، لكن لا تعِد بالبقاء. تتكاثف في الأفق، تحمل معها أمطار الشوق، ورعود اللهفة، وتلمع ببروق الطمع أو الحنين. تُخيل إلينا، لحظات، أنها كل السماء، أنها المصير ذاته. لكن الحقيقة الأبدية تُعيدنا إلى رشدٍ عميق: الرغبات زوّار، لا ملاك، تمرّ ولا تُقيم، تهمس ولا تأمر، تظهر وتضمحل كما السراب.
وفي معرفة عابريتها، تنكشف الحرية. من ينظر إليها بعين العارف، لا يُفتن، بل يُبصر. من يدرك أنها دخانٌ في مهبّ الوعي، لا يُستعبد، بل يتحرر. تلك هي الرغبة: نارٌ لا توقد إلا إذا نفخنا فيها من هوى، وظلٌّ لا يثبت إلا إذا أدرنا له الظهر.
الإرادة.. النجم الذي لا يخفت
في قلب العاصفة، حين يضجّ الكون بصراخ المغريات، تصعد الإرادة كأنها نبض الأرض. لا تتقلب كالرغبة، بل تثبت. إنها البوصلة التي لا تعرف الشمال المغشوش، والمرساة التي لا يقتلعها تيار، مهما اغتلم.
الإرادة ليست مجرد قرار، بل قوة تُصاغ من وعي ومن نار. إنها التوق إلى السيطرة، إلى الانضباط، إلى توجيه السفينة حين تتحطم أشرعتها. فيها يسكن صمت الأبطال، الذين يمشون نحو الضوء رغم انكساراتهم، ويزرعون خطواتهم على دروب من شوك دون أن يحنوا رؤوسهم. هي الإرادة التي تجعل الإنسان سيدًا، لا مستجدِياً، وصاحب مصير، لا صدىً في وادٍ مهجور.
وحين تهب العواصف، وتتعالى نداءات التخلّي، تمسكنا الإرادة من تلابيب الضياع، وتهمس: اثبت.. فأنت من يختار الطريق، لا الطريق من يختارك.
العقل.. عرش التوازن وسيف الحكمة
وأخيرًا، هناك العقل، سيّد المسرح، العرش الذي لا يُنتزع. إنه الملك الذي لا تحكمه شهوة، ولا يُضلله اندفاع. هو القاضي الذي لا ينام، والمهندس الذي يبني خرائط الخلاص. بميزانه تُوزن الرغبات، وبمنطقه تُهذَّب الإرادة، وبحكمته تُسَيَّر القافلة في صحراء الحياة.
العقل ليس سجنًا للرغبة، ولا عدوًا لها، بل عينٌ تقيس المسافة بين اللهفة والغاية، بين الدافع والمصير. وإذا كانت الرغبة نارًا، والإرادة طاقة، فالعقل هو قالب الذهب الذي يصهرها فيهما لتخرج قراراتنا صافية، واعية، متزنة.
إنه السيادة في زمن الفوضى، والقبطان الذي يرسم خط السير، لا يرضى بتيه، ولا يقبل بأن نكون أسرى لدواخلنا. هو ذروة الوعي، وتجلي الإنسان حين يختار أن يحكم نفسه، لا أن يُحكم بها.
هكذا تنسج الروح خيوطها: رغبةٌ تمر كنسيم، إرادةٌ تشتعل كجمرة، وعقلٌ يتلألأ كنجمٍ لا يغيب. وفي توازن هذه الثلاثة، يتشكّل الإنسان الحق، لا كمجرد كائن حي، بل ككائن واعٍ، حر، سيّد على ذاته، رحّال نحو أسمى مراتب السكينة والتنوير.
***
حميد علي القحطاني