أقلام حرة

جودت العاني: هل الدين سبب اختلاف البشر..؟

البشر جميعهم، كلٌ ينظر الى الاشياء والاحوال من زاويته الخاصة .. والزوايا الخاصة لا تعد ولا تحصى، تتضارب وتتقاطع وتتساوى وتتصارع وتهادن وتعايش، وكل منها يشعر ويعلن انه الأمثل والأحسن والأقوى والأجدر والأجمل.. ومن هذا الزخم الهائج تنز الفوضى والصراعات وتحتدم الاضداد.

هل كل ذلك بسبب الدين كما يقول البعض؟ أم بسبب نوازع البشر ورؤيتهم للاشياء والاحوال من زواياهم الخاصة، ولا من يضبط إيقاع الرؤى لمنع الصراع من أن يبلغ مستوى العنف.

في الدين ضوابط اقوى من ضوابط الدنيا ومع ذلك يستمر الاحتدام وتستمر النوازع تحصد الشر اعتمادا على تلك الرؤى المنبثقة من تلك الزوايا الضيقة التي مبعثها البشر.

يقولون لولا الدين او الاديان لما كان هناك صراع بين البشر؟ فهو، في زعمهم سبب التطرف والعنف والتعصب، تحت ذريعة حماية أو الاحتماء بقدسية النص الالهي، وكأن الله سبحانه قد وزع تفويضاً على رجال الدين لكي يكونوا ظلا له على الارض و يعملوا كوكلاء، والاخرون تابعون صاغرون لا يمتلكون (الحقيقة) ولا يحق لهم الاعتراض، بل عليهم الطاعة وتقبيل ايادي الذين يفتون .

سبب الصراع والعنف لا يكمن في الدين، إنما في مدركات العقل البشري ونوازعهم الانانية والتفردية المتسلطة وإذا ما تم تشذيب هذه النوازع تتلاشى تقريبا تلك (المماحكات) والإحتكاكات والصراعات التي تظهر بهذا الشكل أو ذاك تبعاً لصرامة الموضوع أو الحدث.

فهل يستطيع الانسان ان يتخلى عن الايمان بالافكار والمعتقدات ..؟ فمن الصعب الإعتقاد بذلك طالما أن الكائن يحتاج إلى (أمل) للوصول إلى هدف قد يكون في صيغة معتقد .. فمن حق الكائن ان يعتقد بما يشاء ومن حقه أن يؤمن ايضا .. ففي الهند طوائف تعبد البقر وطوائف تعبد الفئران وطوائف تعبد فرج المرأة .. ومنهم من يتبارك بشرب بول البقر والإبل ، وهناك من كان يعبد الشمس والقمر والرياح في الزمن السحيق، وهناك من يؤله الإنسان ويعتقد بأنه إبن الله، وهناك من يرى الامام ظل الله على الارض وهناك من يرجح الإمامة ويرجح الاولياء الصالحين على الانبياء المرسلين، في ذكره وقيامه وجلوسه وترحاله والنبي موحى له من الله سبحانه، والأولياء والصالحون ليس موحى لهم . هم اولياء وليسوا انبياء ، هنا الفرق الذي يكرس الخلط الذي بدوره ينشأ الخطأ . الله يختار انبياءه ولا يختار اولياءه،  وهذه حقيقة جازمة لا غبار عليها ولا تشكل أية إساءه لا للأولياء  ولا للدين .

 الله والدين والسياسة.. هل من ترابط؟

التفكير السليم والمنطق العقلي يؤكد على ان الله سبحانه وتعالى مكانته في علاه خالق الكون .. وان الله لا يمتلك احزاباً سياسية ينشر من خلالها آياته ورحمته واحسانه وعدله على الناس .. فلماذا تأسست (احزاب الله) إذن؟ ومن اسسها؟ وهل كان ذلك بتفويض من الله؟ هل قال الله لعباده اسسوا لي احزابا على الأرض؟

كيف نضع اصبعنا على الاشكالية؟

هل الدين او الاديان هي سبب الصراعات الجوهرية أم أن الرؤى الضيقة القاصرة المعقدة للبشر هي السبب الجوهري للصراعات؟ وهل ان الاديان التي جاء بها الله سبحانه لكي يتصارع بسببها البشر وتسفك الدماء؟ أم جاء الدين او الاديان من اجل الهداية والرحمة والانصاف والعدل والمساواة بين البشر؟

اذن اين يكمن السبب؟ من الذي يبدأ ويباشر بالصراع والتناحر وارتكاب الأثم والفساد هل الدين أم الأنسان؟

- الأنسان قد يغالي ويكابر ويكذب وينافق.. أما الدين فلا يرتكب الإثم والفساد والكذب والنفاق.

- الأنسان قد يفتي ويزعم انه ظل الله على الارض، وان الله أوكله روحياً ومادياً ليحكم البشر بأسم الله، فهو (روح الله) و (وكيل الله) .. ولكن البشر، يأكلون ويشربون ويتغوطون ويتناسلون.. فكيف للإنسان أن يكون روح الله ووكيل الله ؟ وهل يحتاج الله إلى وكيل ينوب عنه ليحكم بغرائزه ويقود البشر كما يريد؟

- القدسية في الكتب السماوية التي انزلها الله سبجانه على انبيائه الكرام وخاتمتها القرآن الكريم المنزل على النبي الكريم محمد (ص).

فالبشر ليسوا مقدسين، قد يكونوا صالحين في تفكيرهم وسلوكهم ونتائج أعمالهم يسمونهم مصلحون ومفكرون وعلماء وناسكون في الصوامع والكنائس والجوامع، ولكنهم غير مقدسين لكونهم بشر، والبشري ليس مقدساً إلا الذي يوحى له حصراً وهو النبي .

- في ظل الرسالة النبوية الشريفة كان النبي الكريم يجمع بين سلطتين (دينية ودنيوية)، وحين توفاه الله لم تعد هنالك سلطة دينية، إنما دنيوية ممثلة بسلطة الإدارة وهي سلطة سياسية انتجت بعد الوفاة صراعات على الحكم وإدعاءات بالأحقية وكلها رغبات (دنيوية- سياسية) ما تزال الشعوب تعاني من ويلاتها لحد الآن، عدى بعض الدول التي: فصلت الدين عن السياسة وإستخلصت روح الدين وهي (العدالة والإنصاف والمساواة في الحقوق والواجبات) وطبقتها في تشريعاتها الادارية والمدنية واكدت على السيادة والاستقلال الوطني وتمسكت بمبدا عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى واتخذت مسار عدم الانحياز لأية قوة دولية أو إقليمية. وباشرت بالتنمية المستدامة ونوعت مصادر الاقتصاد والتسلح وطبقت مبدأ المعاملة بالمثل.

- المبدأ الأول لتطور الدولة هو فصل الدين عن السياسة،  إذ لا يجوز لرجل الدين ان يقحم الدين في السياسة ولا يجوز لرجل السياسة ان يستخدم الدين اداة في السياسة.

- المبدأ الاول لتطور المجتمع هو فصل الدين عن السياسة.

- عمل رجل الدين في اروقة المساجد والجوامع والمعابد .. وعمل رجل السياسة في اروقة مؤسسات الدولة السياسية كالبرلمانات والرئاسات والوزارات .

هذا هو الطريق الأمثل لنجاة الدين ونجاة الدولة من التداخل والتفسخ .. فالدولة الدينية لا تعيش طويلا  بسبب احتكار السلطة وتكفيرالآخر والتسلط والتحكم .. والدولة السياسية لا تعمر طويلا إذا ما ابتعدت عن توفير حاجات الشعب ومتطلباته الاساسية (الغذاء والدواء  والأمن والأمان والحياة الحرة الكريمة).. وتعد هذه المتطلبات المحك الذي يبقي أو يزيل الحكومات في أية دولة، وهو في حقيقته قانون واقعي - اجتماعي يتسم بالتوازن، حتى إذا وفرت الحكومات الغذاء والدواء وأخلت بالأمن والأمان أو بالحرية والاستقلال الوطني، فإن بقاء هذه الحكومات غير مضمون، ولا يعمر طويلا.

العالم يخلو تقريباً من حكومات دينية وذلك بحكم الواقع السياسي الدولي والظروف الموضوعية التي لا تسمح بذلك. فيما تمارس حكومة دولة سياسات استراتيجية وتعلن نفسها دولة دينية .. ومن هذه الزاوية تنشأ (الإزدواجية) في النظرية والتطبيق .. فلا هي دولة دينية ولا هي حكومة سياسية .. الأمر الذي يجعل التعامل معها أمراً معقداً وفي غاية الصعوبة، كما انها تبقى مصدرا للإرباك وتشويش قواعد التعامل السياسي والدبلوماسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي في محيطها القريب والبعيد.

والتساؤل هنا ما هو مستقبل دولة الازدواج في المنطقة؟ هل تبقى على حالها كما هي تريد او كما يراد لها ان تبقى؟

هي طبعاً تريد ان تبقى وتستمر .. ولكن المتغيرات تشير إلى ان إزدواجية الدولة الدينية من الصعب تقبلها في محيطها السياسي القريب ولا البعيد بحكم تغير الظروف الموضوعية التي لن تعد تسمح .!!

***

د. جودت صالح

7 / 10 / 2024

 

في المثقف اليوم