أقلام فكرية
سليم جواد الفهد: "الدين أفيون الشعوب"

"الدين أفيون الشعوب".. هي واحدة من أشهر مقولات كارل ماركس وأكثرها إثارة للجدل وسوء الفهم. لفهمها بعمق يجب وضعها في سياقها الفلسفي والنظر إلى الظروف التاريخية والفكرية التي قيلت فيها.
السياق الكامل للمقولة:
وردت هذه المقولة في مقدمة كتاب ماركس "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل" الذي كتبه عام 1843 ونُشر عام 1844 والنص الكامل الذي وردت فيه المقولة هو:
(إن الشقاء الديني هو من جهة تعبير عن الشقاء الواقعي وهو من جهة أخرى احتجاج على هذا الشقاء. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، هو قلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع لا روح فيها إنه أفيون الشعوب).
رؤية هيجل ونقدها:
كان هيجل يرى أن التاريخ هو تطور للروح المطلق-الله- وإن الدولة هي أعلى تجليات هذا الروح على الأرض.
أما ماركس فقد قلب هذه المعادلة مؤكداً أن الواقع المادي والظروف الاقتصادية والاجتماعية هي التي تشكل الوعي البشري والمؤسسات الاجتماعية بما في ذلك الدولة.
يُعتبر عمل ماركس "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل" بمثابة أول عمل رئيسي لماركس يوضح فيه انفصاله عن هيجل. في هذا العمل يقوم ماركس بتحليل دقيق ومفصل لأفكار هيجل حول الدولة والقانون مقدماً رؤية مغايرة تماماً تركز على الواقع المادي والصراعات الطبقية منطلقا من نفس منهج الجدل الهيجلي لكن هذه المرة بشكل عكسي حيث أقام الجدل على قدميه بعد أن كان يمشي على رأسه.
الأفكار الأساسية في النقد الماركسي لهيجل:
تعتمد مساهمة ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل على عدة مفاهيم أساسية يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1.الجدلية والتجريد:
ينتقد ماركس هيجل لكونه يبدأ العديد من حججه الجدلية معتمدا على التجريد.
ومنهج هيجل هكذا (المقولة تثير نقيض يتصارعان فيؤدي الصراع إلى تركيب جديد يتحول بدوره إلى مقولة تثير نقيض وهكذا من مقولة الوجود إلى الفكرة المطلقة). مما يؤدي إلى انفصال الفلسفة عن الواقع المادي الملموس فهيجل يقلب العلاقة بين الفكر والواقع حيث يجعل الفكر أو الوعي هو الذي يحدد الواقع بينما يرى ماركس أن الواقع المادي (الظروف الاقتصادية والاجتماعية) هو الذي يحدد الفكر والوعي. فبدلاً من تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية كما هي في الواقع يقوم هيجل ببناء نظام فلسفي مجرد ومعقد لا يعكس الواقع الفعلي بل يبرره ويضفي عليه طابعاً عقلانياً وضرورياً.
هذا التجريد في نظر ماركس يؤدي إلى إخفاء التناقضات والصراعات الحقيقية الموجودة في المجتمع ويقدم صورة مثالية للدولة لا تتوافق مع واقعها. فهيجل يبدأ من الفكرة المجردة للدولة ثم يحاول إيجاد تجسيد لها في الواقع بينما يجب أن يكون العكس هو الصحيح.
أي البدء من الواقع المادي الملموس ثم تحليل كيف تتشكل الأفكار والمؤسسات من هذا الواقع.
2. الاغتراب:
يتأثر ماركس في تحليله لمفهوم الاغتراب بأعمال لودفيج فيورباخ الذي يرى أن الدين هو شكل من أشكال الاغتراب حيث يقوم الإنسان بإسقاط صفاته الإنسانية على كائن إلهي.
فالإنسان فعليا يركع أمام ماهيته الناقصة لكنه يغطي هذا النقص بتصور ماهية كاملة مطلقة على كائن متخيل يراه قمة الرحمة وقمة الشفقة وكامل القدرة وتام العلم ثم يعتقد أن هذا الكائن يهتم لأمره ويحيطه بعنايته.
ويوسع ماركس هذا المفهوم ليشمل الاغتراب الاقتصادي والسياسي ففلسفة هيجل لا تعالج الاغتراب الحقيقي الذي يعيشه الإنسان في المجتمع الرأسمالي بل تبرره أو تتجاهله فالدولة الهيجلية بدلاً من أن تكون حلاً للاغتراب هي في حد ذاتها شكل من أشكاله. فالفرد في المجتمع الرأسمالي مغترب عن عمله عن نتاج عمله عن طبيعته الإنسانية وعن الآخرين.
والدولة كما يرى ماركس تساهم في إدامة هذا الاغتراب من خلال حماية مصالح الطبقة الحاكمة التي تستغل العمال وتعزلهم عن نتاج عملهم فيصير الاغتراب ليس مجرد حالة نفسية أو روحية بل هو ظاهرة مادية واجتماعية ناتجة عن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الملكية الخاصة وتقسيم العمل.
3. العلاقة بين المجتمع المدني والدولة:
يركز ماركس بشكل كبير على تحليل العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي (الدولة). يرى هيجل أن الدولة هي الكلية الأخلاقية التي تتجاوز وتحل التناقضات الموجودة في المجتمع المدني وأنها هي المحرك الأساسي والمحقق للحرية. أما ماركس فيرى أن هيجل يقلب العلاقة بينهما لأن الدولة في نظر ماركس هي نتاج للصراعات الطبقية في المجتمع المدني وأنها تخدم مصالح الطبقة الحاكمة. فالدولة ليست تجسيداً للعقل المطلق كما يرى هيجل بل هي أداة للقمع الطبقي. إنها ليست حلاً للتناقضات بل هي تعبير عنها. فالمجتمع المدني (الذي يشمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية) هو الأساس الحقيقي الذي تنشأ منه الدولة والدولة ليست سوى انعكاس للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة.
فالدولة بهذا المعنى هي بنية فوقية تعكس البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع.
صار واضحا أن هيجل يضفي طابعاً مثالياً على الدولة ويجعلها كياناً مستقلاً عن المجتمع بينما هي في الواقع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالظروف المادية للمجتمع.
4. الدين:
يقدم ماركس في مقدمة عمله نقداً للدين ويرى أن نقد الدين هو شرط مسبق لكل نقد. فالدين، بالنسبة لماركس، هو "أفيون الشعوب"، وهو تعبير عن المعاناة الحقيقية وفي الوقت نفسه واحتجاج على هذه المعاناة. ففلسفة هيجل بتبريرها الدولة كتحقيق للعقل المطلق تساهم في إدامة الأوهام الدينية والسياسية. وهنا يتحول الدين إلى وهم يوفر عزاءً زائفاً للناس في عالم مليء بالظلم والمعاناة ويمنعهم من إدراك واقعهم الحقيقي وبالتالي السعي لتغييره.
الدين في الفهم الدقيق هو نتاج لظروف اجتماعية معينة وهو يعكس الاغتراب الذي يعيشه الإنسان في هذه الظروف و نقد توظيف الدين لتزييف وعي الجماهير هو الخطوة الأولى نحو تحرير الإنسان من الأوهام وبالتالي تمكينه من تغيير واقعه المادي.
5. الدولة كتحقيق للعقل المطلق:
ينتقد ماركس بشدة فكرة هيجل بأن الدولة هي تحقيق للعقل المطلق على الأرض. فهذه الفكرة سخيفة بقدر ما هي خاطئة فهي تبرر الوضع الراهن وتحافظ عليه وتضفي عليه طابعاً مقدساً مما يمنع أي تغيير ثوري.
فالدولة الهيجلية في نظر ماركس هي دولة مثالية لا وجود لها في الواقع وهي مجرد أداة للحفاظ على النظام القائم ومصالح الطبقة المستَغِلة الحاكمة.
نعم فهيجل بهذا الفهم يضفي طابعاً ميتافيزيقياً على الدولة ويجعلها كياناً مستقلاً عن الأفراد والمجتمع بينما هي في الواقع نتاج للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية ببن حاكم مُستَغِل ومحكوم مُستَغَل.
حقيقة الدولة النهائية في جوهرها هي أداة في يد الطبقة الحاكمة للحفاظ على سيطرتها وقمع الطبقات الأخرى.
أخيراً أقول: هيجل باعتبار فهمه المثالي للدولة يخلط بين الدولة المثالية كتحقيق للمطلق وبين الدولة الواقعية وأسسها الاجتماعية والاقتصادية وعلى ضوء فهمه المقلوب يقدم تبريراً فلسفياً للدولة البرجوازية القائمة ويدافع عنها مكرساً بذلك الاستبداد السياسي ومقرا بالتفاوت الاقتصادي وصولا إلى الظلم الاجتماعي.
شكل هذا النقد الماركسي الأساس العميق للمادية التاريخية التي ترى أن التطور التاريخي مدفوع بالصراعات الطبقية والتغيرات في الأنماط الاقتصادية. كما أثر نقد ماركس على فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع حيث أصبح يُنظر إلى الدولة على أنها ليست كياناً محايداً أو تجسيداً للعقل المطلق بل هي أداة في يد الطبقة المهيمنة. وقد ألهم هذا النقد العديد من الحركات الثورية التي سعت إلى تغيير الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة.
تُعد مساهمة كارل ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي. فقد قدم ماركس نقداً جذرياً للمثالية الهيجلية مؤكداً على أهمية الواقع المادي والصراعات الطبقية في تشكيل الوعي والمؤسسات الاجتماعية. من خلال تحليله لمفاهيم الجدلية والاغتراب والعلاقة بين المجتمع المدني والدولة والدين. وكشف ماركس عن التناقضات الكامنة في فلسفة هيجل وقدم رؤية بديلة للدولة والمجتمع. على الرغم من أن نقد ماركس كان موجهاً بشكل خاص إلى هيجل إلا أن تأثيره امتد ليشمل مجالات أوسع في الفلسفة والاقتصاد والسياسة وما زال يشكل مرجعاً أساسياً في دراسة الفكر النقدي.
ألقينا الضوء على مساهمة ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل باختصار والآن نعود إلى مقصود ماركس من مقولتة "الدين أفيون الشعوب".
قلنا هي واحدة من أشهر اقتباساته وأكثرها إثارة للجدل.
والنص الكامل الذي وردت فيه المقولة هو: "إن الشقاء الديني هو من جهة تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة أخرى احتجاج على هذا الشقاء. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، هو قلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع لا روح فيها. إنه أفيون الشعوب".
تحليل المعنى:
عندما وصف ماركس الدين بأنه "أفيون" لم يكن يقصد بالضرورة إدانة الدين في حد ذاته بل كان يحلل وظيفته الاجتماعية في ظل الظروف القاسية التي عاشتها الطبقة العاملة (البروليتاريا) في القرن التاسع عشر عصر ماركس كان الأفيون يُستخدم كدواء ومسكن لتخفيف الآلام الجسدية فاستخدم ماركس هذا التشبيه ليقول إن الدين يقوم بوظيفة مماثلة على المستوى النفسي والاجتماعي. فهو يقدم العزاء والراحة للناس في مواجهة بؤسهم ومعاناتهم في عالم رأسمالي قاس. فالدين عبر وعده بمكافأة في الحياة الآخرة يمنح الطبقات العاملة أملاً كاذباً ويصرف انتباههم عن ضرورة تغيير ظروفهم الواقعية البائسة. بدلاً من الثورة على الظلم والاستغلال في الدنيا يجعلهم الدين يركزون على الخلاص في الآخرة. فالطبقات الحاكمة تستخدم الدين كأداة أيديولوجية للحفاظ على سيطرتها فهي ترى الدين أكثر من مجرد معتقد شخصي هو في نظرها بنية سلطوية تعمل على تنظيم وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات.
من منظور فلسفي لا يمكن التعامل مع مقولة ماركس كشتيمة أيديولوجية للدين بل كنقطة بداية لتحليل آليات الهيمنة الرمزية التي يمارسها الخطاب الديني على الوعي الفردي والجمعي.
يجب أن نفرق في العلاقة بين الدين كأداة خطابية وبين المؤسسات الدينية التي تنتجه وتتكفل به حفظا وأدامة.
الدين كخطاب مصدره المقدس يشجع على قيم مثل الصبر وتحمل المصير والقبول بالقدر خيره وشره. وهذا الخطاب يخلق نسقا ذهنيا مضمرا من الخضوع يمنع العمال من التمرد على مُستَغلِيهم ويجعل الظلم الاجتماعي يبدو وكأنه جزء من نظام إلهي طبيعي. هنا يبدأ عمل المؤسسات الدينية وهو تكريس هذا الخضوع لخلق الوعي المُزيف بالواقع فالدين الكهنوتي غالباً ما كان يُستخدم لضبط الجماعات عبر تشكيل ضمير جمعي موحد قائم على الطاعة والتسليم والقبول لا على النقد والتساؤل.
في الوقت نفسه لم يغفل ماركس الجانب الإيجابي للدين كشكل من أشكال الاحتجاج. فالدين بالنسبة للمضطهدين هو "تنهيدة" و"احتجاج" ضد معاناتهم الحقيقية وهو محاولة لإيجاد "قلب في عالم لا قلب له" حسب تعبيره الدقيق.
إذن لم يكن نقد ماركس موجهاً للدين كمعتقد روحي فردي- أي علاقة بين الإنسان وخالقه- بقدر ما كان موجهاً لدور "المؤسسة الدينية" كجزء من البنية الفوقية للمجتمع التي تخدم مصالح الطبقة السائدة. كان يعتقد أنه في مجتمع عادل خالٍ من الطبقات والاستغلال لن يحتاج الناس إلى "وهم" يخلقه رجال الدين لتزييف وعي الناس لأنهم سيحققون سعادتهم الحقيقية على الأرض إذا فهموا حقيقة أستغلالهم.
فالقصد الدقيق لعبارة ماركس أن المؤسسة الدينية ورجال الدين بتحالفهم مع الطبقة الحاكمة المتسلطة تجعل الدين يعمل كمخدر يخفف من آلام الواقع المزري للطبقة العاملة عبر تزييف الوعي بخلق قناعة في أذهان الناس بأن هذا قدر من الله ومن يصبر عليه فله جنة الخلد خالدا فيها أبدا. وهكذا يُمنع الناس من مواجهة الأسباب الحقيقية لمعاناتهم وبؤسهم حتى لا يثوروا عليه.
نعم الدين أفيون الشعوب لكنه ليس الألم.
***
سليم جواد الفهد