أقلام فكرية
سامي عبد العال: سلطة الحقيقة (3)
"ليس كلُّ ما يُقال حقيقةً، لكن يجب أنْ تُقال الحقيقة يوماً ما.."
هل للحقيقة قُوى خاصة تحُول دون استغلال السلطة؟ بالطبع، ولكن قبل التفصيل، يجب معرفة اختلاف القوة عن السلطة في هذا السياق. القوة هي (إمكانية ذاتية) على الظهور المُحايد لا العنيف، على التجلي الظاهر بدرجاتٍ لا المتواري بإطلاقٍ، على إدهاش الفهم لا انجذاب الغرائز، على انعدام التملُّك لا الاستحواذ، على الوجُود العام لا الخاص. أمَّا السلطة، فهي: نسقٌ يحجبُ لا يُوضح، كتلةٌ تتطلب حشداً لا تمييزاً، نظام يتضمن عنفاً غامضاً لا شفافيةً حائرةً، هيكل استقطاب لا تحرُر.
لا تقع سلطةٌ خارج الحقيقة ولا توجد حقيقةٌ خارج السلطة، لأنَّ هناك (مساحة تنازُع- شد وجذب) بالداخل منهما في الوقت نفسه. كلٌّ منهما يُردد أصداءَ الآخر، أي يتبادلان مساحةً لا أقول مشتركةً، لكنها مساحة موجودة بالضرورة شاءت السلطة أم أبت، وقبلت الحقيقة أم لم تقبل. مساحة متداخلة، متماهية، ملتفة التكوين ضمنياً وفي القلب منهما بالتبعية، ولا تخضع لهندسة مكانية ولا لجغرافيا الحركة وخرائط توزيع التأثير بينهما أمام المتابعين، لكنها مساحة تأويلية interpretative area بالأصالة عن المجتمعات البشرية.
كل ذلك في الحالين (القوى والسلطة) يتوقفُ على موقع الحقيقة وتوظيفها عبر سياق المجتمعات. فالحقيقة إذا كانت بائنةً كما ينبغي أنْ تكون، استطاعت التموقع في دائرة من الحياد الكاشف، وهي دائرة غير معقولة عادة .. أي لا تقع على نسق المعقولية الخاص بالحياة المشتركة بين الناس، بسبب كونها غير ملونة ولا منحازة، مساحة تحرر لا تنتمي إلى هذا ولا ذاك من ضروب الهيمنة. هي تقف وسط (نقطة مفاجئة) حتى لعناصر الحقيقة ذاتها. فأنْ يكون بعض الأطراف هم عناصرها، فهم في حالة إنكشاف وممارسة لا تعليق عليها.
ذلك مع كل ما يحيط بأية حقيقة من ملابسات وصور وعوامل شد وجذب تأويليين. لا يتخيلن أحدٌ أنَّ الحقيقة طالما أنَّها كذلك قادرة على الإنكشاف، فهي عارية، بل العكس هي دائماً مفاجئة، متوترة، غريبة، تكاد تكون مشقوقةً إلى نصفين إنْ لم تكن مشقوقة إلى أنصاف الأنصاف. هكذا لكونها غارقة وسط كم هائل من عمليات الحجب، عمليات التعمية، عمليات الترقيع والقص واللصق، عمليات التأجيل والتسويف. وحتى على صعيد التعبير تخضع لصياغات استعارية ومجازية تعطي السلطة الغلبة والسطوة.
لو نلاحظ، فإن فعل الإنكشاف إزاء الحقائق، يحتوي على نبرة الفاعل (كشف، انكشف، تكّشف، سيتكّشف). وهذا مستوى من قوى ذاتية للحقيقة، فهي مسكونةٌ بمعطيات نوعيه تجعلها في حالة ترقُب وظهورٍ. وينطوي فعل الإنكشاف أيضاً على نبرة المفعول (منكشفة - واضحة)، لكن الحقائق هدف للظهور، إنها تنتظر الفرصة- ولو كانت هامشية- لتُلقيها الحياة في وجه المجتمعات. حينئذ تبدو كما لو كانت هي الفاعل على الأصالة، لأنَّها تلفت الأنظار، وتبدو هي البطل الأساس لكل حالة إنكشافٍ.
دلالة قوى الحقيقة دلالة قابلة للتبرير في سياقات مختلفة. يكفي القول عندئذ بأن هناك حقيقةً ما قد وَضُحت، وإنَّ هناك أبعاداً قد ظهرت إلاَّ ويلتفت المعنيون للموضوع بجديةٍ. وقد يُنّحي هؤلاء انحازاتهم جانباً ليستمعوا إلى (صوت الحقيقة). وبالرغم من أن الإنسان لا ينسلخ عما ينحاز إليه، إلاَّ أنه على الأقل سيدركُ كون الحقيقةَ تقول شيئاً مختلفاً.
ومن ثمَّ، فالمعالم الآتية سأسميها قُوى، من باب كونها قوى تجلٍّ وسط الملابسات التي تجد نفسها واقعةً داخلها. فهي قوى تعطيها مسوغاً بين الناس. فالتكّشف لكل حقيقة لا يجري في عراء كما أشرت، لكنه عملية مخاض عسيرة تتم دوماً عنوة تحت إكراهات وعوامل كبح ثقافية وجوانب قسر شديدة الوطأة. إن السلطة لا تترك المسألة للمصادفة، فلا شيء مصادفة هناك، بل نتيجة هذا التجلي والظهور الصعب. لا تظهر حقيقة دون هذه المقاومة الصعبة لتلك الملابسات والظروف.
عدالة وجود
رغم اختلاف الحقائق وتنوعها، غير أنها تُعلن عن وجودٍ موضوعي ما. وجود يحيّدُك بالضرورة، ولا يعطيك فرصةً للقفز عليه. كلُّ حقيقة تعبر عن وجود قابل للاستفهام، وليس كالسؤال عندما يضعنا بين مفترق طرق جميعها ممكن الولوج عبرها بالتساوي، وكلها صالحة للاستعمال، وليس هناك واحدٌ منها جديراً بالاقصاء والاهمال. الحقيقة أشبه بالمطرقة التي تدق الرؤوس فتحدث استفاقة بائنة.
عندما تسمع كلمة حقيقة، لابد أن تنتبه من فورك بكل كيانك، فهي نقطة فارقة لا خلاف عليها. مع أو ضد، لايهم الأمر، ولكن الأهم أنه لن يكون المشهد بعد الآن كما كان. في وجود الحقيقة لا أحد يقترب، هناك مسافة تفصل الجميع من الجميع حتى، وإن كانوا فوق بعضهم البعض. لأن التراتب لن يفيد، لن يجدي. يجب أن ندع المجال للحقيقة المقصودة.
إنها عدالة وجود، العدالة بكل تنويعاتها الفاصلة؛ (الظهور، المعنى، الحق، العلاقة، الاقناع، الدليل، فهم الواقع، إعادة ترتيب الأشياء، واجب الإفصاح، إعادة الاعتبار). وكل هذه الصور تقول إن الحقيقة جديرة بالمعرفة، هي مهبط العقول لمعرفة ما الذي حدث بالضبط. أي هذا الذي حدث كما هو دون زيادة أو نقصان. وإذا كان عقل البعض مأخوذا بتحميل التبعات لجهة معينة إزاء الحقيقة، فالأخيرة اعلان عن وجودها وعدالة قضيتها دون أسبابٍ. لا تعنى الحقيقة بكونه رامية نحو أسباب بقدر ما تشير إلى ظروف وملابسات وقيود مفروضة عليها. دوما العدالة لا تتحقق من تلقاء نفسها، غير أننا نعرف أنها عدالة وستظهر في وقت من الأوقات.
عدالة وجود مرتبطة بأشياءٍ أخرى على الدوام، لأنّها عدالة بالنسبة إلى كذا... وكذا. والـ" كذا" لا يكف عن ممارسة الضغوط السلطوية، حتى لا تبدو الحقيقة آتية، هناك من يترقب، لا ليعرف، بل ليحول دون وجود الحقيقة. لأنَّ معادلة الواقع أخطر ما تصُوغه السلطة فارضةً نمط الرؤية المناسب لأهدافها. ليست السلطة سلطةً من غير أنْ تمتد أناملها إلى ما ترى، هي طريقة في كيفية رؤية الآخرين لما لا يريدون. الحقيقة تظهر من وراء الغيوم، مثلما تشرق الشمس وسط كتل السحب الداكنة.
ليست عدالة الوجود معادلة رياضية منطقية، لكنها عدالة واقع.. والواقع بائس ومفجع عادة. لأنَّه لا يوجد بصدد الحقيقة نوع من التوازن بين متغيرات سلطوية حتى وإنْ حدثت. لكن الحق في الوجود أكثر مما يتصور القابضون على زمام السلطة في أي مكان. فالعدالة مقولة جوهرية بالنسبة للحقيقة تدفع الباحثين عنها بكل ثقة ويقين. فالتاريخ لا يترك شاردة ولا واردة دون الإشارة ولو بطرف خفي إلى ما حدث. والعدالة من واقع الثقة في الحقائق ستبدو نقطة ظهور لا قصاصاً، نقطة حضور لا توازناً.
اعتراف
تُولد الحقيقة إلى حد الظهور ومعها بطاقة ميلاد خاصة. هي بطاقة اعتراف أصلية لا مزيفة، لأنَّ كل حقيقة لا تتسول اعترافاً على قارعة الطريق. ولو فعلت لفقدت صلاحيتها، فالإعتراف قضية مصير لا تسول عارض هنا أو هناك. وبالتالي يكون النضال لأجل الاعتراف بالحقائق والأحداث الفعلية في تاريخ المجتمعات أمراً جديراً بالاهتمام.
هناك تاريخ مضن للنضال من أجل الاعتراف بأدق تفاصيل الحقائق حتى أكبرها، النضال جزء من مسئولية الحقيقة بوجودها لدينا نحن البشر. ليس كل البشر بطبيعة الحال، لأن السلطة حجاب غليظ لدرجة الاستحالة. هم أولئك البشر المسئولون عن قول الحقيقة، عن الاعتراف بها. إنَّ موقعك من الحقيقة مهم بدرجة توازي إنسانيتك الحرة. ولذلك يعد الإعترافُ مهمةً وجوديةً بالمقام الأول. ليس بها تردد ولا آراء لجوجة، إذا كنت تدرك أنَّ هذه هي الحقيقة. الإنكار عندئذ عمل مشين إنسانياً في حق وجودتك، مثلما أنَّ وجودك عادل، فستكون مسئوليتك جزءاً لا يتجزأ من هذه العدالة.
لا تكف السلطة عن زج الاعتراف إلى دائرة أخلاقية خلافية، قد يأخذها الإنسان على محمل الجد أو لا يأخذ، لكن الحقيقة ليست وجهة نظر، وليست سلوكاً، لكنها فعل وجود. إنَّه الاعتراف بالحقيقة الذي يعطيك في التّو اعترافاً بوجودك. ليس هناك من ينكر الحقيقة دون أنْ ينكر نفسه بالمثل، فكل إنسان مهما كان منكراً لن يفلت من آثار الحقيقة في بعضه أو كله. بعضه عندما يفتعل كونه لا يعرف شيئاً، بينما ستكون الذاكرة حافظة لما حدث. أمَّا كله، فحين يمارس قصداً منكراً لحق العدالة والوجود، عندئذ سيكون قد اعترف بالعدم في نفسه، لقد مارس إعداماً وانتحاراً وجودياً على ذاته.
ولذلك يُقال في جلسات القضاء والمحاكم: الإعتراف سيد الأدلة، كل اعتراف يبقى محافظاً على نفسه من الضياع. لأنه جزءٌ من جهاز عام إسمه ذاكرة المجتمعات. لا يوجد إعتراف بين المرء ونفسه في السر. هذا ليس اعترافاً، لكنه نوع من الهمس الذي لا يخرج بعيداً. الاعتراف فعل عام بطبعة، وإلّا لفقد معناه الوجودي، ناهيك عن ضياع غايته في مسألة الحقيقة. لأنَّ الحقائق بالنسبة للناس تهم الجميع من غير استثناء، حتى وإن لم يدركوا ذلك من أول وهلةٍ.
ما مصدر هذا الاعتراف إذن؟ مصدره المسئولية الإنسانية عن الحقائق، الإنسان هو راعي الحقائق بالمقام الأول، فكل منا يشعر بوجود حافز وجودي لإظهار حقائق الأحداث والتاريخ والحياة إجمالاً. ليس بإمكاننا أنْ نعيش بلا اعتراف متبادل، حتى أننا نعترف للآخرين طوال الوقت بحريتهم وخصوصياتهم دون تدخل. والفرد الذي لا يعترف بالحقيقة سينال العقاب الرمزي من جنس العمل، سيهمله الآخرون عياناً بياناً وسيكون جزءاً من عملية تسلط لا مبرر لها. وبقدر ما هو في أمس الحاجة لأنْ يتم الاعتراف بحياته وكيانه، سيأتي الانكار رداً موجعاً عليه.
الاعتراف هو القاعدة التي تحمل المجتمعات الحديثة على الاستمرارية، والاعتراف به لون من التقدير والاحترام والحياد الإيجابي وقدرة على إعطاء الحقوق لأصحابها ومشاركتهم الوجود. لأنَّ هناك منْ تعنيهم الحقيقة بقدر ما يعنيهم وجودهم الضروري. أحداث الصراعات والمشكلات الاجتماعية تحتاج إلى أنجع وسيلة للإظهار وهي الاعتراف بوقوعها أو لا، بحسب ما ينتهي السعي نحو كشفها.
تقع الحقيقة دوماً على أحد طرفي النقيض (نعم أو لا). يصعب أن يقف الإنسان على طرفي (نعم ولا) معاً، وكأنَّه لم يقل شيئاً. لابد له من الشعور بالمسئولية الوجودية وأنْ يتكلم كإنسان يتمتع بإنسانية تجمعه والآخرين. وبينما تسير السلطة طوال الوقت على منطق المنْع والحجب والتغطية، سيكون الاعتراف خيطاً يجذب الناس لقول الحقائق واشهار ما حدث.
وهذا يفسر أنه في بعض المجتمعات التقليدية مثل مجتمعاتنا العربية يصعب: أن نعرف- مجرد المعرفة - إزاء الحقائق: ماذا حَدَثَ؟ إن الاستفهام: ماذا عن كذا بالفعل؟ لا يكون حافزاً إلاَّ للدوران خلفاً والهروب الكبير من ساحةِ الأسئلة. وكأنَّ هناك من ألقى قنبلةً واسعةَ النطاقِ في فضاءٍ عام مكتظ بالناس، فإذا به يخلو في لمح البصر من جميع الناس.
***
د. سامي عبد العال