ترجمات أدبية
أولغا توكارشوك: امرأة وضفدع وعفريت

بقلم: أولغا توكارشوك
ترجمة: صالح الرزوق
***
كان جانيواري فوجنيتش، الموظف المدني المتقاعد والملاك، رجلا مذهلا، كما يقولون في لوفوف. فهو وسيم ومعتز بنفسه. ومع أنه بالخمسين ونيف، له شعر أسود مع القليل من المشيب، وله لحية صغيرة تحت فمه، لكنه يحلق وجهه بإتقان شديد، ولا يدع غير شاربه الرائع، والذي يهتم به، ويفتله باستعمال البوميد، وهو مادة أساسها الشحوم. ونتيجة ذلك كان ميجيسلاف، ابنه، يربط دائما رائحة الدهون النفاذة بوالده، فقد كانت الدهون بمثابة جلد آخر تفوح منه رائحة عطرية. كان بمقدور جانيواري أن يتزوج ثانية بسهولة، ولكنه فقد العزاء بالنساء. فزوجته، التي توفيت بعد عدة شهور من الإنجاب، متأثرة بإجهاد إنجاب طفل، وبكآبة غير مفهومة، حطمت نهائيا ثقته بالجنس اللطيف - كما لو أنه خدعة أو عار مسلط عليه. ولدت وماتت. يا لأعصابه! أمه أيضا رحلت قبل الأوان. هناك خطأ بخصوص الأمهات. ويبدو أنهن موكولات بعمل خطير، يغامرن خلاله بحياتهن الملفوفة بالدانتيلا في معتزلاتهن وغرف النوم كأن طريقهن يقود إلى وجود مسموم بين ملاءات الأسرة والأواني النحاسية، وبين المناشف والمساحيق وأكوام التعليمات اللازمة للحياة اليومية على مدار السنة.
للنساء، في عالم عائلة ميجسواف فوجنيتش، حياة ضارة وقصيرة وغامضة، فهن يلقين حتفهن، ويبقين في ذاكرة الناس مثل أشكال عائمة بدون تضاريس. ويصبحن نبضات غير مفهومة ونائية موضعها كون مؤقت، ويحدوهن غايات لا تفسرها إلا الوظائف البيولوجية. لاحقا ستبرز مربية ميجيسلاف في ذاكرته كأنها صورة ضبابية، ودائما منقبة بشيء ما، خارج بؤرة النظر، وهاربة، تشبه خطا منسحبا طويلا ورفيعا. في أيام الطفولة كان يلهو معها، ويشد يديها وجلد يديها المتجعد. كان يقبض على ذلك الجلد بإبهامه وسبابته، ليأخذ هيئة ذكر الإوز (يسمونها "قرصة")، وبهذه الطريقة كان يقلل من تجاعيد يديها حتى تصبحا كأنهما شابتان. وكان يتخيل ذلك ويخمن كيف يمكنه تقليل طيات غليسيرا (وهو اسم عبثي شاع في تلك الأيام بين الفلاحين في منطقة لفوف)، كان بشد سطح جلدها يأمل أن يحمي مربيته من أن تطعن بالسن. لكنه لم ينجح في ذلك. وكان والده يعتقد أن السبب في الكوارث الوطنية، وفشل التعليم، يقع على التربية المتراخية التي تشجع السلوك البناتي، والميوعة، والسلبية، وهو ما يعرف اليوم باسم "استقلال الفرد". لم يوافق على ذلك. ما يهم هو الرجولة، والطاقة، والعمل الاجتماعي لمصلحة المجتمع، والعقلانية، والبراغماتية. وكان مغرما على وجه الخصوص بكلمة "البراغماتية".
بحجة تعليم ميجيسلاف وتربيته تربية ذكورية مناسبة، قرر جانيواري بيع بعض الأراضي والعقارات التي تركتها زوجته له، وأن يشتري في لوفوف شقة مضيئة ومريحة. وأخذ معه غليسيريا، لتعمل طاهية، وقهرمانة، ومربية. ومنذئذ وهم عائلة محترمة ولو أنها غير كاملة. كان قراره صائبا. باستثمار أمواله في أمور مستجدة، أصبح سلوك جانيواري عمليا جدا، وفي الحقيقة كسب عدة ميزات من الحياة في المدينة. وتراكمت اهتمامات عمله الجديد، وأصبح سهلا أن يعتني به وبطرق واقعية، بالمقارنة مع ريف غالينسيا البليد، وكانت كل رحلة إلى المدينة مثل رحلة عبر المحيط. كان جانيواري فوجنيتش مستثمرا جريئا. وضع بعض نقود العقار الذي باعه في شقق صغيرة وباحة من القرميد وذلك في قرية قريبة من بريجاني، واستثمر الباقي في أسهم تمتلكها محطة قطارات غاليسيا. وكل ما سلف وفر له دخلا مرتبا، يكفيه بسهولة ليعتني بنفسه وبابنه بمستوى محترم ومستقر. ولكنه تمسك بالحذر والمنطق، وكان على حدود التقتير. وفي ظروف نادرة إذا اشترى شيئا، دائما يحرص أن يكون من أفضل نوعية. ومن الطبيعي بذل عدة محاولات للزواج للمرة الثانية، ولكن في داخل ذهن جانيواري فوجنيتش كانت زوجته الراحلة، مخلوقة متفردة ومثالية، وكل امرأة على وجه البسيطة هي مجرد ظل لها، وإنسانة لا تستحق الاهتمام، أو حتى لفت النظر، كما لو أن النساء يحاولن بشكل أخرق تقليد تلك المخلوقة المذهلة. والنتيجة أن غليسيريا هي المرأة الوحيدة التي يتذكر ميجيسلاف فوجنيتش أنها شوهدت قريبة وبكل التفاصيل. فقد ربته قليلا في المطبخ، وقدمت له اللقيمات الطيبة، ولكن بما أن سلطتها لا تتخطى عتبات بقية الغرف، قامت هناك فقط بتبديل حفاظات الصغير ميجيتش (كما يناديه والده وعمه في تلك الأيام). وحاولت أن تعوضه عن غياب أمه. كانت تطعمه طبقا يتكون من القليل من خبز الدقيق المقرمش بالعسل، أو تقشر أطراف رغيف الخبز وتدهنه بطبقة سميكة من الزبدة الطازجة. كان الطعام هو ما يسره. وكان يتلقى هذه التعابير العاطفية الدافئة بامتنان، وربما كانت على وشك أن تتطور إلى رغبة وحب، ولكن والده لم يسمح بذلك. كان جانيواري يعامل غليسيريا كخادمة وحسب، ولا يتقرب منها، ولم يثق بهذه المرأة المسنة والممتلئة، المتوارية بين التنورات والدانتيلا والقبعات. كان يمقت بدانتها ويشتبه أنها تسرق الطعام، لذلك كان يدفع لها أقل مما يجب. وكان هناك دائما شيء غير مريح بخصوص حمامات طفولة ميجيتش. وكان والده يأخذ وقتا طويلا ليختبر صلواته قبل أن يتركه مكرها لغليسيريا. وكان يقود الولد إلى مملكتها، المطبخ، حيث ينتظره على الأرض حوض من القصدير المملوء بماء ساخن يكلله البخار. ولا يتذكر ميجيتش أن والده حضر حمامه. كان ينشر عبير الصابون والمناشف النظيفة رائحة سارة، حتى أصبح عطرا يدل على أيام السبت. وكانت غليسيريا تستقبله بيديها المكتنزتين، وكماها مرفوعان حتى الكوعين، ومحمران من الحرارة، وهي تبتسم، ومنذ تلك اللحظة يصبح ميجيتش الصغير مشاركا في طقس التعري، فينغمر بالماء، ثم تدعكه برقعة التنظيف، وترطبه بالصابون المعطر الذي تحتفظ به غاليسيا خصيصا لجلده الناعم، ولاستعماله هو فقط. وطيلة الاستحمام، تناغيه بالبولونية والأوكرانية وبطريقة غير مسبوقة. فهو "ألماستها الصغيرة"، "وفقاعة صغيرة من صابونتها"، و"حبيبها"، و"جوهرتها الناعمة"، و"ملاكها الصغير". وكان سيل الأسماء يسكر ميجيتش الصغير، الذي لا يمكنه استيعاب كل الصور السحرية المتضمنة في هذه الكلمات: جواهر وكنائس وغابات وحدائق - عالم كامل مدفون فيه، وذكرت له كلمات غيرها، لكنه لم يتعرف عليها بالرؤية شخصيا، بل من أشكالها التي يمكنه تخيلها. وكانت تخاطب أطرافه بقولها "أياديه"، "قدمه"، "سيقانه"، "صدره الرفيع". فيشعر بالرضا وحتى بالزهو لهذا الوجود، وهو شعور لم ينتابه بصحبة والده. وكان يحدق ببطنه الناتئة، يسميها "معدته"، وبالثقب الذي يتخللها ويسميه "زر البطن - السرة". وكانت غليسيريا تخيم عليه وتيار من العرق ينسكب من جبينها، فالمطبخ كله حمام بخار. ثم تسحب ميجيتش وتضعه على الطاولة، فوق منشفة ممدودة، وتنشفه، وهي تدغدغه من إبطيه، أو وهي تتظاهر أنها ستقضم "أصابع قدميه الصغيرتين". وكان ميجيتش لا يضحك بصوت مرتفع، خشية من تنبيه والده، والذي ربما يجري، متتبعا التيار البارد في الممر، فيوقف لعبته الممتعة، لذلك يقهقه بهدوء. وتكون منامته الجديدة والقطنية المغسولة حديثا قاسية وغير مريحة، لكن يعلم ميجيتش أنه في الصباح التالي، وبعد أول ليلة، ستعود كما كانت - ناعمة وطرية. فمرور الوقت يمهد الثنيات ويقلل الخشونة، ويجعل العالم ودودا نحوه. وما أن يرتدي منامته، تأتي غليسيريا بالمشط وتمشط به شعره الأشقر، المقصوص قصة الزفاف، كي لا يقاوم محاولاتها في تسريحه بجدائل صغيرة.
وتقول له: "شعرك قوي وغزير جدا".
كان من الجيد أن يكون بمتناوله أخبار موثوقة عن أمور تهمه، ومن ضمنها شعره. طبعا خربت التسريحة بسرعة، ثم مشطته على شكل لفافات تغطي جبينه، والتي كان والده يربت عليها كلما جاء ليتمنى له ليلة طيبة، ويكون ميجيتش حينها مستلقيا في غرفته الباردة بملاءاتها المنشاة حديثا، ولكن يكون السرير دافئا عند قدميه، وهكذا يذكره بأوقاته الجميلة في حمامه الأسبوعي.
طالما كرر والده ذم النساء، مع أن ميجيسلاف لا يتذكر حقا متى وفي أي موقف سمعه يذمهن - و"كرر" يعني أنه تكلم بطريقة ما، أحيانا بدون أن يفتح فمه - وكان يرى أن النساء، بطبعهن، خائنات ومتقلبات. بكاءات. ومن المستحيل أن تعلم كيف تتعامل معهن، وبماذا تثق فيهن. وهن غدارات، وزئبقيات كالحيايا أو الحرير (وهذا بالفعل ترابط غريب). ويصعب أن تمسك بهن، فهن يتسللن من يدك ثم يضحكن على ضعفك. ويوجد قول قديم يكرره العم إميل، الأخ الأصغر لجانيواري، وهو ضابط فرسان في الجيش النمساوي، والحقيقة أنه كرره عدة مرات، و هو ما يتذكره ميجيسلاف جيدا. والكلام له علاقة بغليسيريا، أو ربما بخطيبة عمه، الوحيدة، التي تخلت عنه وتزوجت بآخر. في هذه المناسبات، كان عمه - والذي له بالعادة أخلاق مشينة - يسرق ملعقته من صحن حسائه ويضعها فوق طبقه. ويقول: "المرأة والضفدع والعفريت ثلاث أخوات".
بذل فوجنيتش الصغير جهده ليحل معنى هذا القول، لكنه لم يجد فكرة عما يحاول عمه المتأنق، والذي بالعادة يعبر عن أفكاره بدقة، أن يقول. هل هناك ارتباط حقيقي بين المرأة والضفدع والعفريت؟. ثلاثة غامضون ومجهولون. وتبدو المرأة بينهم خارج غرفة نومها البورجوازية ذات ورق الجدران. وفي وسط الغابة والمستنقعات الموحلة مع الضفادع، ومن الواضح أن الثلاثي أقارب ومن نفس الحفرة الموجودة في أعماق الغابة، حيث لا يصل لا صوت ولا عين بشر، وحيث يفقد أي سائح طريقه. آه. حسنا. لا يوجد غابات من هذا النوع قرب لوفوف، ولكن ربما في مكان ما في فولينيا، أو على سفوح جبال كارباتيا. ورأى الولد أنه من الأسهل تصور علاقة بين غليسيريا والضفدع، ولكن ليس العفريت، وإن شئت الحقيقة هو لا يؤمن بالعفاريت. وكان والده يقول: "إنها مجرد خرافات". ولكن بالنسبة للضفدع، نعم: كانت بدينة وبدون شكل محدد، وتنورة المربية التي يعلوها مريولة تزيد من تشويه قامتها. ولو توجب عليها الجلوس بوضع القرفصاء على أرض المطبخ، ورفع رأسها بطريقة صحيحة - نعم، ستبدو مثل الضفدع.
تقدمت غليسيريا بالسن. وأصبح من الصعب عليها أن تؤدي واجباتها - أن تغسل، وتطبخ، وتكوي، وتنظف - فغادرت حينما بلغ ميجيتش سبع سنوات، وكان حينها قد بلغ سن الذهاب إلى المدرسة. وقتها قرر والده أنها بكل الأحوال لا تلزمه، ويمكن أن يحل محلها مدرسة داخلية. وما أن اتفق مع مدير المدرسة، السيد شومان، حتى وضعه بين يديه. ولسوء الحظ لم يمكث ميجيتش في هذه المؤسسة طويلا، والأسباب هي أصدقاء قال عنهم والده إنهم مدعاة لل "التحسس" و"عدم الانسجام"، وهو ما يعني للولد الإحساس بالمهانة وللوالد اليأس من فهم الوضع المخيب للأمل كليا. وثبتت صحة المقولة القديمة "لا يوجد شر لا يصاحبه الخير"، فمنذئذ تلقى ميجيتش تعليمه في المنزل على يد معلم متفرغ. وكلف المعلم الأول، ثم الثاني، وبعده الثالث، والده الكثير من الأموال والقلق، لأن المعلمين كانوا جنسا يصعب إرضاؤه في هذا الوجود - لا شيء يسعدهم، ودائما يجدون شيئا ليشتكوا منه.
جاء يوسف بعد غليسيريا. وكان بالعادة يحضر البيغوري والسمك المقلي الذي يشتريه من السوق. وأحيانا يرسل ميجيتش إلى القبو لإحضار البطاطا ومخلل الملفوف. وهذا كان واحدا من الواجبات "الهندية الشجاعة" التي سنها والده، وكان فوجنيتش الصغير يتلقى عليها الأوسمة. الهبوط إلى القبو يعني التغلب على الشعور بالذعر والهوان المفاجئ الذي يجعل أصبعه ترتعش وهو يشعل الشموع. كان القبو بشكل حرف ل، يقودك أولا نحو اليسار، ثم اليمين. كانت البطاطا ممددة في الظلام، في زاوية رطبة، ويحجزها سور من الألواح، وكانت على هيئة كومة تتناقص يوميا، وفي الربيع تنمو منها براعم بيضاء، بحثا بكل قوتها عن الضوء. وبجانبها تقف براميل مليئة بالملفوف ومخلل الخيار القزمي.
في إحدى المرات شاهد هناك فرخ ضفدع كبير، جالسا بلا حراك فوق البطاطا، حدق به بعينيه الجاحظتين الصفراوين. فصرخ وأسرع يصعد السلالم، ولكن رغم توسلاته وبكائه، طلب والده منه أن يعود إلى الأسفل. ولحسن الحظ لم يكن الضفدع هناك. بعد ذلك كلما ذهب إلى القبو، يكون الضفدع بالضرورة في ذهنه. وكلما فكر به يصبح في ذهنه هناك، ويبقى للأبد. وفكرة قتله، كما تخيل في البداية، بحمل حجرة كبيرة يأخذها من العالم المضيء إلى الأسفل، وإلقائها على الجسم الطري والمنتبج، كان يذكي فيه توترا غريبا، يسرع من نبضه. ولكنه كان يخاف من أن تكون عواقب هذه الجريمة أفظع. قتل الضفدع بحجرة قد يلوث البطاطا، وهو ما لا يمكن نسيانه. ومنذئذ كلما وضع يديه في برميل مخلل الخيار، يخاف أن يجد الضفدع وقد تسلل إلى هناك بمعجزة، وقد يمسكه بالصدفة طالما انسل بين المخلل، وتحول بقدراته العجيبة إلى شيء رطب ولزج. نعم، كانت هذه تجربة لتعلم الشجاعة - فهو لم يكسب أوسمته إلا بصعوبة.
في أيام الأحد ذهب الأب وابنه إلى مطعم في شارع تريبولانسكا، وتناولا غداء طقوسيا يتكون من الحساء، والطبق الأساسي، والحلوى - وتناول الأب شرابا كحوليا وقهوة - وأقنعا نفسيهما أن الإنسان يستطيع الحياة بدون نساء وطباخات ماهرات.
كانت شقتهما في شارع بانسكا في لوفوف أنيقة ومشمسة. فنوافذ غرفة الرسم وغرفة الطعام تشرف على الشارع، وهو صاخب جدا، لأن بلاط الشارع يحول كل حركة إلى زمجرة، على شاكلة الدق على الطبول. ولكن بعد عدة سنوات قليلة، اعتاد رأساهما على الضجة. وكان جانيواري يظن أن مأواهما هادئ تماما. وعندما بلغ ميجيتش الثالثة عشرة، انتسب إلى صالة رياضية ناطقة باللغة الألمانية، وموقعها في مركز البلدية. وكان مرتين في اليوم يمشي من البيت إلى المدرسة، ثم بالعكس. ويمر بدير برناردين، ثم يتأمل معروضات المتاجر في شارع تشفو وشارع شارنيتسكي. ثم يجتاز محطة الإطفاء، ويشعر بالاحترام العميق لهذه المؤسسة أكثر من الدير. وشاهد في عدة مناسبات رجال الإطفاء وهم يهرعون، إما للتدريب أو للاستجابة لحريق حقيقي، وتناغم هؤلاء الرجال النشيطين ببذاتهم كان دوما مبعث سرور له. وكانت التعليمات والصيحات والإشارات تذكره برقصات رآها في الريف، ولا سيما ضرب القدم على الأرض والحركات الجريئة التي تؤديها الأجسام البشرية. رجال الإطفاء يرقصون لهدف - يستجيبون لحريق، ولمنع الخراب أو الموت. وحركاتهم المتقنة تبلغ درجة مثالية، وهي بدون أي خطأ. وأي خطوة يبدأ بها أحدهم، ينهيها الآخر. ويتناقلون الخراطيم والدلاء، ويلبون النداء، ويقفزون إلى أعلى وأسفل، واحد - اثنان - ثلاثة، ثم يكون محرك السيارة جاهزا على الطريق. وجاهزا لمقاومة الخطر، فيجلسون بلا حراك على مقاعدهم مثل جنود حديديين. ويطلق أحدهم النفير، وبذلك يدور العالم كله حولهم ويكون في خدمتهم. وكان ميجيتش الصغير يخاف أن تظهر البثور من جراء الحرارة على جلده. عموما خلال ثانيتين فقط، يصبح محرك الإطفاء جاهزا للمعركة - ملفوفا بالخراطيم، ومزودا بالفؤوس، والعتلات، والسواطير، ومدعوما بالخوذ النحاسية البراقة - ثم تنطلق السيارة من البوابة المفتوحة إلى المدينة.
مر الصبي من بين ظل أشجار الحديقة القديمة فوق السور ووصل إلى المدرسة، وكانت تخيم على المدينة، معلقة في الأعالي، مثل كنيسة رقاد العذراء بأبراجها الثلاثة المواجهة لها. ويوجد في هذه الكنيسة - كان أحيانا يتلصص على داخلها - صورة ملاك تبعث السرور في نفسه. كان يسميه ملاكا بأربع أصابع، ولا يذكر اسمه وهو غابرييل، المكتوب بجانبه، لأن الطريقة التي رسم بها الفنان يده، تمتد بحركة للمباركة، فتبدو كأنها فقدت الإبهام، أما أصبع الخاتم فقد كانت قصيرة قليلا أيضا. شعر ميجيتش الصغير بشيء من الراحة الغريبة وهو يحدق بهذا العيب في مخلوق مثالي. وبفضل العيب الثانوي بدا الملاك أقرب له، وكأنه بشر. وكان يتحرك في الصورة، واقفا بثبات على أرض مخضرة، بثوب براق (نعم، كانت هناك دوائر مضيئة عليها)، وللملاك جناح واحد مرئي - ليس من الريش، مثل جناح الإوز، ولكن كأنه حياكة من مئات الحبات، ومبطن بلون أحمر، وكان يمسك قصبة ويبدو مشغولا، ومهموما على نحو ما. يشار إلى الملائكة ب "هو"، ولكن يبدو واضحا أن الملاك ذا الأصابع الأربع، مستثنى من هذه التصنيفات المباشرة، وله موضع مستقل، وجنس ملائكي خاص به، وجندر إلهي.
في صالة الرياضة تعلم ميجيتش الألمانية على يد ميجيسلاف باوم، وهو يهودي حسن الملامح وضخم، بقامة تشبه الفايكنغ. يضاف إلى ذلك أن التلاميذ في الحصص كانوا باستمرار يبذلون أفضل جهدهم لنطق الكلمات بحرص، كي يتكلموا الألمانية بأسلوب غوتة، وهو شيء ما دائما ما كان يعيدهم إلى غاليسيا ولهجتهم الرخيمة والرقيقة التي تشبه البولونية والييديش، وتبدو فيها الكلمات مسطحة قليلا كأنها خفافات منزلية قديمة - ويمكن للإنسان أن يشعر معها أنه بأمان وفي بيته. وينقسم زملاء ميجيتش إلى أربع حلقات: بولونيون ويهود وأوكرانيون وجماعة مختلطة من نمساويين، وروماني وهنغاريين اثنين، وثلاثة ألمان من ترانسلفانيا. وكان ميجيتش يقف على الحدود، كما لو أنه لا ينتمي إلى إحدى الجماعات هذه، ولم يكن العرق وحده يكفيه لتحديد مكانه في رقعة الكلمات المتقاطعة التي يشكلونها، والتي يتبدل فيها المنتصر القوي والتابع والمتفوق. كان يبدو أن بقية الأولاد صاخبون، وكان يخاف أن يدخل معهم بمشاحنات. ولم يكن يحتمل العنف، ولا كل تلك المشاحنات، والاشتباكات واللكمات. كان ودودا - وربما هذه كلمة كبيرة جدا - مع أناتول، ولقبه توليك، وكان والده، وهو يهودي بطبعه، وطبيب أسنان معروف. وكان للصبي بوضوح مواهب فنية، وأخلاق رقيقة تجذب إليه ميجيسلاف. أحيانا كان يسمح لتوليك بالبحث في علبة قلمه الرصاص الخشبي. كان توليك يرتب بحرص أقلام الرصاص بأصابعه الطويلة، ويلمس الرأس الرصاصي الأسود بأطراف أنامله، فيشعر ميجيتش برعشة سرور، تبدأ من جلدة رأسه وحتى كتفيه ثم العكس.
معا كانا زوجا غريبا. وكان والده يأمل أن يتعلم لعب الشطرنج ليحسن من عقل ميجيتش الضبابي وغير الواضح. وعموما الشطرنج مكانه البلاط، والإمبراطور نفسه أبدى ولعا عظيما به. فهو تسلية الرجال المتنعمين، ويتطلب الذكاء والتنبؤ.
وكان فوجنيتش الأكبر يعتقد أن نقل البيادق على رقعة الشطرنج واحترام القواعد، يسهل عليه التحكم بحياة ابنه ويجعل العالم أكثر أمانا له، إن لم يرحب به. ولذلك في كل يوم بعد الغداء، حينما يكونان في مرحلة هضم الطعام، وهدوء ما بعد الظهيرة، يجلسان حول الطاولة ويخرجان رقعة الشطرنج، ويسمح الأب لميجيسلاف أن يبدأ بأول حركة. وكلما أخطأ الولد، يأتي الأب إلى جانبه، ويقف وراءه، ويحاول توجيه الصبي عبر سلسلة من الأسباب والنتائج التي تحكم حركاته القادمة. وإذا قاومه ميجيتش، أو كان "بليدا"، يغضب الوالد، ويغادر الغرفة، ليدخن سيجارا، ويجلس ابنه أمام رقعة الشطرنج حتى يهتدي إلى فكرة دفاع أو هجوم مناسبة. فهم ميجيسلاف فوجنيتش الصغير القواعد وأمكنه التنبؤ بالكثير، لكن، إن شئت الحقيقة، لم يستمتع باللعب. تحريك الأحجار حسب القواعد واستهداف خصمه حتى يخسر كان بالنسبة له أسلوبا ممكنا للتحكم بالأحجار. ولكنه يحبذ أحلام اليقظة، وأن يرى رقعة الشطرنج كأنها فضاء يتحدد فيه مصير البيادق سيئة الحظ وسواها من أحجار اللعب. كان يتخيلها شخصيات، بينها علاقات، وشبكة معقدة من المصالح، وهنا إما أن تكون مع الآخر أو ضده. وكان يظن أنه هدر للطاقات أن توجه تفكيرك للسيطرة على الرقعة، وأن تترك البيادق تحت رحمة لعبة رسمية تلعبها حسب قوانين صارمة. ولذلك ما أن يفقد والده اهتمامه ويغادر لأجل مشاكل ضرورية، يضع ميجيتش أحجار الشطرنج على السجادة الممدودة، وعلى كومة المقاعد، وهناك يباشر العمل، والتخطيط للرحلات، وتجهيز المطابخ والبيوت والأماكن. ويصبح صحن رماد سجائر والده زورقا، وقاعدة القلم مجدافا، بينما تتحول المساحة تحت الكرسي إلى كاتدرائية، يزف فيها الملكتان، السوداء والبيضاء. وخلال تنافس شعب الشطرنج هذا يتماهى دائما مع الفارس، الذي يأتي بالأخبار، ويعقد الصلح بين المتخاصمين، ويرتب لوازم الرحلات، أو يحذر من المخاطر (مثل دخول يوسف، وتنظيف السجادة، أو الاستدعاء لوجبة الغداء).
ثم حينما يعنفه والده، أو يرسله إلى غرفته بدون عشاء على سبيل العقوبة، ينصرف بكبرياء الفرسان - خطوتان نحو الأمام وخطوة نحو الجانب. وكان ميجيتش يشغل نفسه في الرياضيات والكيمياء، وهذه إرادة والده، وباعتقاده كان والده أعلم منه. ولكنه كان مفتونا باللغة اللاتينية، ولو أمكنه سيهب معظم وقته لها. أعاره معلم اللاتينية، وهو السيد أمبورسكي الصغير والمضحك، بعض الكتب، وفضل ميجيتش منها "الحمار الذهبي" لأبوليوس. وكان بطبعة قديمة، ومن سلسلة بيبليوتيكا سكريبتوم غراكوروم إت رومانوروم - سلسلة تيوبنير للنصوص اللاتينية والرومانية"، ولكن تبين أن قراءته صعبة جدا على المبتدئ. وحالما فهم السيد الذكي أمبورسكي ذلك، أهداه نسخة ترجمها إلى الألمانية أوغست رود، وتقريبا حفظها ميجيتش عن ظهر قلب، واستمتع بالكتاب كلما فتحه. وأصبح الكتاب الوحيد الذي يحبه، ولم يترك شيء آخر انطباعا عظيما لديه مثله. وأغرم على نحو خاص بحكاية المتشرد غير المحظوظ الذي تحول إلى حمار. ووجد علاقة تربطه بلوقيوس، ولكنهما اختلفا بدرجة الشجاعة، والفكاهة، والفضول فيما يتعلق بشؤون العالم. كان لوقيوس البطل، ولكنه كان يبتسم بخبث وسخرية من بين صفحات الكتاب، ويتحدى حال بطله، مدركا لوضعه العبثي.
أراد ميجيتش أن يكون مثل لوقيوس فقط: ماكرا، مجاملا، ومعتدا بنفسه. وربما يقبل سذاجة لوقيوس، فقد ثبت أنها خصلة طيبة تقود دائما إلى أماكن يصعب توقعها، فتبلغ أعماق الحياة الواقعية، حيث يمكن أن يمر الإنسان بتحول مفاجئ أو عنيف. وحيث يمكن أن يتبدل المرء، ويصبح غير معروف، ولكنه يبقى في داخله نفس الشخص الحقيقي. ومن الواضح هناك وجود خارجي وداخلي. "الداخلي" يرتدي "الخارجي"، ثم يعرفه العالم بذلك الشكل. تساءل ميجيتش لماذا يشعر "الداخلي" أنه غير مرتاح في داخل "الخارجي"؟. مغامرات لوقيوس مثل محنة فظيعة، لأن خطر عدم إمكانية العودة أبدا لشكله كان دائما معلقا فوقه، ويهدده بالموت بصفة حمار، وعليه لن يمكن التعرف على طبيعته الحقيقية، ووجوده الداخلي!. تأثر ميجيتش بعمق بهذه الدراما، مع أنه طبعا لم يقر لأي أحد عنها. واضطراب لوقيوس من أحواله يبدو أخف من حال الصبي القارئ. بتقطيبة وجهه الساخر وتشاؤمه تغلغل لوقيوس سريعا في أفق عالم ميجيتش، بصفة حمار وإنسان معا، حتى أنه آمن أنه ذات يوم سيجد بستان وروده، وأن مسخه سيحصل بأمر من الآلهة القوية.
وكلما اقترب موعد مجيء العم إميل إلى لوفوف، تجري تحضيرات خاصة. يسرع يوسف إلى المتاجر ويعود دائما ببطة في السلة، ويساعده صبي من السوق بإحضار الخضار والتفاح - التفاح إجباري. كان أميل طويلا، وسيما، وشابا بشعر معتدل وبشارب ناعم يمنح شبابه جاذبية حسية ورجولة رقيقة.
تحيط سترته الزرقاء الرمادية بجذعه النحيف على نحو أنيق، وتمنح بشرته شحوبا صافيا. ولكن الأفضل - كما رأى ميجيتش - كان بنطلونه الأحمر المضموم في بوط ملمع جيدا ويصل حتى ركبتيه. كان أميل يأتي، ويدق كعبيه، ويشعل سيجارا فورا، والذي يبقيه والد الصبي معه. ويتلقى ميجيتش من عمه علبة كيك من الباتيسيري ومعها بعض اللوازم العسكرية أو غير ذلك: فوارغ رصاص، فتاحة ورق، أو علبة قصدير متهالكة. ثم يتوجب عليه الرد على أسئلة عمه، فيفعل ذلك بثقة تامة وإقناع ويبدي ما يختزنه من معارف: "يتكون فوج الفرسان من مجموعتين في كل منها فرقتان". أو "فرقة الفرسان تشمل ست جيوش". ثم يضيف أن كل فوج يضم فوجا خاصا من مدافع تجرها الجياد وأربع وحدات من الرشاشات. ومن هذه الرشاشات تأتي الفوارغ، ولكن ميجيتش غير متيقن ماذا يفعل بها. كان يحملها ببساطة في جيبه ويشعر بوزنها الذي يبعث فيه السرور.
وفي إحدى الليالي نهض ميجيتش ليتبول، وكان نصف نائم، فصادف عمه في الحمام. كان لإيميل رقعة فوق شاربه تقسم وجهه، وتسطح ملامحه وتجعل ملامحه الوسيمة غروتسكية المظهر ومضحكة، مثل وجه دمية. وكان سرواله عند كاحليه، ويكشف عن شعر ساقيه، والخيارة الصغيرة البنية المعلقة بينهما. وبدا لميجيتش نوعا ما أنه من غير المناسب لعسكري أن يحمل فاكهة ذابلة في سرواله.
في اليوم السابق لوصول إيميل، انتهى يوسف من التسوق، ثم هبط إلى القبو ليقطع رأس البطة، ثم طيلة بعد الظهيرة، كان الطائر يتدلى من ديكور معدني يعلو موقدا من الرخام، ورقبته نحو الأسفل فوق صحن، لينقط الدم فيه ببطء، قطرة فقطرة. وأدرك ميجيتش من ألمه وندمه السابق أنه لا يجب بأي حال أن يشفق على البطة التي أتى بها من السوق، وأن لا يأسف لنهايتها، لذلك أهمل عاطفته، وأحيانا كان صياحها المهين قبل الذبح، يدفعه ليسد أذنيه كي يتجنب رؤيتها خلال وجودها القصير في البيت. لكن النزف ونزع الريش والتعليق فوق الموقد ملأه باليأس، وتسبب له ببكاء وخضوع مشلول الإرادة، واضطره ذلك ليختفي من أمام والده، وعمه، وأيضا يوسف. فقد يقولون إنه ينوح كامرأة. والمنظر المريع لخثرة الدم الأحمر الداكن، والبني تقريبا، فوق الجذع، يضعه في جو غامض ومؤلم، يشعر خلاله بالخوف، وأيضا بالاستلاب، وبفتنة لا يمكن وصفها وتقترب من المتعة، ولكنها أقوى من قشر الجروح المندملة على ركبتيه، أو العبث بسن حليبي مشارف على السقوط. وكان يغلب على صدره أسف لا ينتهي بالبكاء أو الارتياح، من أي نوع، ولكن يتبخر فقط من الداخل، ويقيد رئتيه. ولذلك تشكلت بينه وبين البطة، مقطوعة الرأس، وكلما قطرت الدماء منها، علاقة غامضة، إحساس فيزيائي، ومشاعر بالدوار والضعف تأتي من عدم قدرته على الدفاع عن نفسه كليا. واكتملت دائرة الرعب بجماليات الريش، الدبقة بالدم، والذي يلمع بشكل مبهر في ضوء المطبخ، وبلون أزرق داكن وذهبي، بلون الحبر المخضر، أو فيروزي، أو أزرق ملتهب، ولكن كان ذلك يذكره بدقة بأجنحة ملاك ذي أربع أصابع. وهكذا أصبح موت البطة كفرا، وعدوانا على كل العالم. ولكن الأسوأ سيأتي. بمعونة من يوسف وكلما استعمل الدم والخل والخوخ والكرز المجفف، وأضاف فلفل جامايكا وورق الغار والعترة والفلفل لتحضير الجيرنينا - حساء دم البط - يتنبأ ميجيتش بالاضطرابات القادمة.
يوضع أمامه طبق من هذا الحساء، وكأنه اختبار لنضجه، وبحضور عمه، الضابط. ومع ذلك لا ينم محيا الأب وإميل أن هذا وضع استثنائي وخاص جدا. خلال ذلك يتبادلان الحديث، وبالعادة يكون عن التجارة أو السياسة، ناهيك عن خطط إميل للزواج - وهذا السؤال يبرز فقط أثناء الشراب. وحينها يجلس ميجيتش أمام طبق طعام بلون الشوكولاتة ويكون مليئا بحبات الدهن، وفوطته تحت ذقنه، وهو يشعر بالتوتر، ولا يقوى على منع تجمع لعابه في فمه، لأن حلقه المنقبض يرفض أن يبلع. ثم يرميه والده بنظرة عائمة، وكأنه محكوم عليه بالعذاب، يحمل ميجيتش ملعقته ويدسها في الوجبة اللزجة السوداء. وعند هذه اللحظة يتجول إميل بعينيه، قائلا مع تنهيدة، إن هذا أطيب طعام ذاقه في كل حياته. ويعبر يوسف عن الرضا تجاه هذا الثناء فيشرق وجهه الضبابي بالعادة، ولا يغادر المطبخ، ويتوقع المزيد من الثناء بوجوده. ويعلم ميجيتش أن عيون الرجلين ستلتفت إليه، فيناقش نفسه ضمنيا، موضحا لها أنه عليه أن يبدأ، ولا يسعه تخييب رجاء أقرب اثنين له، فهما يريدان له الأفضل، وعليه أن يكون رجلا حقيقيا يتحكم بنفسه، وهما يقدمان له هذا الطبق بسبب حبهما له. ثم تملأ الدموع مقلتيه، وترتفع إلى فمه الملعقة المرتجفة، وتسيل قطرات من الحساء، ولكنه يفتح فمه ويتلقى هذا العطاء. ويأمل على الدوام أن ذكريات طعم جيرنينا التي تخلفت لديه من الوجبات السابقة، غير صحيحة. والآن وفجأة ستدهشه بمذاقها الطيب. ومجددا يملأ فمه شيء فظيع، يتخلله نكهة الغار، والعترة ممزوجا بقشرة الزبدة، ومع ذلك يبقى مقرفا ومرفوضا. طعم لاذع، عنيف ومتوحش، حار، ويشق طريقه بين لسانه وخديه، بمذاق حلو وممرض. فينقبض حلقه، ويشعر بالحاجة ليتقيأ، غير أنه يسيطر على نفسه، ويتجاهلها، وهكذا بعد لحظة تردد، يدخل منسحبا في جسمه، ويختفي في أمعائه، ويتدفق دم الحيوان المغلي نحو معدته. ويتظاهر أبوه وعمه أنهما لا يراقبانه، ولكنه متيقن أنه اختبار. ودائما هما يتابعانه عن مقربة، وببرود وبزاوية عينيهما. وحينما يتناول ثاني ملعقة، ثم أخرى، يهدأ أبوه، ويبدأ بإطلاق النكات. وتملأ الدموع عيني الصبي، ويتجاهل ذلك، أيضا، ويجبرهما على الاختفاء في أعماقه.
ويقول والده بمرح: "هذا حساء بولوني تقليدي. فقط المغفل من لا يجربه. وسيمنحك المزيد من القوة".
ويبتسم عمه إميل، وأطراف شاربه المفتول تأخذ لونا أحمر داكنا. هذا شيء بسيط. يفكر ميجيتش وهو يبلع دموعه لتختلط مع دم الحيوان في جسمه الطفولي الصغير. أن تكون رجلا يعني أن تتمرن على تجاهل أسباب المشاكل. وهذا هو كل اللغز. ولكنه كان كما هو. ولا يسعه التحكم بذلك. فهو يفكر أنه طبيعي. وفي إحدى المرات حاول أن يوضح ذلك لوالده، ولم تسعفه الكلمات. ثم فكر بلغز كيك الخميرة وهو ينتفخ، أو بالحمامات التي تبيض بيضا حزينا على أطراف نافذة فارغة. صور حية تظهر أمام عينيه لبيت قديم في الريف، أو ثياب داخلية تجف في العلية في الشتاء، رغم المطر في الخارج، ثم تحملها غليسيريا من هناك في سلة. يمكنه رؤية العلية بوضوح، ودائما تكون مجللة بالغبار، ويكشف المشهد من نوافذها الضيقة، والمعروفة باسم - الدريئة، عن حقول وحديقة صغيرة، مع رائحة نفاذة من سيقان مكومة لبندورة متعفنة، وذرة حلوة، وبقوليات. وبفعل ظاهرة ليس لها تفسير يتبدل هذا الخيال إلى مشاعر مادية: خشونة القماشة، وصلابة الياقات، وزوايا السراويل المكوية مؤخرا، وقرصة حزام الجلد القاسي. وهي هناك. في العلية. وكلما أمكنه، وحين يكون منفردا بنفسه، وبعيدا عن متناول رقابة أبيه، يتعرى تماما. ويلف جسمه العاري بغطاء طاولة حريري له حواف مزركشة، ويشعر بالسعادة كلما احتك الغطاء بسمانتي ساقيه، وفخذيه، ويفكر كم هو رائع لو أمكن الناس أن يتجولوا بعباءات من أغطية الطاولات، مثل قدماء الإغريق.
***
...........................
- الترجمة من البولونية: أنتونيا لويد - جونز. وهي مقتطفات من رواية للكاتبة بعنوان: إمبيوزم. منشورة في النيويوركير. عدد 3 حزيران 2024.
- أولغا توكارشوك Olga Tokarczuk روائية بولونية تجريبية. حازت على نوبل في الآداب عام 2018. من أهم رواياتها "السفر"، "جر محراثك فوق عظام الموتى"، وغيرها.