ترجمات أدبية
بيت النهار وبيت الليل / ترجمة: صالح الرزوق
(فصل من رواية)
بقلم: أولغا توكارشوك
ترجمة: د. صالح الرزوق
***
(بيتك هو جسدك الأوسع. ينمو تحت الشمس، وينام في هدأة الليل. وهو غير محروم من الأحلام. ألا يحلم بيتك؟. هو يحلم، ويغادر المدينة من أجل بستان، أو ذروة هضبة؟).. جبران
***
خامر كريسيا التي تعمل في المصرف التعاوني في نوفا رودا حلم. كان ذلك في مطلع ربيع عام 1969. حلمت أنها سمعت أصواتا بأذنها اليسرى. أول الأمر كان صوت امرأة لم تتوقف عن الثرثرة، ولكن لم تتبين كريسيا ما هو الموضوع. شعرت بالقلق وهي تحلم. قالت لنفسها: ”كيف سأعمل إذا واصل أحدهم الطنين بأذني؟”. وتوقعت أنها قادرة على إسكات هذه الأصوات، كما نفعل حين نسكت المذياع أو نغلق سماعة الهاتف، ولكن لم يكن بوسعها ذلك. كان منبع الصوت متغلغلا في أذنها. في مكان ما من تلك القنوات الحلزونية الصغيرة. تلك المتاهات الناجمة عن المساحة المبلولة، في الكهف الأسود المحفور داخل رأسها. حاولت أن تسد أذنيها بأصابعها، وجاهدت أن تغطيهما بيديها، ولكن لم يمكنها أن تتدبر ذلك. وشعرت كأن كل العالم قادر على سماع تلك الضجة. وربما هذا هو كل الموضوع - جعل الصوت كل العالم يهتز. بعض العبارات تكررت إلى ما لا نهاية - كانت تامة قواعديا وتبدو كاملة، ولكن لم يكن لها معنى، فهي مجرد تقليد للسان البشر. خافت كريسيا منها. ثم بدأت تسمع صوتا مختلفا يصل إلى أذنها، صوت ذكوري واضح ويسعدها. قال: ”اسمي أموس”. وأسعدها أن تتكلم معه. سأل عن عملها، وعن صحة والديها، ولكن في الحقيقة - أو أنها تخيلت ذلك - لم يكن مضطرا لذلك، لأنه يعرف كل شيء عنها. سألته مترددة:”أين أنت؟”. أجابها: “في مارياند”. وسبق لها أن سمعت باسم هذه المنطقة وهي من وسط بولونيا. سألت: ”لماذا أسمع صوتك في أذني؟”. قال آموس:”أنت إنسانة غير عادية. وقد أغرمت بك. أنا أحبك”. وافى كريسيا نفس الحلم ثلاث أو أربع مرات، ودائما كانت النهاية نفسها.
في الصباح شربت قهوتها وهي محاصرة بأكوام من وثائق المصرف. وفي الخارج كان الجليد يتساقط ويذوب على الفور. اقتحمت الرطوبة مكاتب المصرف المدفأة بالتدفئة المركزية، وبللت المعاطف المعلقة، وحقائب الموظفين المصنوعة من الجلد المزيف، وأبواطهم الطويلة، وكذلك العملاء. ولكن في ذلك اليوم غير العادي أدركت كريسيا بوبوش رئيسة قسم الإيداع المصرفي أنه لأول مرة في حياتها كانت محبوبة تماما وبلا أي شروط. وكان هذا الاكتشاف يشبه صفعة قوية على الوجه. وجعل رأسها يدور. حتى أن مشهد صالة المصرف أصبحت باهتة، وكل ما أمكنها أن تسمعه هو الصمت. وفجأة غمرها هذا الحب، وشعرت أنها تشبه إبريقا جديدا، امتلأ لأول مرة بماء زلال. وفي نفس الوقت، كانت قهوتها قد بردت. في ذلك اليوم غادرت العمل باكرا وذهبت إلى البريد. حملت مجموعة دليل هاتف المدن الكبيرة في وسط بولونيا: سيرج، كونين، كيلتسي، رادوم، وشيستوشوفا، وهي مكان مادونا السوداء، مدينة مريم العذراء. فتحت كلا منها على الحرف أ ومرت بطرف أصبعها المصبوغ على عمود الأسماء. لم تجد آموس أو أموز لا في سيراج ولا كونين وهكذا. ولم تجده في القائمة القصيرة لأسماء البلدات المجاورة أيضا. وشعرت ما يمكن أن نقول عنه بأفضل حال الخزي. ولكنها تعلم أنه هناك في مكان ما. جلست هامدة لبعض الوقت، وذهنها فارغ تماما، ثم عادت تكرر المحاولة، من رادوم، تارنوف، لوبلين، ثم فوكافيك. وجدت ليديا أموشيفتش و أموسينسكيس. ثم عمدت وهي يائسة لتجريب تقاطعات جديدة: أموس، سوما، ماسو، سامو، أوماس، حتى استطاع أصبعها المصبوغ أن يكتشف الرمز السري - ها هو، أ. موس، 54 شارع سينكيفيتش، شيستوشوفا.
كانت كرسيا تعيش في الريف، ويوميا تحملها حافلة زرقاء قذرة إلى البلدة تزحف على منعطفات والتواءات الطريق مثل خنفساء الروث. في الشتاء، حينما يخيم الظلام باكرا، تكنس بعينيها البراقتين السفوح المتحجرة للجبل. كانت الحافلة نعمة - فهي تمنح الناس الفرصة ليتعرفوا على العالم الموجود وراء الجبال. وكل أنواع الرحلات تبدأ منه. تستغرق رحلة كريسيا للعمل عشرين دقيقة، منذ لحظة ركوب الحافلة من المحطة وحتى بلوغها أبواب المصرف الضخمة. وفي العشرين دقيقة يتبدل العالم ويفقد ما تعرفه. تتحول الغابة إلى بيوت، ومراعي الجبال تصبح ساحات المدينة، والمروج تتحول لشوارع، والجدول يصبح نهرا، ويكون له لون مختلف يوميا، لأنه ولسوء الحظ يتدفق من أمام معمل نسيج بلاشوبيت. وفي الحافلة تبدل كريسيا بوطها السميك بزوج أحذية خفيفة. فيقرع الكعب على ألواح سلالم البناء الألماني القديم. وكانت كريسيا أكثر بنات المصرف أناقة. تسرح شعرها بطراز حديث - وتلفه بعناية وتبيضه بحذر حتى جذوره. ويزيد ضوء الكهرباء الأبيض من بهائه. وتلقي رموشها المثقلة بالكحل ظلا ثقيلا على خديها الأسيلين. ويبرز طلاء شفتيها المصفر بخفاء شكل فمها. وبعد تقدمها بالعمر، لم تقلل من الماكياج، بل أكثرت منه. ولكنها مؤخرا أهابت بنفسها أن ’تتوقف’ فهذا يكفي. مع أنها كانت تخاف من أن مرور السنوات قد محا ملامحها. وحرم وجهها من وسامته. كانت تعتقد أن جفنيها على وشك التلاشي. وعينيها الزرقاوين تبهتان، وحدود شفتيها تضمحل. وكل وجهها أصبح ضبابيا، كما لو أنه يختفي. وهذا هو منبع خوف كريسيا على نحو ملحوظ. فوجهها سيختفي حتى قبل أن يكتمل نموه ويفرض نفسه فعلا.
حيما بلغت الثلاثين كان لا تزال في بيت والديها. كان البيت يقف في زقاق متعرج متفرع من الشارع الرئيسي، ويغلفه جو من التفاؤل، كأنه يأمل أن يمنحه موضعه دورا هاما بالتاريخ.، ولا سيما حين مرور مواكب الجيوش الزاحفة، ومغامرات صيادي الكنوز، أو حتى بمطاردة حرس الحدود للفارين من جمهورية الشيك. ولكن لا الطريق العام ولا البيت حظيا بحظ مهم. لم يحدث شيء أبدا. باستثناء أن الغابة المخيمة على البيت بدأت تعاني من الانحسار، مثل حاجبي كريسيا. تابع والدها قضم وقطع أشجار البتولا الصغيرة ليصنع منها الأعمدة والألواح، وكل عام كان يبتر الفروع لأجل شجرة عيد الميلاد. وفي نفس الوقت كانت المعابر خلال الأعشاب الغزيرة قد انمحت مثل خطوط فمها. وجدران بيتهم الزرقاء بلون السماء تابعت الانحدار والتآكل مثل عيني كريسيا.
في البيت كان لكريسيا أهمية. فهي تكسب النقود وتقوم بالتسوق. وتحمله إلى البيت بأكياس صنعتها لها أمها. وكان لديها غرفتها الخاصة في العلية. وفيها كنبة للنوم وخزانة. ولكنها لم تكن تشعر بنفسها في المصرف. فمكتبها مفصول عن صالة المصرف بحاجز خشبي لكنه رقيق مثل الورق المقوى. وحينما تجلس وراء طاولتها، يمكنها أن تسمع زئير المصرف. صرير الأبواب، أحذية المزارعين الثقيلة وهي تطرق الأرض الخشبية وهمهمة أصوات النساء وهن يتناقلن الإشاعات وقرقعة المحسبين المتبقيين والذين لم يتدبر المدير حتى الآن استبدالهما بآلات حاسبة حديثة لها أذرع وقبضات يصدر عنها صوت دوران فقط.
وفي الساعة العاشرة وهو التوقيت اليومي لشرب القهوة يبدأ الطقس، ويعلن عن نفسه بطقطقة ملاعق الشاي المصنوعة من الألومنيوم، وصوت الزجاج وهو يطرق قليلا بالمعادن - رنين معتاد في أرجاء المكتب. وكانت القهوة المطحونة مرتفعة الثمن تأتي من البيت بعلب المرملاد ويجري توزيعها بالتساوي على الزجاجات، وتشكل جديلة سميكة بنية على سطحها. ويظهر عليها الأثر الذي يحفره السكر لبعض الوقت. ثم تملأ رائحة القهوة المصرف حتى وتبلغ السقف، وينصرف المزارعون الواقفون بالطابور في انتظار الخدمة بسبب ساعة القهوة المقدسة.
بعد عطلة عيد الفصح تلقى المصرف نبأ عن دورة تدريبية للموظفين سوف تنعقد في شيكوسلوفاكيا. ورأت فيها كريسيا إشارة مؤكدة وقررت أن تشارك. وهي تحزم أمتعتها في حقيبة من الجلد غير الطبيعي، فكرت بالرب. ورغم كل ما يشاع عنه، كان دائما يأتي ويتدخل في اللحظة الحرجة. حملها إلى هناك قطار بطيء مليء بالبشر البائسين. لم تجد مقعدا شاغرا في العربة، فوقفت ملتصقة بنافذة متسخة في ممر ونامت وهي واقفة. انصرف شخص في منتصف الليل، وأمكنها أخيرا أن تجلس. فعصرت نفسها بين اثنين دافئين في هواء جاف وسقطت بنوم عميق لم تتخلله الأحلام. ولا حتى أشباح الأفكار الأخيرة. وحينما استيقظت انتبهت أنها تقوم برحلة، قبل ذلك كانت تعوم في مكانها وتبدل موضعها أحيانا. النوم وحده كان يضع حدا لما سلف ويفتح نافذة على ما يأتي - إنسان يموت وآخر يفيق. هذا الفضاء الأسود والأعجم الذي يتخلل الأيام هو رحلتها الحقيقية. ولحسن الحظ كل القطارات من نوفا رودا إلى العالم الواسع لا تتقدم إلا في الليل. وجاء في ذهنها أن كل شيء سيتبدل بعد هذه الرحلة.
وجدت نفسها في شيتسوشوفا قبل الفجر. والوقت أبكر من أن تذهب إلى أي مكان، لذلك طلبت الشاي في بار المحطة، ودفأت يديها على الزجاج. جلست على الطاولات المجاورة عجائز مدفونات بلفاحات كبيرة، ورجال يلفهم دخان التبغ. أزواج وآباء سحقتهم الحياة، بوجوه متجلدة مثل جزادين قديمة. وأولاد يجرفهم النوم، وأفواههم نصف المفتوحة تفرز خيوطا من اللعاب الرفيع. بعد ذلك تناولت كأسي شاي بالليمون وقهوة، حتى حل الفجر. وجدت طريقها إلى شارع سينكيفيتش، وتقدمت عبر منتصفه، فالسيارات لم تستيقظ بعد. نظرت إلى النوافذ وشاهدت الستائر المجعدة والسميكة والنباتات المطاطية وهي تتسلق الزجاج. في بعض البيوت كانت الأضواء تلمع قليلا. وفي هذه الإضاءة كان السكان يرتدون ملابسهم ، ويتناولون إفطارهم بسرعة، والنساء يجففن جواربهن على مدفأة الغاز أو يحضرن الشطائر للمدرسة، أما الأسرة كانت مرتبة، وتحجز دفء البشر من أجل الليلة القادمة، وهناك رائحة حليب محترق، وأربطة الأحذية تشد بمهارة في ثقوبها، والمذياع يلقي الأخبار التي لا يستمع لها أحد. ثم مرت بأول طابور خبز، وكل الطابور على رأسه الطير.
كان رقم 54 قي شارع سينكيفيتش بناء من شقق رمادية وكان كبير الحجم، مع متجر سمك في الطابق الأرضي وباحة عميقة كالوادي. وقف كريسيا أمامها، وتأملت النوافذ ببطء. يا إلهي. إنها عادية. وقفت هناك نصف ساعة. حتى انتهى شعورها بالبرد.
كان برنامج التدريبات مضجرا جدا. لعبت كريسيا بقلمها على دفتر الوظائف الذي اقتنته لتدوين الملاحظات. ابتهجت قليلا بلون غطاء طاولة المدير الأخضر. كانت تطرق عليها بذهن شارد. وبدا موظفو المصرف التعاوني متشابهين تماما بنظرها. النساء لهن قصة شعر شقراء وطلاء شفاه ساطع. والرجال ببذة زرقاء بحرية ومع حقائب من جلد الخنزير، كأن الجميع متفقون. واشترك الجميع بطرائف تخللت دخان السجائر. في الغداء تم تقديم الجبنة والخبز والشاي. وبعده ذهب الجميع إلى غرفة النادي، حيث يوجد فودكا ومخلل الخيار على الطاولات. أخرج أحدهم كؤوسا معدنية صغيرة من حقيبته. وتحسس أحدهم ساق امرأة ترتدي حتى الركبتين جوارب النايلون. ذهبت كريسيا إلى السرير مخمورة تماما. ولم تحضر شريكتاها في الغرفة حتى الفجر. وأسكتتا بعضهما البعض بهمسات مسموعة. وسار الروتين على هذا المنوال لثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع وقفت أمام باب بني يحمل لوحة خزفية دون عليها اسم “أ. موس”. نقرت على الباب. فتح الباب رجل طويل ونحيل بالبيجاما، وفي فمه سيجارة. عيناه سوداوان محمرتان. طرف بهما حينما سألته: ”أ. موس؟”.
قال: ”نعم. أ. موس”.
ابتسمت لأنها اعتقدت أنها عرفت صوته.
قالت: ”حسنا. أنا كريسيا”.
كررت: ”هذه أنا. أتيت”.
التفت الرجل وضحك. قال:”ولكن من أنت؟. هل أعرفك؟”. وضع يده على جبينه وقال وهو يفرقع بأصابعه في الهواء: ”طبعا. أنت… أنت”. فهمت كريسيا أنه لم يتعرف عليها. ولكن لا شيء غريب في ذلك. وفي النهاية عرفها بطريقة مختلفة، بالحلم، من الداخل، ليس بالطريقة التي يتعارف بها الناس.
قالت: ”سأشرح كل شيء. هل يمكن أن أدخل؟”.
تردد الرجل. وسقط رماد سيجارته على الأرض وهو يقودها إلى غرفة الجلوس. تخلت عن حذائها ودخلت. انتابته الدهشة وأفسح لها جانبا لتدخل إلى الردهة. كانت شقة صغيرة ومزدحمة، ويفيض عليها الضوء الأبيض، وهو ما جعلها تبدو مقبضة. مثل غرفة انتظار في محطة مواصلات. هناك علب مليئة بالكتب، وأكوام من الصحف وحقائب نصف ممتلئة وموزعة في أرجاء المكان. وجاء البخار يهب من باب الحمام المفتوح.
قال الرجل ليفسر هذه الفوضى: ”أنا أحزم أمتعتي كما ترين”. حرك أغطية السرير المكومة ونحاها عن الكنبة الجاهزة للنوم وحملها إلى غرفة أخرى. ثم عاد وجلس قبالتها. كشفت منامته الباهتة عن شريط من صدره العاري، كان نحيلا وعظميا.
سألته بعد تردد: ”هل تنتابك الأحلام أحيانا يا سيد أ. موس،” وأدركت مباشرة أنها ارتبكت غلطة. ضحك الرجل، وصفق بكفه على فخذه وقدم لها نظرة بدت لها ساخرة. وقال: ”حسنا. أبدا - شابة تأتي لتقابل رجلا غريبا وتسأله إن كان يحلم. هذا يشبه الحلم”.
قالت: ”ولكنني أعرفك”.
قال:”تعرفينني؟. وكيف حصل ذلك؟. فأنا لا أعرفك. ربما تقلبلنا في حفلة جاي. في وليمة لاتكا التي قدمها جاي”.
هزت رأسها بالنفي.
“كلا. أين إذا؟”.
“سيد أ. موس”.
قال: ”اسمي أندريا. أندريا موس”.
قالت: ”أنا كريسيا بوبوش”. وقف كلاهما. تبادلا شد الأيدي وجلسا مجددا بوضع غريب. قال بعد قليل: ”إذا…”.
” اسمي كريسيا بوبوش”.
“قلت ذلك”.
“أنا ابلغ ثلاثين عاما وأعمل في مصرف ولدي مكانة متقدمة فيه. وأعيش في نوفا…رودا - هل تعلم أين هي؟”.
“مكان قريب من كاتوفيتسة؟”.
“لا. لا. قرب وارسو”.
قال بصوت شارد:”آه. هل تريدين كأس بيرة؟”.
“لا. شكرا”.
” حسنا. أنا سأشرب”.
نهض وذهب إلى المطبخ. لاحظت كريسيا وجود آلة طابعة على الطاولة وفيها ورقة. وخطر لها فجأة أن ما يجب عليها أن تفعله وتقوله مدون عليها، نهضت لإلقاء نظرة، لكن أندريا موس عاد مع زجاجة بيرة.
قال: ”في الواقع توقعت أنك من شيستوشوفا. وحين كنت بعيدا عنك تخيلت أنني أعرفك”.
قالت كريسيا وهي تبتهج: ”حقا؟”.
قال: “حتى أنني توقعت..”. ولمعت عيناه. وتناول جرعة كبيرة من الزجاجة.
“ماذا؟”.
” أنت تعلمين كيف هو الأمر. لا تتذكرين كل شيء. ليس دائما. هل كان بيننا شيء ما؟ في حفلة…”.
قالت كريسيا بسرعة ولون أحمر يصبغها: ”كلا. لم اشاهدك من قبل”.
“ولكنك قلت إنك تعرفينني؟”.
“نعم. أعرفك. لكن من صوتك فقط”.
“صوتي؟. يا إلهي. ماذا تريدين فعلا؟. لا بد أنني أحلم. بنت تأتي وتصر أنها تعرفني، ولكنها تراني أول مرة في حياتها. وهي تعرف صوتي فقط…”.
فجأة تجمد والزجاجة بين يديه وعيناه تنسكبان على كريسيا.
قال: ”الآن أظن أنك من الشرطة السرية. وأنت تعرفين صوتي لأنك تراقبين هاتفي، صحيح؟”.
“كلا. أنا موظفة في مصرف”.
“حسنا. حسنا. ولكن الآن معي جواز سفري وأنا مزمع على السفر. سأسافر. هل فهمت؟. إلى العالم الحر. وأنا أحزم أمتعتي كما ترين. انتهى كل شيء. ولا يمكنكم أن تلحقوا بي أي ضرر الآن”.
“من فضلك لا…”.
“ماذا تريدين؟”.
“حلمت بك. واهتديت إليك عن طريق دليل الهاتف”.
أشعل الرجل سيجارة ووقف. وبدأ يذرع الغرفة المزدحمة. أخرجت كريسيا هويتها الشخصية من حقيبتها ووضعتها على الطاولة.
قالت: ”ألق نظرة من فضلك. أنا لست من الشرطة السرية”.
مال على الطاولة وأخذ نظرة.
قال: ”هذا لا يبرهن أي شيء. أنت لا تكتبين في هوية شخصية أنك من الشرطة السرية. أليس كذلك؟”.
“ماذا يجب أن أفعل لتقتنع؟”.
وقف أمامها وهو يدخن سيجارته.
“هل تلاحظين؟ تأخر الوقت. وأنا بطريقي للمغادرة. ولدي موعد. ثم أنا أحزم أمتعتي. ولدي أشياء ضرورية يجب أن أنتهي منها”.
استعادت كريسيا هويتها من الطاولة وأودعتها في حقيبتها. وشعرت بانقباض في بلعومها.
“سأنصرف إذا”.
لم يحتج. ورافقها إلى الباب.
وقال: ”حلمت بي إذا؟”.
قالت: ”نعم”. وارتدت حذاءها.
“وعثرت علي عن طريق دليل الهواتف؟”.
وافقت بحركة من رأسها.
وقالت: ”وداعا. آسفة”.
“رافقتك السلامة”.
أسرعت لتهبط على السلالم حتى وجدت نفسها في الشارع، وتابعت مع المنحدر حتى بلغت المحطة وهي تبكي. سالت كحلتها وأغلقت عينيها، وحولت العالم لضباب ملون مبهر. في مكتب التذاكر علمت أن آخر قطار إلى وارسو غادر للتو. التالي في الصباح. ذهبت إلى بار المحطة وطلبت الشاي. كان ذهنها فارغا، وهي تجلس وتنظر إلى شريحة ليمون تطفو ببلادة في الكأس. وهب من رصيف المحطة رطوبة ليلية كالضباب وعصفت بصالة المحطة. وخطر لها أنه لا يوجد سبب لتكفر بأحلامها، فهي دائما ذات معنى، ولا تخطئ - ولكن العالم الواقعي هو الذي لا يستطيع أن يفهم أحلامها. ودليل الهاتف يكذب، والقطار يذهب باتجاه خاطئ، والحروف التي تصنع أسماء المدن تتزحزح من أمكنتها وتندمج، حتى البشر ينسون أسماءهم. الأحلام وحدها حقيقية. واعتقدت أنه بمقدورها أن تسمع ذلك الصوت الدافئ المشحون بالحب في أذنها اليسرى مجددا يقول: “خابرت استعلامات المسافرين. آخر قطار إلى نوفا رودا غادر فعلا”. كان هذا أندريا موس. قال ذلك وجلس على طاولتها. ورسم صليبا صغيرا على غطاء الطاولة المبلول وقال: ”زينتك تسيل على وجهك”.
أخرجت منديلا، وبللت زاويته بلعابها ونظفت جفنيها.
قال: ”إذا كنت تحلمين بي؟ شرف عظيم أن يحلم بي إنسانة مثلك ولا أعرفها، وتعيش في مدينة موجودة في الطرف الآخر من البلاد… ماذا جرى في الحلم؟”.
“لا شيء. كلمتني فقط”.
“ماذا قلت لك؟”.
” أنني غير عادية وأنت تحبني”.
فرقع بأصابعه وأخذ نظرة عميقة من السقف. وقال:”يا لها من طريقة جنونية لاختيار رجل! أرفع قبعتي لك”.
لم ترد. تابعت شرب الشاي.
قالت أخيرا: ”أتمنى لو أنني في البيت”.
“هيا بنا إلى بيتي. لدي سرير إضافي”.
“كلا. سأنتظر هنا”.
“كما تشائين”.
ذهب إلى البوفيه وحصل لنفسه على كوب بيرة.
“لا أعتقد أنك أ. موس، أقصد لست من حلمت به. ربما أخطأت. ربما هو في مدينة أخرى، وليس في شيستوشوفا”.
“ربما”.
“يجب أن أبحث مجددا”.
وضع الرجل كوبه من يده على الطاولة بعنف وسالت البيرة من الكأس.
قال: ”يؤسفني أنني لن أعرف النتيجة”.
“ولكن لك نفس الصوت”.
“هيا بنا إلى بيتي. يمكنك أن تنامي الليلة في سرير، وليس على طاولة في بار”.
أمكنه أن يلاحظ أنها تتداعى. وبلا الكحل الرهيب تبدو أصغر بالعمر، وأبعد عن الريف.
كرر كلامه: ”هيا بنا”. فوقفت دون كلام. حمل حقائبها وتسلقا المنحدر صعودا. كان شارع سينكيفيتش مهجورا الآن. سألها وهو يمهد لها الكنبة الشبيهة بالسرير في الغرفة الأساسية: ”وماذا رأيت غير ذلك في الحلم؟”.
“لا أريد أن أتطرق له أكثر. هذا لا يهم”.
“هل نشرب البيرة؟. أو بعض الفودكا لنختم ليلتنا؟ هل تمانعين أن أبتهج قليلا؟”.
وافقت. اختفى في المطبخ، وبعد دقيقة من التردد ذهبت إلى الآلة الطابعة. وحتى قبل أن تقرأ عنوان القصيدة المدونة بدأ قلبها يقرع. كان يقول:”ليلة في مارياند”. وقفت فوق الآلة الطابعة كما لو أنها عمود مغروس هناك. وراءها قعقعة تأتي من المطبخ. هل كان أموس الذي حلمت به حقيقة، ويعيش في جلد إنسان نحيل بعينين محمرتين، وهو شخص يعرف كل شيء ويفهم كل شيء، ويتسلل إلى أحلام الآخرين، ليبذر الحب والقلق، شخص نحى العالم جانبا كما لو أنه ستارة تخفي وراءها حقيقة مغوية ومختلفة. ارتعشت أصابعها وهي تلمس المفاتيح.
قال من ورائها: ”أنا شاعر. ونشرت مجموعة صغيرة”.
لم يمكنها الالتفات إلى الخلف.
“اجلسي. لا شيء يهم بعد الآن لأنني سأرحل إلى العالم الحر. أعطيني عنوانك لأكتب لك”.
أمكنها سماع صوته في أذنها اليسرى، من ورائها مباشرة.
“هل أعجبتك؟ هل تقرأين الشعر؟ هذه مسودة، ولم أنته منها بعد. هل أعجبتك؟”.
سمحت لرأسها أن يتهدل. كان الدم يجري في أذنيها. لامس ذراعها بلطف.
سألها: ”ما الأمر؟”.
التفتت لتواجهه، ولاحظت عينيه مثبتتين عليها بفضول. أمكنها أن تشم عطره - وهو خليط من رائحة السيجارة والغبار والورق . انجذبت للعطر، ووقفا دون حراك لعدة دقائق. ولبعض الوقت أبعد يديه عنها، ثم لوح بهما، ثم عاد ليربت على ظهرها بهما.
همست: ”هذا أنت. لقد وجدتك”.
لمس خدها وقبلها. تخلل شعرها المصبوغ بأصابعه وضغط بشفتيه على شفتيها. ثم جرها إلى سرير الكنبة وبدأ يخلصها من ثيابها. لم ترغب بذلك، كان مفاجئا جدا، ولن تستمتع به، ولكن يجب أن يتم. مثل تضحية. عليها أن تسمح له بأي شيء، فخرجت من ثيابها، ثم بلوزتها، ومن حزامها وحمالة ثدييها. وطاف قفصها الصدري الرقيق أمام عينيها، جافا وبشكل مثلثات كالحجارة.
سألها بهمسات متسارعة: ”كيف سمعت صوتي في الحلم؟”.
“همست في أذني”.
“اليسرى. هنا؟”. سألها وهو يدس لسانه في أذنها.
أغلقت جفنيها بقوة. لم يعد بمقدورها أن تهرب منه. تأخر الوقت. كان يثبتها بالأسفل بكل قوة جسمه. ويلمسها ويلج فيها، ويثقبها. ولكن كانت تعلم أن هذا يجب أن يحصل، وأنه عليها أن تمنح آموس حقه أولا، قبل أن تتمكن من الاستيلاء عليه وزراعته أمام بيتها مثل شجرة عملاقة. ولذلك استسلمت للجسم الغريب، حتى أنها احتضنته بقوة، والتحمت بالرقصة العبثية وإيقاعها.
قال لها الرجل بعد ذلك: ”بصحتك”. وأشعل سيجارة.
ارتدت كريسيا ثيابها وجلست بجواره. سكب فودكا في كأسين صغيرين.
سألها وهو ينظر بسرعة إليها ويشرب الفودكا: ”كيف كان الأمر معك؟”.
ردت: ”رائع”.
“هيا بنا يجب أن ننام قليلا”.
“حالا؟”.
“أمامك قطار يجب أن تلحقي به في الغد”.
“أعلم”.
“الأفضل أن أضبط المنبه”.
دفع أ. موس نفسه إلى الحمام. وجلست كريسيا بلا حراك تنظر في أرجاء معبد آموس. كانت الجدران ذات طلاء برتقالي، ولكن الضوء الأبيض البارد جعلها تبدو ذات ظل ضبابي أزرق. وانفصلت قطعة من القماش الخشن عن الجدار وسمحت لها برؤية اللون البرتقالي الناصع. كان يبدو أنه يلمع حتى أعمى عينيها. وتدلت ستارة مع دخان سجائر على النافذة. ووجدت على يمينها طاولة مهجورة وفوقها آلة طابعة مكتوب بها “ليلة في مارياند”.
سألته حال عودته: ”لماذا وقعت بالغرام معي؟. ماذا يجعلني مختلفة عن الآخرين؟.
“كرامة لله. أنت مضعضعة”.
“ماذا يعني أنني مضعضعة؟”.
“أنت حمقاء. لست في مكاتك”.
صب لنفسه جرعة فودكا وابتلعها دفعة واحدة.
وتابع: ”أتيت من نصف بولونيا لتقابلي إنسانا غريبا. ورويت له حلمك وذهبت معه إلى الفراش. ببساطة. ثم تقولين إنه أحمق”.
“لماذا تكذب ولا تعترف أنك آموس وأنك تعرف كل شيء عني”.
“ولكنني لست آموس. واسمي أندريا موس”.
“ماذا عن مارياند؟”.
“أي مارياند؟”.
“ليلة في مارياند. ما هي مارياند؟”.
ضحك وجلس على الكرسي بقربها.
“حانة في السوق. وكل المحليين من محبي الشراب يشربون فيها. كتبت عنها قصيدة. أعلم أنها رديئة. ولكن كتبت ما هو أفضل منها”.
حدقت به بعدم تصديق.
تخللت رحلة العودة أصوات ارتطام الأبواب وهي تغلق - باب قطار الليل أغلق بصوت فرقعة، وكذلك أبواب المقصورات، ومرحاض المحطة والحافلات. وأخيرا باب البيت الأمامي أغلق بفرقعة مجوفة وراءها. ألقت كريسيا حقيبتها وذهبت إلى السرير. ونامت طيلة يومها. وحينما دعتها أمها القلقة للهبوط من أجل الغداء في المساء كانت قد نسيت كل شيء عن رحلتها. النوم محا كامل الرحلة. وبعد عدة ليال سمعت الصوت المألوف يهمس في أذنها: ”هذا أنا. آموس. أين أنت؟”.
“كيف لا تعلم أين أنا؟”.
أجاب: ”ولكنني لا أعلم”.
سألته: ”ألم تتنقل معي؟”.
صمت الصوت. وشعرت كريسيا أن هذا الصمت يعبر عن بعض الارتباك. ثم قال همسا في أذنها بعد قليل: ”لا تبتعدي عني بعد الآن”. سألته بسخط: ”ماذا يعني لا تبتعدي”. ربما أخافه نبرتها، لأنها لم توضح، وتوجب على كريسيا أن تستعيد رشدها وتستيقظ.
بعد رحلة شيستوشوفا اختلف كل شيء. جفت شوارع نوفا رودا وأغرقها ضوء الشمس. وضعت البنات باقات من الفورسيثيا على طاولاتهن. وبدأ طلاء أظافر كريسيا يتقشر. وجفت جذورها وأعتم لون شعرها الأشقر وأطرفه المتساوية استطالت حتى وصلت كتفيها. في الظهيرة انفتحت نافذة كبيرة في صالة المصرف، وسمحت لضوضاء الشارع بالقدوم - أصوات الأولاد، وضجيج تيار السيارات المارة، وقرقعة سريعة لكعب الحذاء النسائي الرفيع، وحفيف أجنحة اليمامات. وكان يسعدها مبارحة مكان عملها. وكانت الشوارع الضيقة تدعوك للدخول فيها، وأن تنظر لوجوه الناس وأن تتذكر لوحة مشهد باحة في إحدى اللوحات. والمقاهي كانت ترحب وتهيب بك أن تدخل، وقد ملأ دخانها المساحات التي تمتلئ بنظرات متطفلة وحوارات كسولة. والأفضل أنها وفرت لك العبير المعروف للقهوة وهي تغلي في أكواب وأصوات طرطقة الملاعق المعدنية.
ذهبت كريسيا في أيار لترى العراف وتسأله عن مستقبلها. قرأ العراف برجها، ثم أنفق وقتا طويلا وهو يفكر بعينين مغمضتين.
سألها: ”ماذا تودين أن تعرفي؟”.
قالت: ”ماذا سيجري لي؟”. لا بد أنه قادر على رؤية مسافات بعيدة تحت جفنيها، لأن عينيه تحركتا من اليسار إلى اليمين كأنه يستكشف المساحات المنبسطة في داخلها.
أشعلت كريسيا سيجارة وانتظرت. شاهد العراف وديانا من الرماد الفضي، مع بقايا مدن وقرى. كان المشهد ساكنا سكون الموت. ويزيد ضبابيته من لحظة إلى لحظة. كانت السماء برتقالية، ومنخفضة ورقيقة كالنايلون. لا شيء يتحرك، ولا أي نفحة ريح، ولا نسمة حياة. وظهرت الأشجار كأعمدة حجرية، كأنها متجمدة مثل منظر زوجة لوط. واعتقد أنه يسمعهم يضحكون بنعومة. لم يجد كريسيا في هذا المشهد، ولا هو كان هناك، ولا أي شخص آخر. ولم يعرف ماذا يقول. ولكنه شعر بدفقة من الخوف في معدته حينما اعتقد أنه عليه الآن أن يكذب ويخترع لها شيئا ما.
قال:”لا أحد يموت حتى الأبد. وستعود روحك مجددا عديد المرات، حتى تجد ما تبحث عنه”. ثم التقط نفسا عميقا وأضاف: ”ستزوجين وتلدين طفلا. وسيقع في براثن المرض، وستعتنين به. وسيكون زوجك أكبر منك بالعمر، وسيتركك أرملة. وسينفصل ابنك عنك، ويبتعد، ويعبر المحيطات. وستهرمين جدا حتى تموتي. ولن يسبب الموت لك أي ألم”.
هذا كل شيء. انصرفت كريسيا بهدوء، لأنها تعرف ذلك من قبل. أنفقت نقودها بصعوبة. كان بمقدورها شراء بلوزة بوكليه خضراء كالصفصاف من النوع الذي يأتي برزم من الخارج. وفي الليل سمعت صوت أموس مجددا. قال: ”أحبك. أنت إنسانة غير عادية”.
في نومها اعتقدت أنها تعرف هذا الصوت. وتأكد لها أنها تعرف من هو المتكلم، وسقطت بالنوم مبتهجة. ولكن كما يجري في الأحلام وأنصاف الأحلام، ذاب كل شيء في الص باح من ذهنها وبقيت دون أي شيء باستثناء انطباع سطحي عن هوية المتكلم. ودون أن تتيقن من هو، وكان هذا كل شيء.
***
........................
ترجمها عن البولونية أنتونيا لويد حونز. نشرت لأول مرة في مجلة غرانتا.
* أولغا توكارشوك Olga Tokarczuk كاتبة بولونية. حائزة على نوبل للآداب. من أهم أعمالها رواية: سفريات جوية، جر محراثك على عظام الموتى، وغيرها..