ترجمات أدبية

لينيا رودريغز: صديقتي المفضلة كلبة بول دوغ فرنسية

بقلم: لينيا رودريغز إغلسياس

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

فكرة الكتاب الأولية كما وضعتها الكاتبة - وهي ليست أنا، أنا فقط حيوانتها المدللة وأداة إلهامها - هو كتابة خمس عشرة قصة، كلها بضمير المتكلم، ليشعر القارئ بقربه من النص. وكلها تنبع مني وتدور حولي.  وحتى الآن تتطور الأحداث بشكل مناسب، وهذا آخر نص، وهو الخامس عشر، ولكن لا يوجد أي أثر مني في أي جزء منه. أعني أنه لا يوجد أي أثر من وجودي الحقيقي والمحسوس والواضح، وهو وحده الذي يبرر عنوان الكتاب. باستثناء حضور محسوس في عبارات رقيقة تجد مكانا لها بين القصص. ولأكون صادقة معكم لا أراها قصصا مسلية. أما الجمل اللماحة التي تأتي بها وتكتبها طيلة الوقت فهي موجودة في صفحتها على الفيس بوك ويبدي الناس إعجابهم بها. ربما يتوجب عليها المزيد من التركيز. رأيتها تكتب كل الوقت ولا تنام، ربما نامت ثلاث ساعات متواصلة، وكنت أسأل نفسي ماذا تكتب. وكانت منغمسة بثلاث كتب في نفس الوقت، كانت تبدأ مشروعا في أحد الأيام، ثم تنتقل إلى غيره وتبدأ به، ولا تتوقف حتى ينتهي كلاهما. وهذا مجهد، ويحتاج لشخص موهوب وذكي. ولا أعلم إن كانت هذه الصفات تنطبق عليها.

مثلا في ذلك اليوم نهضت من كرسيها وبدأت بإعداد القهوة. نظرت لي بطرف عينها وقالت:"هل يحب أن نصل إلى هذه المرحلة، وأوبخك، وأصرخ عليك، وأضربك في عينيك بالصندل؟". وكل هذا لأنني أسرعت إلى السرير، وقفزت عليه، وقبضت على أقرب شيء من حافته - وكان زوجا من الجوارب وحمالة صدر "فور إيفر 21" - وبدأت أمضغها وأهزها وألهو بها حتى تحول كل شيء إلى مزق سود. ولم أكن أعلم هل ستقبل مني ذلك أم لا.

وما قلته عن الصندل والضرب في العينين كلام مجازي. كانت تدربني وتجبرني على طاعتها بطرق الصندل على الأرض، وهذا شيء يفزعني جدا، وإذا شئت الحقيقة يدعوني للتمسك بالحكمة. وكانت تعنفني وتوبخني، وأحيانا إذا انتبهت وهي بمنتصف تعنيفها وتوبيخها أنني جميلة تحضن رأسي وتضغط عليه بعاطفة جياشة. وأخبرت الجميع أنني ضفجاج. والكلمة هي محصل دمج كلمة ضفدع ودجاجة. وتقول إنني بدينة مثل ضفدع ولي عينان كعيون الدجاج، كل عين على طرف من الوجه، وكأنني لا أستطيع النظر إلى الأمام، ولكن للجوانب. وقالت أيضا إنني سمكة. وقدمتني للزوار بصوت مرتفع:"انظروا. سمكة" فانهال أصدقاؤها على الضفجاج   وعلى السمكة التي هي أنا بالقبلات. وتوقفت عن تناول الطعام لأنها تفتقد لشخص والدي. وكلمة والد من اختراعها. وأنا سعيدة لأنها كلما قللت طعامها تكتب أكثر. ولكن حين تبدأ بالأكل لا تكتب. وإذا باشرت بالقراءة لا تكتب. وعليها أن تكون مسترخية تماما ودون مشاغل وهستيرية لتقدم في النهاية نصا مدهشا فعلا.  هكذا تكتب أفضل ما لديها. حين تكون بحالة يأس مطبق. فأنا الوحيدة التي تأنس لها، وأنا متفهمة ومرتاحة لذلك. وكانت تتخلص من ثيابها وتستحم وتستلقي على طرف السرير فألعق ذراعها حتى توبخني. وهي شهية حين يكون جلدها مبلولا. يكون طعمها كالصابون والمواد المطرية. فهي تستعمل المطري الذي له طعم الفواكه المجففة. وأحب ذلك. أحبه. أحبه.

نهضت وباشرت بالكتابة عارية وفجأة ضغطت على زر الصوت، وغادرت الكرسي وحملتني وبدأنا نرقص معا رقصة "لا بيليروبينا" أو أي أغنية غيرها لخوان لويس غويرا أو ريتا إنديانا أو سواهما. وهي معزوفات خاصة بحفلات نقيمها كلانا فقط. وها هي الحفلة تبدأ الآن وهنا. وحينما يكون هذا الشخص الذي هو والدي موجودا في البيت أيا كانت هويته تراقصه هو فقط. ونكون ثلاثتنا عراة وأنا عارية دائما. فأجري بجنون في غرفة المعيشة وأعتقد أن هذا هو الرقص. الجري والرقص شيء واحد بنظري. وحينما ترقص مع والدي يتعانقان بقوة وتقريبا لا يمكنها أداء الرقصة. وهي تحن لوالدي وأنا كذلك، ولكن حاليا أنا ما تبقى لها. وهذا بحد ذاته أمر طيب. فأنا مصدر إلهامها ولذلك سأكون البطلة الوحيدة في كتبها. وسيسمع بي كل العالم ويتعرف علي.

طبخت حساء الجزر والفجل والفاصولياء وتناولناه معا، وبما أنها مهووسة بالتكرار قطعت خمسا وعشرين شريحة جزر وخمسا وعشرين فجلة وخمسة وعشرين قرن فاصولياء. حساء، لا شيئ يشبهه في العالم ويتكون من خمس وسبعين قطعة خضار.  وقدمت لي كمية منه مع وجبة الأرز والبطاطا الحلوة اليومية.

مرة واحدة فقط أصابتني لحمة ديك الحبش المفرومة بالتسمم، وتوقفت عن هدر نقودها عليه بعدئذ، حتى أنها لم تعد تأكل منه. جحظت عيناي وأصابني التحسس. صاحت:"النجدة. تحولت إلى سمكة". وانخرطت بالبكاء، واتصلت بصديقة على الهاتف ودست حبة في فمي لأنني لم أقبل بابتلاعها.  بعد فترة شعرت بالتحسن وعادت عيناي لطبيعتهما، عينا ضفدع، كبيرتان وخضراوان ورقيقتان.

وإذا فكرت بأولاد فهذا من أجلي فقط، لتسكب كل أمومتها على الطفل الجديد. وستجعل الطفل بطل كتبها وشعرها، وستصحبه إلى الأمسيات الأدبية والأفلام والمسرح، بنفس الطريقة التي تتبعها معي الآن - فهي تصحبني إلى كل مكان وينظر إليها الآخرون كما لو أنها حمقاء تعاني من عقدة الأمومة المرضية. وأسفت لها صديقاتها لأنها تعيش في شقة مستأجرة كلفتها باهظة وعلى ساق وذراع. وربما ما هو أغلى - ثروة تساوي قيمة عينها. أنا أيضا كلفتها ثروة تقدر بثمن عين، وإذا نظرتم إلى الموضوع بهذه الطريقة ستكون مؤلفة هذا الكتاب أوديبة مؤنثة. وأنا أذكر أوديب لأنني أعلم أن الكلام عن المسرح يعزيها ويسعدها. أي شيء له علاقة بالمسرح يعزيها ويسعدها. والشخص المفروض أنه أبي يعمل بالمسرح وكل ما له علاقة بأجوائه. بلغت قيمتي ما يعادل خمس شهور إيجار. وكانت عائدة للتو من مهرجان الشعر في ميامي بقليل من المردود المالي، ومرت فترة طيبة قبل أن نعود للوضع السيء. ولكنها بعد ذلك شعرت بالحالة وكأنها نوبة طارئة، وقررت أن الشيء الوحيد الذي يفرحها هو كلب غراي هاوند إيطالي حديث الولادة أو كلبة بول دوغ فرنسية حديثة الولادة.

وهذا هو سبب وجودي في هذه القصة التي تدور حولي وحولها. ولا علم لأحد بذلك، لا عائلتها، ولا صديقاتها، ولا أعدائها. وأعتقد أنه بعد نشر الكتاب سيكتشف الجميع ما جرى ويفغرون أفواههم علامة على الدهشة.

وأعلم أنه على هذا النص، وهو الأخير، أن يكون شاملا ومؤثرا، وينتهي بمحنة مع رأي نقدي، وهذا ما يحصل تقريبا في كل الكتب وكل الأفلام والمسرحيات،  الدقائق الأخيرة   تفيض على القارئ. ولكن ليس هذا هو الحال هنا، فهذا نص غايته التوضيح. وأود أن أعلق به على أحاسيسي عن الحياة البشرية. مع أنه لا يليق أن أراقب سيدتي وهي تتعامل مع صديقاتها. ولكن يمكنني أن أحدد الصديقة الطيبة القادمة بزيارة، ويمكنني أن أحدد من هي صديقة فقط، أو إذا كانت الزائرة لا تعنيها ولو بالحد الأدنى، أو أنها شخص لا تحتمله أبدا. ويمكن أن أحدد من تنتمي إلى العائلة ومن ليس منها. وأفضل صديقاتها هن عائلتها.

وتحتاج لوقت طويل لقراءة كتاب مضجر، وأحيانا تستمع لصوتها الداخلي وتترك تلك الكتب وهي بمنتصفها  ولا تنهيها.  وتقرأ الكتاب الذي يعجبها بسرعة فائقة. بغضون ساعات. ولكنها لا تنسى أن تطعمني، وتقدم لي الماء، وتشطف بولي.

في البداية كانت تجفف بولي بممسحة قماشية تغسلها وتعصرها. ثم علمها الشخص الذي هو والدي سحر الصحف، وبعد ذلك لم تكلف نفسها متاعب الغسل والعصر. ووفرت على نفسها العمل والتنظيف والوقت.

وبعد أن غادر الشخص الذي هو أبي شعرت بزيادة ارتباطها معي. رأيتها تبكي فاقتربت منها ولعقت بشرتها بنعومة فنظرت لي وشكرتني. وقالت:"حبيبتي، سمكتي، سمكتي الصغيرة". وزاد ذلك من حاجتها للبكاء فبدأت أعوي وألعقها. رددت:"حبيبتي. سمكتي. يا سمكتي الصغيرة". واستمر المشهد على هذا المنوال حتى جففت دموعها وقالت:"يكفي". أحيانا كانت تقسو علي وعلى نفسها. وتكون صارمة أثناء الكتابة، وتنتقم بالكتابة من المنغصات التي تواجهها. ليس مثل سواها من الكتاب والفنانين، الذين ينتقمون لأنفسهم بطرق متباينة. وإذا توفر لها شيء طيب لتأكله، تترك لي نصفه.

وإذا نسخت فيلما جديدا وجيدا تتيح لي رؤية الشاشة، مع أنها تعلم أن الكلاب لا تفهم الأفلام ولو أنها ذكية مثلي.  وإذا دعيت إلى حفلة، تصحبني معها. وإذا توقعت أن الشمس أو المسافة ستصيبني بالإرهاق تتركني في البيت وتمتنع عن تلبية الدعوة أيضا. ونقيم حفلتنا في البيت. وهي تحتفل بعيد ميلادي شهريا. أنا مولودة في السابع من شباط، وفي السابع من كل شهر، أكبر سنة، وفي ذلك اليوم أتناول طعامي كالعادة، على أن يكون مطهيا على نار هادئة ومغمورا بالماء، وبلا ملح أو زيت، وأتلقى شحنة من الحب كالعادة، وأشعر أن لهذا اليوم خصوصيته. وينبئني بذلك شيء ما في صوتها وعينيها.

وأن تكتب كتابا موضوعه رابطة أو عاطفة أو جو غروتسكي وبطله حيوان منزلي، وفي هذه الحالة كلبة، ليس أمرا غير مسبوق. التاريخ الأدبي حافل بأمثلة مشابهة. حتى أنطون تشيخوف، وهو مسرحي، كتب عن الكلب، وأذكركم بقصة جادة كتبها للأطفال وهي "الجبين الأبيض". أنا لي جبين أبيض أيضا، مثل جرو قصة تشيخوف.

تدور حكاية تشيخوف حول ذئبة تربي جراء حيوان من نوع آخر. ويتكرر نفس الشيء في هذا الكتاب، فالكاتبة تربيني، وأنا لست من نوعها، وبعيدة عنها تماما. المسألة فعليا ليست بهذا السياق، وهي حول موضوع مختلف، ولكن توهمت ذلك بعد أن عرضت علي الصور. كنت أعرف كيف أقفز على الأثاث وأفضل النوم عليها وليس على الأرض، حتى لو أنها حارة. ولكن إذا غادرت السرير حيث تقرأ دائما، أو إذا تقلبت في السرير، أو أبعدت عنها الأغطية، أو إذا ذهبت لتتبول في الحمام، أو إلى المطبخ لتشرب كاس ماء، أو أي شيء آخر، لا يسعني إلا أن أفتح عيني، وأنصب أذني، ثم أنظر إليها، وأتبعها. كم أحبها. فهي أمي. كنت أعد الأيام وهذا ثالث يوم لها في السرير قبل مغادرته. راقبتها وهي تستلقي قبل أمس في السرير بعد أن أطعمتني وقدمت لي الماء. تناولت مجموعة من الحبوب من حقيبتها وابتلعتها بعصبية. حتى أنها سمحت لي بالقفز على السرير وتمزيق سروال كانت تفضله. ولم أمزقه بنية شريرة ولكن لأنني أحب رائحتها كثيرا. وقبل أن تذهب للنوم لاحظت أنها  تقرأ كتابا من تأليف كويتزي، وهو كاتب تفضله وتنهل من كتبه كأنها ماء. راقبتها وهي تقرأ، وكنت على الكنبة فوق الوسادة، ولكن غلبني النعاس. وحينما استيقظت كان الكتاب بيدها، مفتوحا على الصفحة مائة وثلاثة، ولكنها لم تنته منه بعد. في الليل لم تستيقظ، ولا أمس. وكنت جائعة والعطش يحرقني. قفزت على سريرها عدة مرات، وداعبت شعرها ولكنها لم تستيقظ. ربما هي بحاجة لوقت. لو أن كل حبة تناولتها تدعوها  للنوم عدة ساعات، هذا يعني أنه عليها أن تنام لسنة كاملة.

كل شيء وضعه جيل دولوز في "كتاب الحروف" المشهور، والذي يبدأ بالترتيب من حرف أ، تحول بين يدي إلى تراب وغبار. لا يمكن لجيل دولوز أن يقف بوجه الحيوانات. وهو فيلسوف كبير ولكنه لا يستطيع تحمل الكلاب والهررة المعروفين بالوفاء، ولذلك بالنسبة لي ولها أصبح دولوز مجرد غبار. كم أحبها. فهي أمي. وهي أفضل كاتبة في هذا العالم.

***

................................

ترجمتها عن الإسبانية ميغان مكدويل

لينيا رودريغز إغلسياس Legna Rodriguez Iglesias

كاتبة قصة وروائية وشاعرة كوبية من مواليد عام 1984. تعيش في ميامي. تعمل في متجر لببع البيتزا.

 

في نصوص اليوم