ترجمات أدبية
ليودميلا أندروفسكا: بيت الأشباح
بقلم: ليودميلا أندروفسكا
Людмила Андровска
КЪЩАТА С ПРИЗРАЦИТЕ
ترجمة وتقديم: خيري حمدان
***
بيت الأشباح
بكت عندما علمت يانا بأنّهم يتحدّثون عن مسقط رأس جدتها وخالاتها بالسوء وأنّه بيت أشباح. انقبض قلبها حين قرأت الإعلان ورأت صور البيت الذي اختفت من فضائه الساحر كلّ آثار ذكريات طفولتها. قرأت في التعليقات الواردة في ذيل الإعلان أنّ البيت جميل لكنّه مصاب باللعنة وأنّ أصحابه أصيبوا بلوثة وماتوا الواحد تلو الآخر، وأنّهم قد لاحظوا ظلالا تتجوّل في أنحائه في ساعات الليل. تلك كانت أجمل سنوات حياتها، وهناك أمضت مرحلة شبابها وفتوتها.
ولدت حين أنهى للتوّ والداها الثانوية العامة وحصلا على منحة لمواصلة الدراسة الجامعية. اضطرّا لإبقائها في كنف الجدّ والجدّة. ثمّ ولد أخوها يافور الذي أمضى طفولته في حديقة الأطفال، وكان يمضي فيها طوال أيام الأسبوع. باح لها يافور بأنّه يحسدها لسنوات طفولتها التي قضتها في بيت العائلة..
صحيح بأنّها أمضت طفولة مشرقة.. اعتنى بها الجدّ والجدّة واستجابا لكلّ مطالبها، وأجمل ما تذكره حين كانت جدّتها تصحبها إلى تلك المدينة لزيارة أخوتيها اللتان ترمّلتا في وقتٍ مبكّر قبل أن تلدا أطفالا. رفضتا الزواج ثانية وعاشتا في بيت العائلة تحيط بهما الذكريات وصور معلقة على الجدران وكانت يانا بمنزلة ابنتهما.
البيت كبير مكوّن من طابقين. الأوّل على ارتفاع مترين فوق سطح الشارع يحتوي على مطبخ ومرافق صحية وصالة استقبال وقبو واسع حفر في أصل صخرة عميقة. البهو عميق ومظلم ورطب غارق في ظلمة حالكة. تحضر أمّها لزيارتها بين الحين والآخر أثناء زيارة بيت الأخوات وتُحتجز يانا في القبو لساعات طويلة لتظهر للخالات بأنّها مسؤولة وتحرص على تربية ابنتها، ومنذ ذلك الحين أصيبت الفتاة برهاب الظلام.
الطابق الثاني أكثر رحابة والممرات المنيرة تؤدّي إلى غرفتي نوم الخالة نيدا والخالة كاتيا. وتستخدمان الغرفة الثالثة الواسعة مخزنًا، لأنّها تفضي إلى ساحة البيت الثانية ومن فوق رأسيهما يشقّ ضوءٌ خفيف الطريق. ساحة الحديقة مكوّنة من 3 طوابق، الأوّل يعمرُ بالأشجار المثمرة ومن تحت مظلة كبيرة وطاولة وأرائك. وفي الطابق الثاني دالية مثقلة بقطوف العنب العذبة. أمّا الثالث والأعلى فهما مجرّد روضة خضراء تستلقي يانا فوقها تحت أشعة الشمس، ويكشفُ المكان مناظر واسعة بديعة في عمق المدينة. تمنّت لو تتمكّن يومًا من العيش في هذا المنزل، أن تنتقل بصورة نهائية إلى هذه المدينة - العاصمة القديمة للبلاد لتحتلّ وظيفة ما، وأن تتنزّه في أيام العطل الرسمية ونهاية الأسبوع في أنحاء القلعة أو بمحاذاة النهر برفقة صديقتها آنا التي تعيش في المنزل المجاور..
هناك بالقرب من بيت صاحبتها آنا منزل صغير للغاية حفر في الأرض يعيش فيه رجل عجوز هزيل، شعره أبيض لا يحادث أحد، ولا يرفع أنظاره عن سطح الأرض وبالكاد يخطو على قدميه، وغالبًا ما تتساءل يانا عن أحوال بيته من الداخل لكنّها لم تتجرّأ ولا حتى مرّة واحدة لمحادثته أو الذهاب لزيارته.
وعلى بعد بيتين أو ثلاثة ينتهي الشارع بساحة مبنى الكنيسة. يانا تحبّ الذهاب إلى هناك، تجلس قبالة الجدار المزيّن بالنقوش وترسم الأيقونات. توطّدت العلاقة مع آنا التي تكبرها بأربع سنوات من خلال حبّهما للرسم والموسيقى. ويومًا بعد يوم باتتا صديقتان لا تفترقان وأخذ الجميع يخاطبهما بـ "أختين أبجديتين". كلاهما تملكان شعرًا جعد واسميهما يبدآن وينتهيان بالحرف الأول والأخير من الأبجدية.
بعد أن أنهت الصفّ السابع عادت مع والديها إلى البيت، ثمّ فارقت الجدّة والجدّ الحياة الواحد تلو الآخر. شعرت يانا بالحسرة والوحدة فقد كانا أكثر من والدين. تعامل أخاها بادئ الأمر معها بقسوة لكنّه مع مرور الوقت حاول التقرّب والتودّد إليها، وكان من الصعب عليها أن تعتاد كلّ ذلك، خاصّة وأنّ والدها لا يعيرها أدنى انتباه، وأمّها تجدها مجرّد عبء لا فرار منه. ترشّحت للقبول في جامعة جديدة افتتحت في مدينة خالتيها وسرعان ما سافرت لتكمل دراستها العليا هناك.
تلك هي أجمل سنوات حياتها، آنا أنهت دراستها العليا في العاصمة صوفيا وعادت، لتلتقي ثانية مع صديقة عمرها.
واصلت يانا تلقي المحاضرات والرسم في الكنيسة، تدرس وتحضّر للامتحانات تحت الكرمة وتجلس خلال فصل الشتاء بمحاذاة النافذة في غرفة الجلوس، تستمع لأحاديث الخالتين الخافتة، يتخلّله قرقعة المدفأة، وتراقب كذلك نُدَفِ الثلج المتساقط. الشتاء في هذا المكان رائع ورائق. يخرج الجيران معًا لتجريف كثبان الثلج المتراكم على الطرق. وفي المساء تستلقي في سريرها، في مخزن لجمع سقط المتاع الذي أصبح غرفتها الخاصّة، تستمع للضجيج في أرجاء المنزل. صرير، طقطقة، كأنّ خطوات خفيفة تعبر من خلال الممر، ثمّ يُسمع ثانية أصوات الطقطقة هنا وهناك. يعيش المنزل حياته الخاصّة خلال ساعات الليل.. تتخيّل هيئة أحد أجدادها، طويل القامة، مثقّف وذو شارب، يمتلك مصنع لدباغة الجلود. يعود ليلا متعبًا ويبتسم لبناته الثلاثة اللواتي يتعلّقن برقبته، وفي الخلف الجدّة تنتظر، أنيقة مبتسمة. لا بدّ أنّ روحاهما ما تزالان تتجولان في أنحاء البيت، ويرقبان البنات بعد أن كبرن وتقدّمن في السنّ..
- هل البيت مسكونٌ بالأرواح يا خالة كاتيا؟ تسأل يانا الخالة الحبيبة، وهي بدورها تبتسم وتلتزم الصمت.
تغيّرت الكثير من الأمور منذ طفولتها، خالتاها طاعنتان في السنّ، تضاءل حجمهما، وأصبحتا هادئتين ومتسامحتين أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لكنّهما يتعاملان معها حتى اللحظة كأنّها طفلة صغيرة ويرفضان منحها الفرصة لأداء بعض الأعمال المنزلية. "عليك أن تهتمي بدروسك". تقولان وتضيفان – "سنعتني بأنفسنا، لا تقلقي!". لكن الخالة كاتيا كما يبدو ليست على ما يرام، سرعان ما تراها تلهث مرهقة، وتكثر من الاستلقاء في السرير. أصرّت يانا على إرسالها لمراجعة الطبيب، لكنّها رفضت.
العجوز في البيت المقابل توفيّ منذ زمن طويل، وأقدمت عائلة من قرية ما على شراء المنزل. تريفون وتوتكا هما المالكان الجديدان، سمينان للغاية، وجهاهما محمرّان يشيان بالرضا والغرور والغطرسة ولديهما توأم ذكور – إفغيني وإفدوكي. توتكا تعمل بصورة مجزّأة وتعود باكرًا. يدرك الجميع حضورها حين يرتفع صوتها الجهوري عاليًا وهي تصرخ: غانتشووو، دوتشووو، عودوا فورًا إلى المنزل! وهما بدورهما يسارعان بالعودة خلال لحظات، يمرّان بجوارها برأسين منحنيين، لتجنّب صفعاتها خلف الرقبة. "لماذا يطلق القرويون أسماء جميلة على أبنائهم ثمّ يشوّنوها؟". تتساءل يانا وتجيب آنا: "لأنّهم لا يقوون على القفز والارتقاء..؟ ثمّ تضحكان.
في إحدى المرّات وإثر عودتها من المحاضرات سمعتُ يانا صوت تريفون. دخلت إلى غرفة الجلوس ورأته جالسًا فوق الطاولة وخالتاها قبالته تحتضن أحدهما الأخرى ويشددن على أصابعهن. شاهدت أمامهما وعاء حلوى وكأس ماء، لكن لا أحد يجرؤ على تناول شيء منها. التزم تريفون الصمت ما أن دخلت ووقف ببطء.
- إيه، عليّ أن أغادر. همهم الرجل وتسلّل خارج الغرفة من دون أن ينظر تجاهها.
انتظرت يانا حتى سمعت صوت انغلاق الباب الخارجي.
- ماذا يريد هذا؟ تساءلت.
التزمت المرأتان المسنّتان الصمت.
- يريد استبدال بيته ببيتنا. همهمت أخيرًا كاتيا: أحد أقربائه حقوقي في البلدية، سيجري تقييم للمنزلين.. سيدفع لنا تعويض بقيمة ألفي ليفا..
- بيته من دون حديقة، كيف لكم التفكير باستبدال هذا المنزل بحدائقه الثلاثة الكبيرة! مقابل تعويض لا يزيد على ألفي ليفا؟ صاحت يانا باستهجان.
- قُيّم منزلنا بأربعة آلاف ومنزله بألفين. قالت الخالة نيدا.
ارتجفت يانا من شدّة الحنق لكنّها فضّلت التزام الصمت.
- إيه، هذا منزلكما، ولكما أن تقرران ما تشاءان. أردفت يانا وغادرت.
ثمّ توالت الأحداث بصورة متسارعة. اكتشفوا ورمًا سرطانيًا في مرحلة متقدّمة لدى الخالة كاتيا ولم يمضِ سوى شهر حتى فارقت الحياة. "لماذا يموت أولئك الذين نحبّهم قبل الآخرين؟". تساءلت يانا متفكّرة بخالتها وجدّها وجدّتها. وبعد أقل من أسبوع جمعت الخالة نيدا حاجاتها ومتاعها ولم تكن يانا على علم بما تنويه الخالة خلال ساعات النهار، لتواجدها مساء قط في البيت، لكن ما أن شاهدت الدواليب والخزانة فارغة حتى أدركت أنّ خطبًا ما قد حدث.
- أين متاع الخالة كاتيا؟ سألت يانا وأردفت: ولماذا جمعت حاجياتك في حقائب؟
- تصدّقت بها على الناس. أجابت الخالة وأضافت: سأغادر إلى بانكيا.. يوجد هناك نزل لكبار السنّ، لكلّ نزيل غرفته الخاصّة ولدينا دورة مياه وتلفاز.. استبدلت هذا المنزل، لأنّه كبير وواسع، لكنّي لا أقدر على العيش في المنزل الأصغر. أمّا أنتِ فيمكنك الانتقال للعيش هناك حتى انتهاء دراستك..
حارت يانا بم تجيب.
- كان عليك انتظار مرور أربعين يومًا من وفاة الخالة كاتيا على الأقل.. همست يانا أخيرًا.
أنجزت في اليوم التالي من دون تأخير كافّة الاجراءات الإدارية عند كاتب العدل، الذي تبيّن بأنّه أحد المقرّبين من تريفون، ثمّ ظهر شخص ذو شارب مسنّ يقود سيارة موسكفيتش ماركة "أليكو"، واقتاد نيدا إلى مقر حياتها الجديد. تبيّن لاحقًا بأنّه حفيد زوجها المتوفّى خلال العام 1925، وأدركت أيضًا أنّ خالتها قد اشترت السيارة مقابل المال الذي حصلت عليه كتعويض ومن فارق السعر ضمن صفقة استبدال المنزل. "متى أحسّت هذه العِقبان بحصولها على المال؟" أرادت يانا طرح هذا السؤال، لكن لا وقت لذلك، لأنّ عليها الانتقال للعيش إلى البيت الصغير الآخر.
عندها أدركت كذلك بأنّ الخالة نيدا قد تركت كافّة الأثاث لمالكي البيت الجدد. سمح لها تريفون نقل سريرها الصغير وخزانة متواضعة وطاولة صغيرة وسخّان ماء "يونغا"، لعدم حاجته إليها في منزل الخالة الجديد الواسع. أدهشتها وقاحته المفرطة، تفقّدت يانا الطابقين كيلا تنسى شيئًا وذلك تحت أنظار توتكا الثاقبة. كلّ هذه المقتنيات الثمينة، طاقم أوعية الكريستال من فيينا، اللمبات المزيّنة بالنقوش والثريات والأثاث الأنيق سيبقى لاستخدام المالكين الماكرين الجدد..
ساعدتها آنا خلال عملية الرحيل وللمرة الأولى شاهدتا الكوخ الصغير من الداخل الذي يسكنه للرجل المسنّ الوحداني. كان عليهما الهبوط ثلاث درجات تحت مستوى الشارع لبلوغ الطابق الأول المشيّد في الأسفل. السلالم الخشبية تؤدي إلى الطابق الثاني واستُغلّ الفضاء الفارغ من تحت السلالم لتجهيز خزائن ودواليب، كما شاهدتا إلى اليسار حوض ماء، وفي عمق المكان مخازن ودورة مياه. تنتهي السلالم برواق صغير يؤدّي إلى غرفتين متقابلتين. وفي كلّ جهة وناحية أسقف كثيرة مبطّنة بخشب الأبلكاش، أسقف متدنيّة على ارتفاع شبر فوق مستوى الهامة، اختارت يانا الغرفة إلى اليمين من الممر حيث تظهر المدينة والمدرّج الروماني بكلّ رحابته عبر النافذة. الغرفة الأخرى مطلة على حدائق خالتيها وإلى الجهة الجانبية رأت نوافذ ذاك المبنى. أبقت هي وآنا أنظارهما متعلقة ببيت الخالتين وشاهدتا في الحديقة تريفون الذي استمرّ يحدّق بهما، وسرعان ما أن أزاحتا أنظارهما عن تلك الجهة. ثمّ همهمت آنا:
- قذر!
قامتا بطلاء الجدران والغرف ورسمت يانا بعض اللوحات ووضعت السخّان الصغير فوق حوض الماء، اشترت لاحقًا طبّاخ وأطباق طعام، وعلّقت ستائر على النافذة، بهذا صمّمت ركن مطبخ متواضع. غالبًا ما تحبّ الجلوس على الطاولة عند نافذة غرفتها لتستمتع بالمنظر الخارجي. ولا تسارع في المساء بإشعال الأضواء ويحلو لها من هناك رؤية أنوار المدينة التي تحوّلها للوحة متنوعة رائقة. للمرّة الأولى في حياتها لم تشعر بالرهبة من العتمة. وفي ساعات الليل المتأخّرة تدخل إلى الغرفة الأخرى لتحدّق في مبنى الخالتين من خلف الستار الرقيق. الشارع كلّه غارق في النوم والمنزل ساكن ومظلم لكن يانا على استعداد لمراقبتها لساعات طويلة. كانت مطمئنة لأنّها لن تواجه في هذا الوقت المتأخّر نظرات تريفون.
عملت خلال فترة الدراسة مقابل مكافآت مالية لدى صحيفة محلية ولصالح الراديو. ظنّت بأنّ عليها تقديم الأوراق والوثائق للعمل بصورة دائمة وقد أنهت دراستها.
اتصلت بوالدتها بعد أن نالت الشهادة الجامعية وأخبرتها بأنّ الخالة نيدا قد توفيت نتيجة لاحتشاء عضلة القلب، وكأنّ هناك فارق كبير بشرح كيفية وفاتها..
حضرت والدتها بصحبة أخيها في اليوم التالي بسيارة تأبين الموتى لنقل الجثمان. دفنت الخالة بجوار أختها كاتيا، وحدهما تريفون وتوتكا لم يشهدا مراسم الدفن والتأبين.
ثمّ انطلق جميعهم إلى المنزل الصغير. تجوّلوا في أنحاء البيت وجلست والدتها على الكرسي حوالي الطاولة عند النافذة.
- منظر خلاب. قالت الأم واستدارت تجاه ابنتها: تعرفين جيّدًا بأنّه لا يمكنك البقاء هنا فترة طويلة. لقد أنجزت كافّة المعاملات الإداريّة وغدًا أنقل ملكية البيت لأخيك. هو رجل وستنقل كافّة أملاك العائلة باسمه. أنتِ قادرة على تدبير أمورك.. لا تتسكّعي ولا تتردّدي أكثر من ذلك، عليك أن تعثري على زوج قبل أن يفوتك القطار..
التزمت يانا الصمت وكانت على بينة من أنّ منزل الجدّ والجدّة قد نقلت ملكيته لأخيها يافور فور وفاتهما. وتذكر أنّها قد سألت والدتها: "لماذا تفعلين ذلك، ألن يغادر للدراسة إلى الولايات المتحدة الأميركية؟". "سيتمكن من شراء منزل هناك حال بيع هذه الأملاك". تجيب الوالدة وبهذا تنهي المحادثة مع ابنتها.
- لقد اعتنيتِ جيّدًا بالمنزل يا أختي، سأعثر بسهولة على مستأجر. قال يافور.
- أمهلوني أسبوعين لأرتّب أموري. قالت يانا بصوت خفيض.
توجهت خلال ساعات الليل إلى الغرفة الأخرى، وتعلقت أنظارها هناك بذلك البيت. تهيّأ لها أنّها قد رأت ظلّين باهتين يقفان بمحاذاة النافذة في غرفة الجلوس، ينظران إليها بحزن بالغ. وانضمّ إليهما شخص ثالث.. فركت عينيها وحدّقت مجدّدًا، البيت غارقٌ في الظلمة. كانت على وشك العودة إلى غرفتها عندما أضاء النور إحدى غرف الطابق الثاني. ثمّ أضيئت الأنوار في غرفة الاستقبال وعلى السلالم وممر الطابق الأول، انفتح باب المطبخ وقبل أن تضيء النور سمعت صوت صراخ مرعب. صوت توتكا الأجش يهذي بكلمات غير مترابطة ومبهمة. انطلق كذلك صوت خطوات متسارعة، ركض أحد الأبناء إلى أمّه وسرعان ما امتزج صراخه بعويلها. تراجعت يانا خطوتين في عمق الغرفة، واستيقظ الجيران الواحد تلو الآخر إثر الجلبة التي عمّت أرجاء المنزل. خرج أحد أبناء توتكا إلى حديقة البيت صارخًا:
- أشباح! أشباح..
ثمّ سقط على الأرض وهو يصرخ وما يشبه الرغوة تخرج من فمه.
ظهرت بعد ذلك سيارة إسعاف في الشارع الضيّق المرصوف بالحجارة ونقلت الفتى وأمّه إلى المستشفى.
بلغ يانا بعض أخبار العائلة قبل رحيلها إلى صوفيا، مكث إيفدوكي عدّة أيام في المستشفى من دون أن تتحسّن حالته ثمّ نقل إلى قسم الأطفال للأمراض النفسية. وبعد خمسة أيام عادت توتكا إلى البيت بوجه شاحب ونظرات هائمة وأغلقت على نفسها هناك. منع تريفون أيّ شخص من الاقتراب منها، وشخصيته القروية ذات الشكيمة الصلبة حالت من دون تجوّل الأشباح والطلاسم والحوريات والمخلوقات الفضائية داخل المنزل. وبين الحين والآخر وفي ساعات الليل يُسمع صراخ توتكا تصرخ: ابتعدوا عنّي، دعوني وشأني..
وفي صباح أحد الأيام ركب تريفون سيارة الموسكفيتش الروسية المنشأ وغادر مع زوجته إلى القرية، ويجيب على أسئلة جيرانه بأنّها انتقلت إلى هناك للاهتمام بوالديها المسنّين المريضين. وفي الوقت نفسه، حمّلت يانا متاعها وملابسها في عربة أحد زملاء صديقتها آنا الذي أنجز مهمّة عمل في المدينة ليعود إلى مقرّ إقامته في صوفيا. أبقت يانا على الأثاث واللوحات وغيرها من المتاع واصطحبت معها ما خفّ حمله من الملابس، لتنتقل هي الأخرى للعيش في العاصمة، وقد تمكّنت آنا قبل ذلك من استئجار شقة صغيرة لصديقتها، شغلتها سابقًا خلال فترة دراستها.
أمضت الليلة الأخيرة جالسة قبالة ذاك البيت المُضاء طوال الوقت. بعد تلك الليلة التي شهدت حضور سيارة الإسعاف ونقل ابن وزوجة تريفون للمستشفى، حرص الرجل على إبقاء الأنوار مضاءة طوال الليل في المنزل. بقي هو والتوأم الآخر إفغيني في الطابق العلوي من المنزل. نقّلت يانا أنظارها من نافذة إلى أخرى واسترجعت في مخيلتها كلّ ركن فيه وكلّ لحظة أمضتها هناك طوال السنوات الماضية. تنهّدت وترطّبت عيناها، ألقت نظرة على الحديقة وكأنّها قد شاهدت هناك تحت المظلّة هيئة ثلاثة أشخاص يفيض النور منهم يتحلّقون الطاولة، ينظرون إليها ويلوّحون لها بأيديهم. مسحت يانا عينيها وأمعنت النظر في تلك البقعة. لا، لا شيء هناك والعتمة تلفّ أنحاء الحديقة.
- وداعًا. همست ومضت إلى الغرفة الأخرى. وقفت بمحاذاة النافذة وألقت نظرة إلى أنوار المدينة الوامضة الملوّنة الغارقة في النوم.
وفي الصباح وقبل الشروق بقليل ذهبت إلى المقبرة، جلست عند قبري خالتيها وطأطأت رأسها ثمّ وقفت وهمست "وداعًا" وغادرت المكان. وبعد أقل من ساعة نقلت متاعها إلى الشارع بعينين ناعستين تساعدها آنا. قاد إيفو العربة إلى الخلف في الشارع الضيّق المرصوف بالحصى، تعرّف أحدهما على الآخر، ثمّ وضع زميل آنا المتاع في المقعد الخلفي، تعانقت الفتاتان وطفر الدمع من أعينهما.
- نبقى على تواصل. همست آنا. ثمّ انطلقت العربة مبتعدة.
التزم إيفو الصمت طوال معظم الطريق، سألها حين اقتربا من صوفيا عن المكان الذي ترغب الهبوط فيه. أخبرته يانا بالعنوان، تنهّد إيفو وقال بأنّه يعرفه جيّدًا، إنّه عنوان آنا القديم. مبنى رائع ومستقلّ أيضًا. ثمّ سألها إذا كانت تعرف آنا منذ وقتٍ طويل؟ أخبرته عندها بحكايتها منذ طفولتها والدمع ينهال فوق وجنتيها، أخبرته عن تعلّقها بالمدينة، وحدّثته عن خالاتها وعن منزلهما الخلاب. ثمّ انهمر الدمع غزيرًا من عينيها وعجزت عن متابعة الحديث. وضع يده فوق يدها لتهدئة روعها. وأخيرًا بلغا العنوان صامتين. ساعدها إيفو بنقل حقائبها إلى الشقّة الصغيرة وقبل أن يفترقا كتب لها رقم هاتفه.
اتصلت يانا بآنا وشكرتها ثمّ اتصلت بأمّها. أخبرتها بأنّ يافور قد غادر في الصباح الباكر إلى الولايات المتحدة الأميركية وعرضوا البيت الصغير لسمسار عقارات. لم ترغب الأم برؤيتها لأنّها متوترة وحزينة لسفر أخيها، ولن تحضر قريبًا لزيارتها في صوفيا. تنهّدت يانا بارتياح وأنهت المكالمة.
مرّت الأيام مسرعة وهي تتنقل ما بين مكاتب دور النشر والصحف. إنّهم يعرفونها جيّدًا فقد كتبت العديد من المواضيع والتقارير من العاصمة القديمة واستقبلوها بصفتها مراسلة لهم هناك. طلب منها زميلها في الجامعة سابقًا المسؤول عن قسم الثقافة تقديم طلب وظيفة، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى قُبلت للعمل بانتظام.
اتصلت بها آنا قبل نهاية الشهر لتخبرها بآخر الأحداث. أفادت بأنّ تريفون قد أرسل التوأم الآخر إلى القرية وبدأ عملية ترميم شاملة للمنزل، لكن أعمال البناء والتصليح التي يقوم بها نهارًا تدمّر بالكامل خلال الليل. وفي اليوم التالي يبدأ من جديد بعناد غريب وفي الليل تُسمع أصوات غاضبة وتحطيم لكافّة الإصلاحات في البيت. لم تعلّق يانا على حديثها، لم تجد ما تقوله واكتفت بالاستماع لصوت آنا التي أخبرتها في نهاية المطاف، بأنّ إيفو قد طلب رقم هاتفها وسيتصل بها قريبًا، فهو في طريقه لزيارة المدينة.
بعد أيام اتّصل بها إيفو لكنّها رفضت الذهاب معه إلى المدينة: "ما يزال الوقت مبكّرًا، لست جاهزة، أحتاج لمزيد من الوقت". تفهّم الرجل موقفها وأنهى المكالمة.
بعد قرابة السنتين اتصلت به ورجته أن يصطحبها إلى هناك في رحلته التالية. وفي الأثناء كانا يلتقيان ويحتسيان القهوة، في البداية على فترات متقطعة بعيدة، ثمّ كثرت لقاءاتهما وارتادا معًا المسرح ودار الأوبرا والمعارض الفنية، ثمّ باتا لا يفترقان ويلتقيان يوميًا. اقترح عليها إيفو أن تنتقل للعيش في منزله لكنّها فضلت عدم التسرّع وأخيرًا انطلق الاثنان إلى المدينة الحميمة.
ذهبت بادئ الأمر إلى المقبرة، القبران مهجوران والأعشاب تحجبهما. نظّفت القبرين وأشعلت شمعتين اشترتهما من متجر قريب عند المدخل. همست قائلة "ارقدوا بسلام" ارتجف ضوء الشمع حين لامسهما الهواء المنطلق من فمها. ابتسمت وتصلّبت ثمّ انطلقت لرؤية صديقتها آنا.
عبرت الشارع وصدرها منقبض. شعرت كأنّها لم تغادر أبدًا هذا المكان. ألقت نظرة إلى بيت الخالات وشاهدت هناك توتكا تجلس في الحديقة وقد هزل جسدها وذاب لدرجة يصعب تصديقها. حدّقت توتكا بيانا ما أن رأتها، عرفتها على الفور، وقفت ورفعت رأسها بتعالي، وضعت يديها على خصرها وحسرت عينيها، كأنّها تريد أن تثبت لها بأنّها هي سيدة المكان، ولن تسمح لها يومًا بتخطّي عتبة المنزل. وقفت الفتاتان بمحاذاة النافذة وألقت يانا نظرة خاطفة إلى حديقة المنزل المقابل. توتكا ما تزال جالسة هناك خافضة رأسها ناعسة على وشك النوم.
- المرأة ليست بخير تتناول الأدوية لتحافظ على هدوئها وتبدو كأنّها مخدّرة. الأسوأ من هذا، اكتشفوا لديها سرطان.. نفس الداء الذي أودى بحياة الخالة كاتيا.. لم يبق أمامها الكثير من الوقت..
- كان علينا أن نتقابل في مكان آخر في المدينة، أنا لا أرغب برؤية أفراد هذه العائلة.
أمضى ثلاثتهم مع إيفو أمسيتهم في مطعم بانورامي قبالة قلعة المدينة التاريخي، وشاهدوا استعراض الأضواء المثير. ثمّ رافقوا آنا لبيتها وبيت الخالات ما يزال مضاءً بأكمله.
- هذا حال المنزل كلّ ليلة. قالت آنا: يشتكي الجيران منذ سنوات طويلة من هذه الأضواء الكاشفة لأنّها مزعجة في ساعات الليل..
لم تنه حديثها فهم يدركون جيّدًا بأنّ تريفون على الرغم من عدم إيمانه بالمخلوقات الغريبة الخضراء إلا أنّه يبدي خوفًا من الأشباح. أخبرتهما آنا بأنّ تريفون أرسل ابنه إفغيني للدراسة في مدينة أخرى، حيث تتواجد مدرسة ومسكن داخلي والفتى على وشك الانتهاء من المرحلة الثانوية. يعود إفغيني خلال العطل إلى هنا، كما يزور أجداده في القرية. أمّا التوأم الآخر إفدوكي فقد أرسل إلى مستشفى الأمراض النفسية للبالغين، ومن غير المتوقع أن يخرج قريبًا من هناك.
عادت كاتيا وإيفو إلى الفندق وطلب منها إيفو الانتظار على الشرفة، ظهر بعد قليل يحمل زجاجة شمبانيا وكأسين، انسكبت رغوة الشراب وقبل أن يرفع النخب، أخرج علبة صغيرة بخاتم وعرض عليها الزواج..
هاتفت والدتها ووالدها عند عودتها إلى صوفيا ودعتهما لحضور مراسم توقيع عقد الزفاف. كانا قد قررا قبل ذلك عدم إقامة حفل زفاف، فإيفو يتيم وأصدقاؤهما يعدّون على أصابع اليد الواحدة، وعلى الأرجح سيتواجد في حفل التوقيع هما والإشبين والإشبينة. رفضت أمّهما بالطبع الحضور، وتعذّرت ببعض المشاكل، لكنّها هنّأتها لأنّها استمعت لنصيحتها، على الرغم من تأخّر الوقت..
- أتدري، لا يوجد ما يجبرنا على إقامة حفل توقيع عقد الزفاف هنا في صوفيا، من الأفضل أن نقوم بذلك في المكان الذي جمعنا للمرّة الأولى. ثمّ احتضنت إيفو.
اتصلوا بآنا وطلبا منها حجز موعد في مكتب الزفاف التابع للبلدية بعد شهرين، وأصرّ إيفو على إجراء مراسم زفاف كنسية أيضًا.
بعد الانتهاء من مراسم المصادقة على عقد الزفاف المدني والكنسي انطلقا إلى المطعم المفضّل قبالة قلعة المدينة. وأثناء رفع الأنخاب في المطعم، لم تمتلك يانا نفسها وهمست في أذن آنا تسألها عن أوضاع توتكا وتريفون.
كلّ شيء حدث بسرعة بالغة. توفيت توتكا بعد يومين من حضور يانا الأخير. وبعد أسبوع أخبروا تريفون بأنّ ابنه إفدوكي قد أصيب بجلطة توفيّ على إثرها. دفنهما في القرية معًا ثمّ عاد إلى المنزل وأغلق الأبواب عليه وأبقى الأضواء مشتعلة ليل نهار. غالبًا ما يسمع الجيران صراخه ونحيبه في الداخل، وحاولوا مرارًا دقّ الباب، لكنّه أصرّ على عدم دخول أيّ شخص إلى البيت. ثمّ خيّم الصمت هناك طوال أيام، حتى انطلقت منه رائحة تحلّل كريهة. اتصل الأهالي بالشرطة، حضر رجال الأمن وحطّموا الباب الخارجي. نُشر لاحقًا في التقرير الطبّي بأنّ تريفون قد أصيب باحتشاء عضلة القلب.
- نفس الإصابة التي تعرّضت لها الخالة نيدا. همست يانا.
- عرض إفغيني البيت للبيع، لكن لا أظنّ أحدًا يجرؤ على شرائه. أردفت آنا.
نظرت يانا إليها باستغراب لكن صاحبتها لم تضف شيئًا لما قالته للتوّ.
في المساء بعد عودة الزوجين إلى غرفتهما في الفندق، جلست يانا بالقرب من الشرفة وأخرجت الهاتف واستطلعت إعلانات بيع العقارات، توقّفت عند إعلان بيت الخالات وقرأت بعض التعليقات الصادمة التي وصفت البيت بالملعون والمسكون وطفقت بالبكاء. اقترب منها إيفو وضمّها إلى صدره. همست يانا قائلة:
- عفوًا، يجب أن أذهب إلى المنزل.. وحدي. لو سمحت.
هزّ رأسه علامة الموافقة.
انتعلت حذاء رياضيًا وسارت من دون جلبة فوق الشارع المرصوف بالحصى. ألقت مصابيح الطريق أضواء باهتة والمنازل غارقة بالعتمة. لا أحد في الأنحاء باستثناء بعض القطط التي تظهر بين الحين والآخر تموء.
بلغت منزل الخالات وتوقفت ثمّ ملأت رئتيها بالهواء وألقت نظرة إلى النوافذ المعتمة. لا شيء يوحي بالحياة خلفها. ثمّ نقلت أنظارها تدريجيًا إلى الحديقة وعندها شاهدتهم. ظلال باهتة لثلاث فتيات ينظرن إليها ويلوحن بأيديهنّ إليها. رفعت المرأة الواقفة خلفهم يدها هي الأخرى لتحيتها. ثمّ ظهر خيال رجل طويل القامة أنيق ذو شارب عريض. احتضن المرأة وبناته وانطلقوا إلى داخل المنزل. التفت إليها مبتسمًا وهزّ رأسه مرحّبًا.
شاهدت يانا الظلال تسير عبر الممرّ تجاه إحدى النوافذ، ثمّ تجاه نافذة أخرى وانطلقوا جميعهم إلى الطابق الثاني. إنّهم سادة المنزل، وحدهم سادة المنزل، مضوا ليخلدوا للنوم.
***
.......................
ليودميلا أندروفسكا
ولدت الأديبة ليودميلا أندروفسكا في العاصمة صوفيا، نالت شهادة الماجستير في الأدب البلغاري من جامعة "فليكو تيرنوفو" عاصمة بلغاريا القديمة. عملت في مجال الصحافة والتحرير والإخراج السينمائي. شغلت منصب المدير العام لدار النشر "ديباكورت". صدر لها رواية "فوضى" عام 2001، وترجمت للغة الألمانية. صدر لها سيناريو بعنوان "دانتي" عام 2008، يتناول حياة الشاعر الإيطالي الشهير دانتي أليغييري. كما صدر لها مجموعة قصصية بعنوان "كل ما يذهب" عام 2015. القصة المترجمة من مجموعتها الأخيرة التي صدرت خلال العام الحالي 2024 تحت عنوان "كاترينا مديتشي من أوسوينا العليا".