ترجمات أدبية
إدغار ألِن بو: القلبٌ البَؤوح
بقلم: إدغار ألِن بو
ترجمة نزار سرطاوي
***
صحيح! – كنت متوتّرًا – متوتّرًا بصورةٍ مريعة، كنت ولم أزل. لكنْ لِمَ ستقولون إني مجنون؟ لقد شحذ المرضُ حواسّي – ولم يدمّرْها – ولا أضعفْها، خصوصًا حِدّةَ حاسةِ السَمْع. سمعت الأشياءَ كلَّها في السماء وفي الأرض. سمعتُ أشياءَ كثيرةً في الجحيم. فكيف إذًا أكون مجنونًا؟ أنصِتوا! ولاحظوا كيف أني قادرٌ على أن أحكي لكم القصةَ من أولها إلى آخرها وأنا بكامل عافيتي وهدوئي.
من المستحيل أن أصفَ كيف دخلَتِ الفكرةُ عقلي في البداية. لكنْ بمجرد أن استوعبتها، راحت تطاردني ليلَ نهار. لم يكن ثمّة هدف. ولم يكن ثمّة تَعلُّق. لقد أحببتُ الرجلَ العجوز. ولم يحدثْ أن أساء إليّ قطُّ أو وجّهَ إليّ أيةَ إهانة. ولم أكن أطمعُ فيما لديه من ذهب. أظنّ أنها كانت عيْنُه! نعم كانت هيَ! كانت إحدى عينيه تشبهُ عينَ النسر – عينٌ زرقاءُ شاحبةٌ فوقَها طبقة. كلما وقَعَتْ عليّ عيناه، جرى الدم باردًا في عروقي. وهكذا خطوةً خطوة – بشكل تدريجي – اتخذت قراري بإنهاء حياةِ الرجلِ العجوز، وبذلك أريحُ نفسي من العين إلى الأبد.
المسألة الهامة هي هذه. أنتم تتصوَّرون أنّي مجنون. المجانين لا يعرفون شيئًا. ولكن لو رأيتموني. لو رأيتم حكمتي في التصرف – كم كنتُ حَذِرًا – كم كنتُ بعيدَ النظر – كم كنت مُرائيًا حين شرعتُ في العمل! لم أكن أبدًا أعامِلُ الرجل العجوز بعطفٍ أكثر مما كنت أفعل خلال الأسبوعِ الذي سبق قتلي إياه. وفي كل ليلةٍ في حوالي منتصف الليل كنت أدير مزلاجَ بابه وأفتحه – آه، بكل لطف! وبعد ذلك، عندما تكون الفتحةُ كافية لإدخال رأسي، أدخِلُ مصباحًا مُعتِمًا مُغلقًا، مغلقًا كي لا يَصدُرَ عنه أيُّ ضوء. ثم أدفعُ برأسي. آه، كنتم ستضحكون لو رأيتم كيف كنت أدفعُ بهُ بطريقةٍ ماكرة! أُحرّكُه ببطء - ببطءٍ شديد، حتى لا أقلِق نومَ الرجل العجوز. استغرق الأمر مني ساعةً لأدخِلَ رأسي كاملًا عبر الفُتحة لأتمكن من رؤيته مستلقيًا في فراشه. ها! – هل كان في مقدور المجنون أن يكون حكيمًا هكذا؟ وبعد ذلك، عندما أدخِلُ رأسي بكامله في الغرفة، أعمدُ إلى فتحِ الفانوس بحذر – آه، بحذرٍ شديد – بحذرٍ (لأنّ المُفَصَّلات كانت تُصدِر صريرًا) – أفتحُه قليلًا بما يكفي لشعاعٍ رفيعٍ واحدٍ أن يسقط على عينِ النسر. كرّرْتُ هذا الفعلَ لسبعِ ليالٍ طوال – كل ليلة في منتصف الليل – لكنني كنت أجدُ العين دائمًا مغمَضةً. لذا كان من المستحيل القيام بالعمل، لأن الرجلَ العجوزَ لم يكن هو من يثيرني، بل عينُه الشريرة. وفي كل صباحٍ مع بداية النهار، كنت أذهبُ إلى الغرفة بكل جرأة وأتحدثُ إليه بجسارة، مناديًا عليه باسمه بنبرةٍ حانية، وأسأله كيف قضى ليلته. لذا لا بد أن يكون شيخًا عميق التفكير حتى تساورَه الريبةُ في أني كنت كلَّ ليلةٍ في تمام الساعة الثانية عشرة أطيلُ النظرَ إليه أثناء نومه.
في الليلة الثامنةِ كنت أشدَّ حذرًا من المعتاد في فتح الباب. عقربُ الدقائق داخلَ الساعة يتحرك بسرعةٍ أكبرَ مما كان يتحرك في ساعتي. لم يسبقْ لي أن أحسستُ قبل تلك الليلةِ بمدى قوتي – قوةِ حصافتي. أكاد لا أقوى على احتواء شعوري بالانتصار، أن أتصوّر أنني هناك، أفتح الباب شيئًا فشيئًا، وهو لا يتخيّل أفعالي أو أفكاري الخفيّة حتى في أحلامه. ضحكت قليلًا حين راودَتْني تلك الفكرة. وربما سمعني. إذ أنه تحرّك فوق السرير بغتةً كأنما أصابه الفزع. قد يخطر ببالكم الآن أنني تراجعت – لكن لا. كانت غرفتُه سوداءَ كالقار في الظلمة الحالكة، (إذ أن المصاريع كانت مقفَلَةً بإِحكام خوفًا من اللصوص،) ولذا أدركت أنه لم يكن بإمكانه أن يرى فتحة الباب، فواصلت دفعَه بلا توقف.
كان رأسي في الداخل، وكنت أوشك أن أفتح الفانوس، عندما انزلق إبهامي على القفل القصديري، ونهض الرجل العجوز من الفراش صائحًا – "من هناك؟"
تجمّدتُ في مكاني ولم اقل شيئا. لساعةٍ كاملةٍ لم أحرك عضلةً واحدة، وفي الأثناء لم أسمعْه يستلقي. كان لا يزال جالسًا على الفراش يتنصّت – كما كنت أفعل ليلةً إثرَ ليلة، أستمع لساعاتِ الموت المعلقةِ على الجدار.
بعد قليلٍ سمعت أنينًا خافتًا، وعرفت أنه كان أنينَ الفزعِ الشديد. لم يكن أنينَ ألمٍ أو حزن – كلا! – بل كان الصوتَ الخفيضَ المخنوقَ الذي ينبعث من أعماقِ الروحِ عندما تملأها الرهبة. أعرف ذلك الصوتَ جيدًا. وكم من ليلةٍ، حين كانت الدنيا كلُّها نائمةً في منتصف الليل، كان يتدفق خارجًا من صدري وبصداه الرهيبِ يعُمّقُ الذُعرَ الذي يُشَتّتُ ذهني. أقول إنني كنت أعرف ذلك جيدًا. أعرف ما يشعر به الرجل العجوز، وأشفق عليه، على الرغم من أنني كنتُ أضحكُ في سِرّي. كنت أعلم أنه كان يستلقي مستيقظًا منذ أن سمعَ أوّلَ ضجيجٍ خفيف، عندما تقلّب في فراشه. كانت مخاوفُه تتزايد منذ ذلك الحين. كان يحاول أن يتصوّرَ أنها كانت بلا مبرر، لكنه لم يستطع. كان يقول في نفسه – "إنها ليست سوى الريحِ في المدخنة – إنه مجردُ فأرٍ يعبر الغرفة"، أو "إنه مجردُ صرصارٍ هسهس مرةً واحدة." نعم، كان يحاول أن يُطمئن نفسه بهذه الافتراضات: لكنه وجد أن كل ذلك كان بلا جدوى. بلا جدوى لأن الموت في اقترابه منه راح يتهادى أمامه بشبحه الأسود، ثم غشِيَ الضحية. وكان التأثيرُ الكئيبُ للشبحِ اللامحسوسِ هو ما جعله يشعر – مع أنه لم يرَ أو يسمع – يشعر بوجود رأسي داخل الغرفة.
بعد أن انتظرت وقتًا طويلاً بكلِّ صبر، دون أن أسمعَه يستلقي، قررت أن أفتح فُتحةً – فُتحةً بالغة الصِغر في الفانوس. لذلك فتحته – لا يمكنكم أن تتخيلوا كيف فعلت ذلك بخفّة، بخفّة – إلى أن انطلق من الفتحةِ أخيرًا شعاعٌ واحد خافت مثل خيط العنكبوت، وسقط على عين النسر.
كانت مفتوحةً – مفتوحة على أقصى تساعها – واجتاحني الغضب عندما حدّقْت بها. رأيتها بوضوحٍ تامّ – زرقاءَ باهتةً كلَّها، وفوقها حجابٌ شنيعٌ جعل البردَ يجتاح نخاعَ عظامي. لكني لم ستطعْ أن أرى أي جزءٍ آخرَ من وجه الرجل العجوز أو جسمه. فقد وجهتُ الشعاع كما لو كان ذلك بالفطرة، على البقعةِ اللعينة تمامًا.
ألم أقلْ لكم إن ما تحسبونه جنونًا ما هو إلا زيادةٌ في حدّة الحواس؟ – أقول، وصل إلى أذنيَّ صوتٌ خفيضٌ خافتٌ سريع، أشبه بالصوت الذي تصدره الساعةُ حين تكون مُغَلّفة بالقطن. كنت أعرف هذا الصوتَ جيدًا أيضًا. إنّه دقات قلب الرجل العجوز. وقد زاد من اشتعال غضبي، كما يستنهضُ قرعُ الطبلِ شجاعةَ الجندي.
لكن حتى تلك اللحظة أحجمتُ عن فعلِ أي شيءٍ وبقيت ساكنًا. بل إنني لم أتنفس إلا قليلًا. جعلت الفانوسَ ثابتًا لا يتحرك. حاولت ما أمكنني أن أثبّتَ الشعاعَ على العين. في غضون ذلك، تعاظمَتْ دقاتُ القلبِ الجهنمية. راحت تسرع أكثر فأكثر ويعلو صوتها أكثر فأكثر في كل لحظة. لا بدّ أن رعبَ الرجل العجوز كان في أوجه! أقول يعلو صوتُها أكثر في كل لحظة! - هل تَعونَ ما أقول جيدا؟ لقد أخبرتُكم أني متوتر، وأنا حقًا كذلك. والآن في الساعة الميّتة من الليل، وسطَ الصمت الرهيب لذلك البيت القديم، أثارَ مثلُ ذلك الضجيج الغريب فيّ رعبًا لا سبيل إلى السيطرة عليه. ومع ذلك أحجمتُ لبضعِ دقائقَ أخرى عن فعلِ أي شيء ووقفت ساكنًا. لكنّ ضرباتِ القلب ظلت تعلو أكثر فأكثر! تخيلت أن القلبَ لا بدّ أن ينفجر. والآن استحوذ عليّ قلقٌ جديد – أحدُ الجيران سيسمع الصوت! حانت ساعة الرجل العجوز! بصرخةٍ عالية فتحت المصباح وقفزت إلى داخلِ الغرفة. زعقَ مرةً واحدة - واحدةً لا غير. قمتُ بسحبه إلى الأرض، وسحبت الفراش الثقيل فوقه. ثم ابتسمت فرحًا أن أرى ما أنجزتُ من الفعل حتى تلك اللحظة. لكنْ، لبضع دقائقَ، ظلَّ القلب يدقّ بصوتٍ مكتوم. غير أن هذا لم يزعجْني. لن يسمعَه أحدٌ من خلال الجدار. وأخيرًا توقف. مات الرجل العجوز، مات تمامًا. رفعت الفراشَ وتفحصت الجثة. نعم، كان ميتًا، ميتًا تمامًا. وضعت يدي على القلب وأبقيتها هناك عدةَ دقائق. لم يكن ثمّة نبض. كان ميتًا تمامًا. لن تزعجَني عينُه بعد اليوم.
إن كنتم لا تزالون تحسبونني مجنونًا، فلن تحسبوني كذلك بعد الآن حين أصف لكم الاحتياطاتِ الحكيمةَ التي اتخذتها لإخفاء الجسد. اقترب الليل من نهايته، فرُحتُ أعمل بسرعةٍ ولكن بصمت. بدايةً قمت بتقطيع الجثة. فصلتُ الرأسَ والذراعين والساقين.
ثم تناولت ثلاثةَ عوارضَ من أرضية الغرفة، ووضعتها جميعًا بين الألواح الصغيرة. ثم استبدلت الألواحَ بمهارةٍ ومكرٍ شديدين، بحيث لا يمكن لأي عين بشرية - ولا حتى عينه - اكتشاف أي خطأ. لم يكن ثمّة ما يحتاج لأن يُغسل – لم تكن هناك أية بقعة – ولا نقطةِ دمٍ إطلاقًا. لقد كنت في غاية الحذر في تلك المسألة. فقد استوعبَتِ المغسلةُ كل شيء – ها! ها!
عندما أنتهيتُ من هذه الأعمال، كانت الساعة تشير إلى الرابعة – والعتمةُ ما تزالُ كما كانت في منتصف الليل. عندما دقت الساعة معلنةً تمام الساعة، سمعتُ طَرقًا على الباب الذي يُفضي إلى الشارع. نزلت لأفتحَه وأنا أشعر بالفرح، – فما الذي أخافه الآن؟ دخل ثلاثةُ رجالٍ قدّموا أنفسهم في غاية اللطف على أنهم ضباطُ شرطة. كان أحد الجيران قد سمع صرخةً أثناء الليل، الأمر الذي أثار الشكوكَ في أن جريمةً قد وقعت؛ وصلت المعلومات إلى مكتب الشرطة، وتمّ تكليفهم (الضباط) بتفتيش المبنى.
ابتسمتُ، فما الداعي للخوف؟ استقبلتُ السادةَ بالترحاب. قلت إنّ الصرخة صدرت عني في المنام. وذكرت أن الرجل العجوز كان غائبًا في الأرياف. أخذت زُوّاري في جولةٍ في أنحاء المنزل كافّة. طلبت منهم أن يُفتشوا – أن يُفتشوا جيدًا. أخذتهم في الختام إلى غرفته. أطلعتُهم على كنوزِه، كانت في الحفظ والصوْن، لم يمسسها أحد. وفي اندفاع الواثق من نفسه أحضرت بعض الكراسي إلى الغرفة، وطلبت إليهم أن يستريحوا هنا من التعب، بينما أنا نفسي، بجرأتي الجامحة التي وَلّدها انتصاري المثالي، وضعت مقعدي فوق المكان عينِه الذي كانت جثةُ الضحيةِ ترقد تحته.
كان الضباط راضين. فقد أقنعهم سلوكي. أحسستُ براحة لا مثيل لها. وجلسوا، وفيما كنت أجيب بمرح، راحوا يتحدثون حولَ أشياءَ مألوفة. لكنْ، قبل أن يمضيَ الكثير من الوقت، شعرت أني أصبحت شاحبًا وتمنيت أن يذهبوا. شعرت بصداعٍ في رأسي، وتخيلت طنينًا في أذنيّ. لكنهما ظلوا جالسين يتحدثون. ازداد الطنين وضوحًا. – استمر وصار أكثر وضوحًا: رحتُ أتحدث بحريةٍ أكبرَ للتخلص من ذلك الشعور. لكنه استمر وازداد قوةً – إلى أن اكتشفتُ أن الضجيج لم يكن في أذنيّ.
لا شك أنني أصبحت الآن في غايةِ الشحوب. لكني كنت أتحدثُ بطلاقةٍ وبصوت عالٍ. ومع ذلك، ارتفع الصوت – وما الذي كان في وسعي أن أفعله؟ كان صوتًا خفيضًا وباهتًا وسريعًا – يشبه إلى حدٍّ كبير الصوت الذي تصدره الساعة عند تغليفها بالقطن. شهقتُ لألتقطَ أنفاسي – ومع ذلك لم يسمعِ الضباطُ ذلك. رحتُ أتحدثُ بسرعة أكبر – بحدّةٍ أكبر؛ لكن الضجيجَ كان يعلو باطَّراد. نهضتُ وشرعت أجادل في أشياءَ تافهة بنبرةٍ عالية وإيماءات عنيفة. لكن الضجيجَ ظلّ يعلو. لمَ لا يريدون أن يرحلوا؟ بدأتُ أذرعُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا بخطواتٍ ثقيلة، وكأنّ ملاحظاتِ الرجال قد أثارت حماسي إلى حد الغضب – لكن الضجيجَ ظلّ يعلو. يا إلهي! ماذا عساي أن أفعل؟ أرغيتُ وأزبدتُ – هذيتُ – أطلقتُ الشتائم! حرّكت الكرسيَّ الذي كنت أجلس عليه، جعلته يحتك بالألواح، لكن الضجيج علا في كل مكان وتزايد باطّراد. ازداد ارتفاعًا – أكثرَ – أكثرَ! الرجال ما زالوا يتحدثون بلطفٍ ويبتسمون. أيُحتملُ أنهم لم يسمعوا؟ يا الله! - لا لا! بل سمعوا! ! – ارتابوا – عرفو! - كانوا يسخرون من فَزعي! - هذا ما تصورته وهذا ما أعتقده. لكنْ كان أيُّ شيءٍ أفضلَ من هذا العذاب! كان من الممكن تحمّلُ أي شيءٍ أكثر من هذه السخرية! لم أعد أقوى على تحمُلِّ تلك الابتسامات المنافقة! أحسست أنه لا بد لي أن أصرخَ أو أموت! – والآن – مرة أخرى! – أصيخوا السمع! الصوت يعلو أكثر! أكثر! أكثر! أكثر! – "أيها الأوغاد!" صرختُ، "كفاكم تظاهرًا! أعترفُ أنني الفاعل! – حَطِّموا الألواح! – هنا هنا! - إنها دقّات قلبِه البشع!"
***
..........................
نبذة عن حياة الكاتب
ولد بو في 19 يناير 1809 في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس. تيتم في سِنٍّ مبكرة، فقد تخلّى والده عن الأسرة بعد سنةٍ من مولده. أما والدته فقد أصيبت بالسلّ وتوفيت في أواخر عام 1811، قبل أن يتم عامه الثالث. وإثر ذلك تبناه جون آلان وزوجته فرانسيس من ريتشموند بولاية فيرجينيا دون أن يمنحاه اسم عائلتهما. وكان جون تاجرًا ثريًا، وقد انتقل مع زوجته وبرفقتهما بو عام 1815 إلى إنغلترا. وهناك التحق بو بمدرسة داخلية، حيث تفوق أكاديميًا. وبعد خمسة أعوام عادوا جميعًا إلى ريتشموند، ليكمل بو دراسته. وقد أظهر ميلًا كبير إلى اللفة اللاتينية والشعر.
أراد جون أن يجعل من إدغار رجل أعمال مثله، لكن بو كان يحلم منذ طفولته بأن يصبح شاعراً. وقد كتب وهو في سن الثالثة عشرة ما يكفي من الشعر لتأليف كتاب. حدثت بينه وبين جون خلافات بسبب رفض الأخير أن يجعله ابنه بالتبني بصورة رسمية. وهكذا فإن بو بقي محتفظًا باسم عائلته الأصلي.
في عام 1820 التحق بجامعة فيرجينيا. وهناك انجذب إلى اللغة اللاتينية والشعر. لكن ارتباطه بالجامعة لم يستمر، حيث اضطر إلى المغادرة بسبب مشاكل مالية. وكان لحالته المالية تأثير كبير على علاقته بوالده بالتبني. إذ أن جون امتنع عن توفير أموال كافية لرسوم جامعته. وبسبب هذا التوتر بينهما غادر بو منزل جون سعيًا إلى تحقيق حلمه في أن يصبح شاعراً عظيماً.
في عام 1827 ، عندما كان عمر بو ثمانية عشر عامًا، نشر ديوانه الشعري الأول بعنوان "تيمور لنك." وبعد حوالي عامين، أصدر ديوانه الثاني "الأعراف"(1829).
التحق بو بالأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت. لكنه ُطرِد منها بعد ثمانية أشهر من التسجيل، وذلك بسبب مشاكله الماليه. وفي عام 1831، انتقل للعيش مع خالته ماريا كليم في بالتيمور بولاية ميريلاند. وهناك ارتبط بابنتها فيرجينيا إليزا كليم بالخطوبة، ثم تزوجها لاحقًا.
بدأ بنشر قصصه القصيرة وقصائده في عام 1833 في مجلة أسبوعية تصدر في بالتيمور. وبعد ذلك بعامين عمل محررًا لمجلة "المراسل الأدبي الجنوبي"، كما كان ينشر فيها إنتاجه الأدبي. وقد شكّل ذلك نقلة نوعية في حياته العملية. ففي غضون عام، بدأ يكتسب شهرة عالية من خلال قصصه ومراجعاته الساخرة للكتب. وكانت له مساهمات في مجلات أخرى.
في عام 1837 انتقل بو إلى نيويورك وفي العام الذي يليه إلى فيلادلفيا. واستمر في تقديم مساهماته في مختلف المجلات. لكن على الرغم من نجاحه وشهرته الصاعدة، ظل يعاني من الأزمات المالية.
في عام 1845 نشر بو قصيدته المطولة الشهيرة "الغراب". وفي العام نفسه نشر كتابين. كما أنه كان يلقى محاضراتٍ تجذب أعدادًا كبيرة من المهتمين. وقد حاول إحداث تغيير في صناعة المجلات، وحاول أن يصدر مجلته الخاصة. لكنه لم يقدر على تحقيقه.
توفي بو في طروف غامضة في 7 أكتوبر 1849، ودفن في مدينة بالتيمور.