ترجمات أدبية

مادلينا غروسمان: شيء بقي وراءنا

بقلم: مادلينا غروسمان

ترجمة: صالح الرزوق

***

هبت الريح على المرفأ. ولم ألاحظها إلا بعد نهاية رحيل الحشود وصخب مودعيهم، حينها غادرت عبارتك. ثم هبت تلك الريح حولي، ومعها صيحات وصفير وبقايا المغادرين: غبار لفافات البلاستيك، كؤوس القهوة، ورق لف السكاكر، أعقاب السجائر. بعد أن عدت إلى البيت، جاءت آنا، كما لو أنني أتوقعها. جلست على طرف الطاولة الآخر فوق الشرفة، كان البحر أسود كالليل، ويترامى تحتنا. لم يكن هناك قمر، لذلك ضاع نصف وجهها، وفمها الواسع، في الظل. التمعت شمعة على نصف الطاولة الآخر: رأيت مساحة ناعمة من خديها البالغين من العمر ما يزيد على ثلاثين عاما بقليل، وحينما استدارت رأيت عينيها المتعبتين وتحتهما انتفاخات، وكانتا مصبوغتين بعناية. كانت عائدة للتو بعد غياب خمس سنوات، وقبل ساعات من رحيلك. كنت أعلم ماذا تريد. جلست قبالتي، بلا حراك، في ذلك المقعد الذي تجلسين عليه، برشاقة ودماثة وحضورك يعلن عن نفسه مختلطا بصوت البحر. وانتظرت أن أتكلم عنك. ولكن كان هناك شيء في صدري، مزيج من الغضب والألم جعل أنفاسي متقطعة، والعثور على الكلمات مستحيلا. هي تعلم أنك رحلت، ولم تأت لتسمع ذلك، على هذه الجزيرة الضيقة، الجميع يعرف من يأتي، وعلى وجه الخصوص من يرحل. كلا. كانت بانتظار شيء آخر. رأيتها تصب من العبوة، التي جاءت بها معها، في كوبين صغيرين - راكي دافئ مع العسل والليمون والبهارات. قدمت كوبا لي بيديها - كانتا مشققتين ومسلوختين بسبب الطلاء والتربنتين وغسيل الأطباق في المساء في أحد المقاهي - ثم تراجعت ولفت سيجارة. كان ذهني كالضباب، كل شيء يبدو غير مترابط وأنا أحرك كوبي أمامي على الطاولة بدوائر صغيرة. حركته بدوائر كثيرة حتى أومأت لحركة الكوب وابتسمنا لذلك، وتذكرنا أول لقاء جرى بيننا في المقهى الذي تعملين فيه. وقفت عند البار، أحرك كأس ويسكي بدوائر صغيرة، مرارا وتكرارا. استغرقت بتلك الدوائر قبل أن تجفف يديها، وتقترب مني، وتسأل إن كنت أرغب بالكلام. حدقت بها، مذهولة من اهتمامها. هل أريد أن أتكلم؟. ثم أسقط أحدهم طبقا، وحينما ذهبت لتنظيف الأرض، فكرت ماذا يمكنني أن أقول. فكرت بذلك الصباح وأنا برفقة المتطوعين الآخرين، لمقابلة اللاجئين الذين تم إنقاذهم من زوارق ضيقة مثل قبعة على الرأس. جلست بجوار مايا في المستشفى. كانت قد أخرجت من البحر وهي متمسكة بثياب وليدها البالغ سنة واحدة من العمر، ولكنها تمزقت في يدها وهي تصارع لإنقاذه. كانت نحيلة وتعرج، وكل سلطة الحياة تخلت عنها باستثناء يدها، التي حضنت سترة ابنها الزرقاء وفردة حذائه الأحمر. كانت تحضنه بقوة، كأن نارا ملتهبة صنعت له عضوا جديدا أحمر وأزرق. جلست أحرك إبهامي بدوائر صغيرة فوق يدي الثانية، آملة أن تفتح عينيها، وتصحو. وحتى حينما سقطت بالنوم، بشيء من الخشوع، لم تفلت يدها من العجينة التي بللها ماء البحر المالح. تلك الصورة - المتمسكة بقوة بالحياة - تغلغلت بي، وقفت في المقهى وراقبت دورات كأسي، مثل مهدئ يخفف من الحواف الحادة. نظرت في أرجاء المقهى لبقية المتطوعين. حشد صاخب يشرب البيرة. بعد إعانة الناجين من الزورق، كنا نلتقي دائما هناك. لم يتكلم أحد عن مشاعره. ولكن ضحكنا بصوت مرتفع، وشربنا، وعانقنا بعضنا بعضا.

قلت: لم أسمع شيئا حين عادت آنا، وهي تطرف لي بعينها من وراء دخان يعلو ويتلوى.

كررت: لم أسمع شيئا. المأساة في كل مكان حولنا، طبقات منها، وكان لدينا مأساتنا، هذه المذلة الأوروبية: الإهانة والنقص. أخرجت هاتفها، وفتحته، وعرضت علي صور رسوماتها، وكل واحدة منها عن نتائج المجاعة الإنسانية. شخرت تقول: هذه طريقة جديدة لتحطيم الروح الإغريقية، ولكنهم لن ينجحوا، نحن متضامنون!.

ضحكت حين رأيت ذراعها القوي ينسدل، ويدها تطرق البار، حتى اهتزت الكؤوس. وهكذا أصبحنا صديقتين. تفصلنا أكثر من عشرين عاما، ولكن هذا لم يصنع أي فارق.

جلسنا وشربنا معا بعد نهاية نوبتها، ثم قادتني بسيارتها إلى البيت. حينما دخلت في مركبتها البالية، رأيت علب طعام كلاب مفتوحة ومهملة عند أقدامنا، جاهزة لإطعام الكلاب الشاردة على طول طريقها. وهناك أكياس من الطعام حملتها من المقهى، وثياب قديمة، وأشياء غريبة، تفوح منها روائح المقالي والسلوفاكي، والطعام اليوناني سريع التحضير، وكنا نوزعه في طريقنا على الأصدقاء وبعض العائلات.

لم تتغير. كبرت خمس سنوات فقط، ولكن لا يزال فيها شيء قديم من العزيمة السابقة، وموقفها السلبي وأنا أصر على الكلام. كانت محتشمة بانتظارها الصامت، وبخصلات ولفافات شعرها الأشقر الغزير، وسكونها بصبر وتجلد. أردت أن أقف وأعانقها، وأن أتذكر الماضي السخي الذي عملت عليه حتى أصبح له شكل محدد. لكنني اكتفيت بالجلوس هناك، مكسورة برحيلك، وبمحاولة لإعطاء أجزاء الماضي معنى.

من بحر إيجة أطلق قارب صفرته، التفتنا بوجوهنا إلى السواد الذي وراءنا - كأنه ينادينا - ورأينا الأمواج التي تتنفس غيابك، يا كاليب، بنسائم محملة بالملح والياسمين. أعدت تعبئة كأسي ونقرت على سيجارتها المطفأة وغير المشتعلة. كنت أفكر بأول لقاء لي معها. تكلمت دون النظر إليها.

نعم، أتذكر تلك الليلة حينما أغلقت البار، وألححت أننا نشعر بالكآبة ولا يمكننا زيارة أحد. وكنت تودين أن أقودك إلى بيتك مباشرة.

قلت ملاكة. أنا أعرف هذه المرأة، كنا صديقتين منذ أيام الطفولة. وأعرف ظروف حياتها!. وعلينا أن نقابلها الليلة، لأن الحياة على جزيرة لا تتوفر للزوجات المكسورات ولكن للأصدقاء.

تتبعنا طريقنا في الممر غير المضاء ومعنا أكياس بلاستيكية من الثياب والشموع، والخبز والجبنة. وها أنت، يا كاليب، بقايا امرأة تقف في شق ضوء رفيع ينزف من تحت بابك الأمامي. يمكنني سماع كلماتك، وترحيبك، من وراء اليد التي تابعت التلويح بها - وأنت تتكلمين - وتبدين خجلك من سن مكسور. رأيت ولدين يتكئان على جدرانك، وعيونهما مثبتة على الأرض، وفكرت، بعد التفكير بكل شيء مررت به في ذلك اليوم، أن هذه الصورة هي القاضية والتي ستدفنني تحت الأرض. ولكنك استدرت ونظرت لي، فحبست أنفاسي - حجرة قدحت شرارة - وكانت نظرتك المباشرة لا ترتدع، ورأيت فيها راية حمراء. كان وجهك برونزيا، ونظرتك تتحدى. قالت: مهما واجهت من مصاعب تستمرين واقفة، تبقين على قدميك، في داخل الدائرة. كل يوم مأساة ما. وفي الليل أستيقظ مقطوعة الأنفاس، وأسقط في نفق طويل مظلم، ليس له جدران. توقعت أنني أتصدع. ثم، من حيث لا أحد يحتسب، ظهرت كاليب. استدارت آنا لتنظر لي، معتقدة كما أفترض، أنني وجدت نقطة البداية. ولكن ليس بعد. لم أجد إطارا يمكن أن يناسب قصتك دون أن تتسرب منه.

وهكذا جلسنا معا وشربنا، ونحن ننظر إلى البحر، ثم اتت نظرت لي. قلت: آنا، أذكر تلك الليالي التي كنت تقودينني فيها إلى البيت، ونحن نقدم السلات المجانية، ونكافح الإملاق، كما تقولين عنه، وحين كان لديك قائمة عناوين تزورينها، في أيام متباينة. وحينما أعربت لك عن دهشتي من خططك كلها، قلت إن الاختلاف الوحيد على ما يبدو بين اليونانيين واللاجئين الآن، والميزة الوحيدة التي بين أيدينا، هو ما يمكننا توقعه، وأن نتكهن أين يمكن أن نكون غدا، ولكن لا يمكن اللاجئين أن يضعوا خطة، عليهم أن يرتجلوا. هل تذكرين ذلك؟.

وافقت آنا بحركة من رأسها، وغطت عينيها غمامة، ونظرت لي وهي تشعل سيجارتها. وجدنا كلتانا نقطة وجع هامة.

تراجعت في مجلسي إلى الخلف، ولم أكن سعيدة لكن مرتاحة. ها أنا جاهزة لأتكلم عنك أخيرا يا كاليب.

سألت آنا: هل أنت على ما يرام Eísai kalá يا كارمين؟ هل أنت بحال جيدة.

أومأت برأسي.

سمعت صرير ورق ريزلا وهو يحترق، ورأيت طرف سيجارتها المحمر وهي تدخن، كنت ممتنة لذلك الصبر الذي يتمتع به اليونانيون حينما يستمعون: لا ضرورة للتعجل، ولا للتوقع.

قلت: بصحتك Yámas، واقتربت لنقرع الكؤوس.

بعد أسبوع من أول أمسية، قابلت كاليب بالصدفة، كنت أصعد على التلال، وكانت قد خرجت لجمع الأعشاب. جلسنا وتكلمنا، وبلا لغة مشتركة، واستعملنا الكلمات القليلة المشتركة بيننا، والتي نعرفها. كان العشب دافئا وجافا والجو مشحونا بغمامة من عطر الخزامى كانت تنبعث من كومة سحبتها دون وعي من الأرض وبدأت بتمزيق براعمها. سمت كل عشبة جمعتها، وأخبرتني كيف تستعملها. كانت لديها عادة الدق على الأرض، والتربيت عليها بحنان كأنها تشكرها على عطاياها.

زفرت آنا. قالت: كل شيء هدية لكاليب، أليس كذلك؟.

وافقت بإشارة من رأسي وابتسمت، فقد شعرت، حتى في أول أمسية، أنك ستكونين بالنسبة لي هكذا. كنت أتمنى دائما أن أهذي معك على تلك التلال - المغطاة بالأعشاب والورود البرية - أو أن نراقب معا، تبدل ألوان البحر. بدأت أعود للحياة مجددا. ساعدتها بالعثور على عمل في تنظيف مدرسة لاجئين، ومع تلك الاستقلالية الجديدة، بدا أنها تستدير بحياتها متوقعة أنه بمقدورها أن تفعل أي شيء.

قلت: إذا مكثت هناك حتى بعد توقف اللاجئين عن العبور؟.

أجابت: نعم، حصلت على عقد إيجار طويل الأمد، لهذا البيت، لذلك سأعود لمدة شهرين، أربع مرات في العام. وكلما أتيت كانت تقابلني دائما مع تلك الورود من الحديقة - دافئة ومرحبة مثل قبلة ولد صغير، وهي تتفتح الآن في زجاجة بجوار سريري. وفي كل مرة، أفكر كم أصبحت رشيقة ولا مبالية وحكيمة. كانت تمشي منتصبة، وأسنانها مطبقة بإحكام. حتى أنها تعلمت اللغة الإنكليزية، وكانت تجلس في مؤخرة الصف، وتوزع وقتها بين الأولاد والتنظيف.

وبالأمس أتت كاليب تغني وبلغت نهاية زقاقي، وتجاوزت أحواض الخزامى، ومرت من تحت نبات البوغونفيليا ووقفت أمام باب بيتي وهي تغني.

أنت تعرفين أن صوتها رخيم مثل هواء الجزيرة، وبحرها، وتلالها. وحينما تغني تمتلك الأسماع.

ضحكت وهي تتقدم قائلة: أنا هنا. وبين ذراعيها باقة صفراء، ليمونات تدحرجت على طاولة المطبخ وكانت ممتلئة وحلوة.

شعرت بها - تتنفس هواء الغرفة وتضحك وتنعم بالشمس والليمون - وكل شيء أحيته في داخلي كان يحتضر.

مبتسمة راقبت هذه المرأة - شابة بما يكفي لتكون ابنتي - وكانت تبحث في جيبها و، كما أفعل دائما، تتساءل: أي رب أو قدر ربط حياتي بحياتها. قالت: سنأخذ أشياء صغيرة من حديقتي ونزرعها على الشرفة، وحملت بيدها عقلة من شجرة ورد. وحينما أخذتها منها بكلتا يدي، غرست شوكة ضخمة بإبهامي، فانحنت بعناية لتنتزعها. فكرت: وتلك هي المعجزة، ونظرت إلى رأس كاليب التي تعتني بإبهامي: ولاهتمامها بي. حينما قابلتها أول مرة، توقعت أنني سأعتني بها. وكنت أتعجب من ذلك، ولا أزال ممسكة بإبهامي، وأضغط عليها، لتخرج نقطة دم، وهنا ابتسمت لي وقالت، الألم يجعلك أقوى. صرفت نظري عنها، ولمحت ضوءا خاطفا من الشمس على الدم، ثم جمدت. ثم قلت بصوت غريب: كلا يا كاليب. هذا غير صحيح. لا خير بالألم. حدقت بجسمها، وبالطريقة التي تغطي بها كتفيها الرقيقين - وكلاهما عظام هشة، ثم تراجعت، كارهة لكل شيء كانت تخبئه عن أعين العالم. شعرت بالبرد، دقيقة خاطفة، ونظرت إليها مستعيرة عيني، شخص آخر. قلت بصوت مكسور، وأنا أنظر إلى كم بلوزتها الطويل، ولياقتها المغلقة بالأزرار حتى رقبتها: ألن ترتفع حرارتك في هذا الرداء اليوم. وكانت المسألة كأنني شخص آخر قام بضربها.

أعادت شعرها الكستنائي للخلف وفاحت منه رائحة الصابون، راقبت وجهها من مسافة، وهو يختبئ وراء ذقن استفزازية ناتئة إلى الأعلى. فكرت: لم يكن وجهها جميلا. الأنف كبير، مكسور مرتين، والفم الصغير مدرب على السخط. كانت غاضبة، وأعلم أن ذلك بسبب تبديل مسار القصة. وبدأت أشعر بصمت أننا لن نتشارك على أي فكرة. داهمني الخوف. لم أفهم معنى ما فعلت، أو لماذا فعلته. حاصرتني بنظرتها، عيناها بنيتان لماعتان، وفيهما شرارة مشتعلة. كانت هامدة، وشعرت بارتعاشة الهواء حولها، وكنت أعلم أنها لن تكون أنيسة، حتى تستعيد ما حطمته من جبروتها الداخلي.

قلت: آسفة. ثم بأمل يائس انتظرت. لم ترد. انتظرت، وراقبتها وهي تغسل يديها، وكانت قوية ومطمئنة. وتابعتها وهي تستدير لتغلي القهوة، ورأيت حركاتها السريعة حين تحضر الأكواب، ثم فتحت الأدراج من أجل الملاعق والفوط، بحركات سريعة ومتهورة، حتى أصبح للصمت صوت مسموع. كل شيء كان ساكنا في ذلك الانتظار الصامت، صداقتنا وخط الخطأ الذي فرضته.

استدارت آنا بوجهها نحو الخلف بعكس جهة البحر. لماذا وجهت إليها ذلك السؤال يا كارمن، لماذا؟. رشفت الراكي، وشعرت بحرارته وهي تلذع فمي، وشعرت به يلسع الأطراف بألم يفجر الدموع والذي نذعر به حينما نحطم حياة ثم نحاول تجميعها مجددا. ولأنني كنت مضطربة. ربما شعرت بالذنب. نعم الذنب. الذنب؟. رفعت نظرها وهي تعيد ملء الكأس متسائلة. صمتي. صمتنا. وفضولها المرحب به.

واقفة في ذلك المطبخ بالأمس في وسط صمتك، تذكرت الظلام المرعب الذي أتى بي عنوة، في إحدى المرات، وكيف أنت وصلت، يا كاليب، وأنا أخاطر بالهبوط. وكنت مكسورة - ولكنك قدمت لي المساندة.

راقبت كاليب وهي تصب القهوة وتحمل فنجانين إلى الطاولة، حيث توجد ثلاث وردات توباز مقطوفة وكانت مرصوصة بجانب الليمون.

قالت: كيف إبهامك، واستعادت موسيقية صوتها الرخيم.

قلت وأنا أبتسم من وراء وردات التوباز والليمون الذي احتفظ بابتسامتها: أفضل. أفضل بكثير.

سرحت شعرها إلى الخلف، وجرت كميها إلى الأسفل حتى رسغيها، وأشارت قائلة: الألم جمعنا معا، ولكننا انتصرنا عليه، ألمك وألمي. والآن لنترك كل ذلك وراءنا.

وهكذا تقريبا تواصلنا، ثم انتهى كل شيء، تلك المحادثة التي لم تنعقد أبدا.

كما ترين، علقت بسحرها الذي يروي ما يسر. مع أنني أعلم أنه مموه - بالابتسامات، وباقات ورود الحدائق - والجروح السود والبنية والحمر تتوزع كالقبلات على جسمها نتيجة الضرب بالأثاث الذي يوضع في طريقها أو يلاحقها خلال هبوطها على السلالم إلى البيت.

كانت لامبالية بطريقة كلامها، وطريقة ابتسامتها، وطريقة رفع رأسها. وكان إشراقها يبدو أنه يوازن بين ليل ونهار الحياة.

قالت آنا: أعتقد أن إشراقتها طريقة للتأقلم، وللتعتيم على كل تلك الآثار التي تحملها في الداخل الكثير من أمهاتنا وشقيقاتنا وخالاتنا وصديقاتنا.

أومأت بالموافقة. نعم. هكذا الأمر، يا كاليب، وأنا أدرك هذا الآن. كان هذا ذاتك المشرقة التي أحببتها كثيرا - فقد شعرت بالبقاء في وجودك - كانت راحتاي حول شعلتك، وهذه هي الصلاة.

جاءت اليوم كاليب، وهي ترتجف أمام باب بيتي، وأحضرت أولادها لسبب ملح، ومعها أكياس بلاستيك تحتوي ثيابا مغسولة للتو، وذلك لتجفيفها قطعة قطعة على شرفة ببتي. وقالت إنه عليها أن تغادر في تلك الليلة لأنه في هذه المرة شرع بقتلها، فأتت إلي لأنها تشعر عندي بالأمان، ويمكنها أن تتستر على فراقها للجزيرة.

كانت مذعورة - تتمسح حول البيت - وتجعل من فكرة الرحيل كأنها غبار يمكن تنظيفه. راقبتها، ورأيت رضوض ذراعيها ورقبتها واضحة وقد نسيت أن تخفيها وهي تضع الخطط العاجلة للرحيل. أحببتها بعاطفة تشبه السخط الذي تتقنه النساء، حين تشهدن على تراجع روح المقاومة فيهن. وشعرت بذلك، ونحن ننظر للنهار في الخارج، وراء نوافذ مغلقة، بانتظار المساء، وسر الرحيل.

جلست بحضور دموع الأولاد، مستسلمة وأختنق. لم يودوا فراق: أصدقائهم، ومدرستهم، والجزيرة.

ولكنهم يعلمون بكل الرضوض التي لم تفارق نظرهم مهما حاولت أمهم التستر عليها، وكل العظام المكسورة، وكانوا أمام الباب، ويضغطون على القفل. شاهدتهم حينما كانت أغنية الجنادب تعبر عن الحر في الخارج، وراقبنا كالي تذرع الأرض، تذرعها في غرفته غير المضاءة - منفصلة عن نفسها - وهو شيء غريب عنا. غادرنا بعد أن حل الليل في الخارج - امرأتان وولدان - نركض في الظل كأننا نهرب من حرب، دون مكاسب، وبحماقة، ومعنا أكياس الغسيل البلاستيكية التي ترتطم بسيقاننا، وأنفاسنا المتقطعة تتابعنا في الزوايا المعتمة ومن خلف الأشجار حيث تختبئ السيارة. حشرنا أنفسنا فيها، دخلناها عنوة، وأكياس بلاستيك فوق أكياس بلاستيك، ثم بدأت بالقيادة.

كيس قريب من صدري وفيه ملاءتان، وهي المفروشات الوحيدة التي بقيت لها. جلسنا ببلادة مثل كل تلك الأكياس الصامتة والمتعرقة. دون لغة. ولكن كانت هناك ضجة. استمعنا لطرقات المحرك، صوت خافت ملحاح لم تود سماعه، وبين بكاء الولدين الهادئ، ارتفع الصوت وخرق الصمت. كنت منتبهة له - لم ينقطع مثل تلك الملاءات الرطبة المضغوطة على صدري - وعلمت أن المحرك يحتاج لعناية وهي غير جاهزة لسماعه وأن ما أمسكه بين ذراعي هو كل ما يعزلهم عن الشارع ولكن لم أسأل ماذا لو حصل ما نكره؟. كانت قادرة على التخطيط للرحيل، وما تبقى يمكنها أن ترتجله.

في المرفأ، وقفت بالسيارة في الزقاق بانتظار وصول العبارة، وأطفأت المحرك، وجلست بين الولدين في الخلف، وأحيانا كانت تمد يدها لتلمس رأسي.

نظرت إلى الرصيف حيث ينتظر الناس ليغادروا أو يودعوا المسافرين. هناك كنا نحن، المتطوعين في أثينا نأتي في الأسبوع مرتين لنقف مع اللاجئين بانتظار زورق مبحر إلى أثينا. أول مرحلة من رحلتهم إلى أوروبا وكنا نساعدهم على ركوبه.

انتظرنا معا، لنشاهد العبارة آتية، وهي تناور بحجمها الواسع لتدخل في المرفأ. وكتلتها اللماعة تشق عباب الليل - مثل قصر عائم. راقبنا الجسر المتحرك وهو يقعقع، ويفتح أطرافه، والضوء ينصب منه، والسعادة التي رافقت تدفق الناس. كانوا يتقدمون على أمل العثور على مكان. وقفنا وبكينا معا، ثم وقفنا ونحن نلوح، وضفة من النور المتألق يفيض على الطرف المعتم من البحر. لم نسأل ماذا سيفعلون بعد وصولهم. لا يسع اللاجئين التخطيط مسبقا، ولكنهم يرتجلون. وبدأت الأنوار من السيارات تشكل خط انتظار آخر، وكانت كاليب ورائي، تلمع في المرآة، وذراعاها يحيطان بكتفي ولديها، وأصواتهما مثل ثلاث موجات حزينة ترتطم ببعضها البعض. ثم بدأت شرطة المرفأ تعوي بين زحام المنتظرين والمتململين. فتح الرصيف أبوابه وجاءت العبارة، وتمهلت كتلتها بين أسلاك الحواجز الملتصقة بالرصيف. وزمجر رصيف مزدحم وهو يفتح فمه غير الصبور لتمر منه الشاحنات نحو المخرج، ولتدخل شاحنات وسيارات غيرها. كانت كاليب وراء المقود وعندما وصلت الإشارة بالحركة، تراجعت وقبلت الطفلين وعانقتها، ولم أتمكن من العثور على كلمة واحدة بريئة من احزان ثقيلة يصعب حملها على القارب. تماسكنا بالأيدي، وابتسمنا للضوء المبعثر الذي كان يومض من جهة الشاحنات الزاحفة - خيوط من ابتسامات سالت على خدينا وأكلتها الظلال الرقيقة - أغلقت ذلك الباب، ولاحظت كيف أصبحت هزيلة، طفلة تقود ولدين إلى خط انتظار السيارات الواقفة وراء الشاحنات. كان علي أن أسال إلى أين ستذهب بعد وصولها إلى أثينا. وقفت بجانب السيارة حالما بدأت تتحرك، لتمر من بين صيحات توجيه طابور الزحام، وعلقت بين أصوات الأبواق والمنبهات، والسيارات والشاحنات، وحاولت أن أواكبها - وأردت أن أشاهدها وهي تستدير برأسها وتنظر لي مرة أخرى - أسرعت أجري إلى الأمام وحول الشاحنات ثم وقفت بالقرب من المعبر وهي ينخفض بانتظار وصولها، هذه هي السيارة مجددا، وهناك ثلاث وجوه شاحبة ينيرها ضوء المرور - وكنت مختبئة كما لو أنني في حلم، أو فيلم أو حياة أخرى - ثم مرت اللحظة. لا أعلم إذا لاحظت وجودي، لأنها لم تنظر، ولم يتبق معها علم المقاومة الأحمر بعد الآن.

مدت آنا يدها على الطاولة، ووضعتها فوق يدي. ثم قالت، وكان عليها ذلك، أنها لن تعود، وهي ليست قادرة على العودة. وليس بسبب الخوف منه، كل الجزيرة ستقف ضدها إذا تركت الولدين. وسيحاول أن يجدها، ولذلك لن تتصل بك أو بي أو بأي صديق.

سحبت يدي، وأنهيت كأسي، ووضعتها على الطاولة بضربة قوية، قاسية، وحركات سريعة تقول: أنا أعلم ذلك فعلا. ونهضت، ووقفت لأنظر من فوق الجدار المنخفض إلى البحر.

سألتني: هل أنت على ما يرام؟.

لم أرد.

أعتقد أنك تحاولين إخباري أنه حينما كانت كاليب تعيش هنا، كانت لديها طريقتها بامتلاك الجزيرة ولكنها أصبحت الآن... مثل لاجئة، وهذا كل شيء؟.

قلت: سمحت لنفسي بالكلام عما جرى، ولكن ليس هذا ما أردت قوله تماما.

قالت آنا: ولكن هذا صحيح يا كارمين. ويجعلني حزينة. سمعت نبرة لصوتها. فقد كبرنا معا على هذه الجزيرة ولكنها رحلت الآن، ولم تترك خلفها غير الصمت والمشقة. كانت تبكي، ولم أرغب بتقديم كلام معسول لتهدئتها، ولا حتى أن أستدير لأمنحها نظرة أخيرة.

ألست حزينة يا كارمن؟. ثبت عيني على البحر، واتساعه الأبيض والأسود الهائج.

جاءت آنا ووقفت بجانبي. سألتني: ماذا حدث لك، ونظفت أنفها. كنت مليئة بالعاطفة حينما كان اللاجئون يعبرون.

لقد تغيرت.

أنفقت سنتين غارقة بالحزن، يا آنا، ثم قابلت كاليب. ولو كنت مؤهلة لأشعر بشيء ما الآن، سيكون الغضب، ولكن المسألة معقدة أكثر من ذلك. في المكان الذي أتيت منه، حينما نفقد الأصدقاء، نشعر بالحزن، نعم، ليس الغضب، ولكنها مشاعر على أي حال... نحن لا نجلس ونفكر بذلك.

كانت آنا تلف التبغ بورق سيجارة عنوة. وكانت حانقة وأرادت مني أن أشعر بنفس الحنق. رمتني بنظرة ملتهبة، قبل أن تشعلها. قالت: من قبل قلت انك شعرت بالذنب، وعلينا جميعا أن نشعر بالذنب، وصمتنا المشترك أجبرها على الخروج.

ربما، ولكن هذه قصة غيرها. وأنا أحاول أن أتذكر ما تركته وراءها لأنه بدل الطريقة التي أبصر بها.

كانت ولاعة آنا لا تشتعل. وكلما قدحتها، تضيء وجهها شرارة ضعيفة، وتلمع بشفرة مورس غامضة تدل على الحزن. ولبعض الوقت، غمرتني المشاعر، وأوشكت أن أميل وأحضنها - وأتفاعل مع دموعها. لكن امتنعت عن ذلك.

قلت: اسمعي يا آنا. أول عيد ميلاد مر هنا، غرق خلاله تسع أطفال بعبور واحد. ولم يصدق أي من الناجين أن أطفالهم ماتوا. وتوجب علينا نحن المتطوعين أن نرافق الآباء ليتعرفوا على الجثث. كانت المشرحة ممتلئة، ولذلك تم إقامة وحدة تبريد وكانت موصولة بجدار الكنيسة في باحة المستشفى. وهي بناء طويل يحتوي على أدراج متسلسلة كانت منتصبة كأنها الرب لتعلن عن حقائق مؤكدة. ولتؤكد ما لا يريد أحد أن يقر به. كانت الرياح ساكنة، والشمس غسلت اللون الأزرق البراق لقوس السماء وأنارته. تجمعنا حول الثلاجة في طقس يناسب العطلة تماما. وحينها فتحوا الثلاجة. ورن صوت المعدن وهو يفتح. وارتعش الهواء بينما كان المعدن يقرقع، وتبعه صوت زيت سائل صدر عن انزلاق الأدراج، مترجما وزنه القليل المزعج. ثم بدأ كل شيء: البكاء النسائي الثاقب الذي مزق الهواء، وشق عباءة السماء الحريرية. عشت وتذكرت تلك الدقيقة، دمدمة المولدة، وصوت الأدراج وهي تنزلق لتفتح، وبكاء الأمهات، وفي أحد الأيام رويت ذلك لكاليب. وأستطيع أن أقول إنها تأثرت، ولكن قالت: ثم ماذا حصل؟. ماذا جرى بعد ذلك؟ لم أفهم. نظرت لي نظرة قاسية وقالت: كل ما قدمته لي هو الجزء المزعج. وبعد هذا، وبمئات الطرق البسيطة، سيواصل أولئك البشر طقوس متابعة حياتهم. وهو الجزء الذي أريد أن أسمع عنه، كيف ينهض الناس، مرارا وتكرارا، ويمتلكون زمام حياتهم مجددا. 

اقتربت من الجدار المنخفض وجلست، وتنفست من تلك المسافة المالحة الرائعة التي كانت عبارتك تتعمق فيها، تحت رف السماء، بطيئة وسوداء، ثم تتحول تدريجيا لمضيئة ووردية.

تنهدت آنا، ثم جلست على الجدار بقربي. أشرقت الشمس. وتعجبت فجأة، وهي تشير إلى المكان الذي انشقت السماء منه. وراقبنا أول شعاع نور، خفيف ثم مؤكد، وهو يتمدد بعرض البحر، وتذكرت الأيام الصباحية التي أتيت فيها. قلت: أحيانا وهي في طريقها إلى البيت كانت توقظني باكرا، بيدين ناعمتين وحمراوين وتفوح منهما روائح الخبز. أعرف تلك الأوقات الباكرة التي تتلو الليالي، وحينها يكون مخمورا وهي تكسب بعض الرضوض الجديدة وتخبئها. لم نناقش ذلك أبدا. جلسنا نشرب القهوة - وقطع من فطيرة سباناكوبيتا السميكة والدافئة بيننا. كنا نجلس ونتكلم ونواصل الكلام. بتيار هادئ عن هذا وذاك: نصيحة تقدمها لابنتها التي تنضج، ومتى تقطف الزيتون، وأين تجد أفضل معصرة للزيت، وماذا تزرع لتفيد الأرض، وكيف تصغي للريح.

وحتى بعد أن ذهبت إلى بيتها، لا زلت أسمع الصوت المميز - تلك الدمدمة لحياكة الكلام، وهي تقفل على ثغرات الحياة، وتلتقط الخيوط التي انفصلت - لتعديل الطراز وتجديده.  ضحكت آنا. وأراهن أنها أخبرتك أين توجد أفضل ثمار التين، أو نوع الحساء المناسب للمريض والمفجوع. قلت: أو كيف تهدئين صديقة. ثم استدرنا وتعانقنا، فبكت على كتفي. دخلت آنا وسقطت بالنوم. انتظرت، دون حراك، على هذا الجدار المنخفض، أصغي بانتباه وأنتظر، حتى سمعت - أصواتنا - وهي تنسج في بدايات الضوء البنفسجي، وخلف البيت كان البحر يجري. ثم أغنيتك.

بعد ذلك استيقظت كل الأرض، والضياء، وعطور الجزيرة. وعلمت أنني وجدتها، موجودة داخل أغنيتك نصف البكماء. جنين الشيء الذي تركته وراءك: ما نعرفه ولا نجرؤ على الإقرار به، ما يفترض أن أحتفظ به، للذين سيأتون لاحقا.

قالت آنا: لا زلت لا أقتنع أنها رحلت، وكانت على الباب تستعد للمغادرة. حضنتها بقوة ولكن لم أرد.

لاحقا شعرت بقدوم الريح، التي كانت تدور حول المرفأ حينما ابتعدت عبارتك. وفجأة وبشكل حتمي، أسرعت حولي، محملة بغبارنا وأنفاسي المتقطعة والدامعة.

***

...............................

* مادلينا غروسمان Madelena Grossmann كاتبة بريطانية. درست في جامعة واريك وساسيكس. وتحمل درجة في القانون من جامعة فريجي في بروكسل. تعيش في أثينا / اليونان.

في نصوص اليوم