علوم والذكاء الاصطناعي
ايمان دواس: التحوّل نحو الطاقة النظيفة

استراتيجية حتمية للحد من الاحتباس الحراري
مقدمة: في زمن يتسارع فيه التغير المناخي وتُسجّل فيه درجات الحرارة معدلات قياسية سنة بعد أخرى، لم يعد الحديث عن الطاقة النظيفة خيارًا بيئيًا نخبويًا، بل ضرورة استراتيجية تمسّ الأمن العالمي، والاقتصادات الوطنية، ومستقبل الحياة على كوكب الأرض.
الاحتباس الحراري ليس ظاهرة مستقبلية كما كان يُظنّ في العقود السابقة، بل هو واقع يفرض نفسه بقوة اليوم. ويكاد يجمع العلماء والباحثون على أن الحل الجوهري والجذري يكمن في التحوّل الشامل والعادل إلى مصادر الطاقة النظيفة، كوسيلة رئيسية لكبح جماح الانبعاثات الكربونية، واحتواء الاحترار العالمي.
ما هو الاحتباس الحراري؟ ولماذا الطاقة في قلب المشكلة؟
يحدث الاحتباس الحراري عندما تتراكم الغازات الدفيئة (مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان) في الغلاف الجوي، فتمتص الحرارة وتمنعها من التسرّب إلى الفضاء، مما يؤدي إلى ارتفاع متوسط درجات الحرارة على الأرض.
تُعد مصادر الطاقة الأحفورية (النفط، الفحم، الغاز الطبيعي) مسؤولة عن أكثر من 75% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عالميًا، وذلك بسبب استخدامها في توليد الكهرباء، النقل، الصناعة، والتدفئة.
إذن، التحوّل إلى الطاقة المتجددة — مثل الشمس، الرياح، الطاقة المائية، والطاقة الحرارية الجوفية — هو في صميم أي استراتيجية فاعلة لمعالجة الأزمة المناخية.
الطاقة النظيفة: أكثر من مجرد بديل
التحول إلى الطاقة النظيفة لا يعني فقط تبديل نوع الوقود، بل هو نقلة نوعية شاملة في نمط الإنتاج، والبنية التحتية، والسياسات الاقتصادية.
أهم ميزات الطاقة النظيفة:
- انعدام الانبعاثات الكربونية أثناء التشغيل.
- مصادر مستدامة وغير ناضبة، عكس الوقود الأحفوري.
- توفر على المدى الطويل، مع انخفاض تكلفة الإنتاج بفضل التطور التكنولوجي.
- تحفيز الابتكار وفرص العمل الجديدة، خصوصًا في مجالات تركيب وصيانة أنظمة الطاقة الشمسية والرياح.
- تقليل الاعتماد على الوقود المستورد، وتعزيز الأمن الطاقي للدول.
لكن رغم هذه المزايا، لا يزال العالم يواجه تحديات كبيرة في تنفيذ هذا التحوّل.
تحديات التحوّل الطاقي: من البنية إلى الإرادة
1. البنية التحتية القديمة
معظم شبكات الكهرباء حول العالم صُممت لتعمل مع محطات تقليدية تعتمد على الفحم أو الغاز. إدماج مصادر متقطعة مثل الشمس والرياح يتطلب تحديثات واسعة في الشبكات، وتخزين الطاقة، وإدارة الأحمال.
2. الكلفة الأولية
رغم انخفاض تكاليف تقنيات الطاقة المتجددة بشكل كبير في السنوات الأخيرة، إلا أن الاستثمار الأولي في محطات جديدة أو بناء شبكات ذكية لا يزال يمثل عائقًا أمام العديد من الدول النامية.
3. الضغوط الجيوسياسية واللوبي الصناعي
لا يمكن تجاهل تأثير المصالح الاقتصادية لشركات النفط الكبرى، التي تملك نفوذًا سياسيًا وإعلاميًا، قد يعيق أو يؤخّر عمليات الانتقال الطاقي، خاصة في الدول التي تعتمد ميزانياتها على صادرات الوقود الأحفوري.
4. الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة
بينما تمتلك الدول الصناعية الموارد للتحديث السريع، فإن الدول النامية بحاجة إلى دعم مالي وتقني لتجنّب الوقوع في فخ "الطاقة القذرة" بسبب التكاليف الأرخص للوقود الأحفوري.
أمثلة من الواقع: كيف تغيّرت المعادلة؟
- السويد: تسير بثبات نحو أن تكون أول دولة خالية من الوقود الأحفوري بحلول 2045، بفضل استثمارات ضخمة في الطاقة المائية والرياح والنقل الكهربائي.
- الصين: أكبر مستهلك للفحم، لكنها أيضًا أكبر مستثمر عالمي في الطاقة الشمسية والرياح، وتسعى لخفض انبعاثاتها تدريجيًا لتبلغ ذروتها بحلول 2030، وتصل إلى الحياد الكربوني في 2060.
- الإمارات العربية المتحدة: استثمرت بقوة في الطاقة الشمسية، وبنت واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم (مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية في دبي)، في خطوة تُظهر تحوّلًا استراتيجيًا في المنطقة.
الطاقة النظيفة كفرصة تنموية واقتصادية
بعيدًا عن البعد البيئي، يشكل التحول نحو الطاقة المتجددة فرصة اقتصادية ضخمة، خصوصًا للدول ذات الموارد الشمسية أو الرياحية الغنية.
بحسب تقرير للوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA)، فإن التحول الكامل نحو مصادر طاقة نظيفة يمكن أن يوفّر نحو 122 مليون وظيفة بحلول عام 2050، معظمها في مجالات التصنيع، التركيب، والتشغيل.
كما أن الاعتماد على مصادر طاقة محلية يقلل من تقلبات أسعار النفط العالمية، ويُحصّن الاقتصادات من الأزمات السياسية التي تؤثر في سلاسل التوريد.
هل التحوّل كافٍ وحده للحد من الاحتباس الحراري؟
الإجابة المختصرة: لا.
التحوّل الطاقي هو العمود الفقري لحل الأزمة المناخية، لكنه ليس كافيًا وحده. المطلوب هو مقاربة شاملة تشمل:
- تحسين كفاءة الطاقة في المباني والمصانع.
- التحوّل إلى النقل الكهربائي.
- تقليل الهدر الغذائي، وتغيير بعض أنماط الاستهلاك.
- دعم الزراعة المستدامة والغابات كمصارف كربون طبيعية.
- تغييرات في سلوك الأفراد والشركات والمؤسسات.
العدالة المناخية: لا تحوّل بلا مساواة
من المهم أن يتم هذا التحول بطريقة عادلة ومنصفة. على الدول الصناعية، التي تسببت تاريخيًا في معظم الانبعاثات، أن تقدم دعمًا حقيقيًا للبلدان النامية، عبر:
- نقل التكنولوجيا النظيفة.
- تمويل المشاريع المستدامة.
- إلغاء ديون مقابل مشاريع بيئية.
- تدريب الكوادر البشرية في القطاعات الجديدة.
خاتمة: نافذة الأمل لا تزال مفتوحة
رغم التحديات، فإن العالم أمام فرصة حقيقية لإعادة ضبط مساره. التكنولوجيا موجودة، والوعي يتزايد، والدعم السياسي بدأ يتشكل في أكثر من ساحة.
إن التحوّل نحو الطاقة النظيفة ليس مجرد حلّ بيئي، بل رؤية حضارية لمستقبلٍ أفضل: مستقبل يكون فيه النمو متوافقًا مع الاستدامة، والتطور الاقتصادي متناغمًا مع حماية الكوكب.
السؤال ليس ما إذا كان علينا التحوّل، بل: هل سنفعل ذلك في الوقت المناسب؟
***
ايمان دواس