علوم والذكاء الاصطناعي
مجيد ملوك السامرائي: هندسة خرائط القوة الرقمية

والصراع الفضائي الجيوسياسي العالمي (2050)
القوة القومية والدولية في مطلع القرن الحالي تقاس اليوم بالقدرة الرقمية (وهي قوة الدولة/ المؤسسة في امتلاك وتوظيف البنى الرقمية/ شبكات، بيانات، ذكاء اصطناعي) وتعد عنصرًا بنيويًا مكافئا للقوة العسكرية والاقتصادية التقليدية. فقد أسست العولمة الرقمية لفضاء تنافسي جديد تُقاس فيه المكانة؛ بمدى امتلاك البيانات والقدرات الحسابية والبنية التحتية للاتصال والتحكم في سلاسل القيمة الخاصة بالرقائق والعتاد والبرمجيات. وفي هذا السياق تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة مساعدة إلى مضاعف قـــوة يسرّع من دورات القرار والابتكار والعمليات ذات الصلة.
العولمة الرقمية وتحولات الذكاء الاصطناعي
ملامح العولمة الرقمية تتمثل بكل من؛ انتشار الاتصال الدائم عالي السعة عبر الكابلات البحرية والأقمار الصناعية، ورسملة البيانات (أي تحويل البيانات إلى أصول اقتصادية قابلة للاستثمار والربح) من خلال المنصات السحابية العابرة للحدود (وهي بنى حوسبة سحابية تعمل دوليًا خارج نطاق سيادة الدولة الواحدة)، وتكامل شبكات G5 /G6 مع إنترنت الأشياء (وتعني دمج شبكات الاتصالات فائقة السرعة مع الأجهزة المتصلة بها لتعزيز الترابط الذكي).
اما تحولات الذكاء الاصطناعي فتمت؛ بالانتقال من النماذج المتخصصة إلى نماذج متعددة المهام مدعومة بموارد حوسبة هائلة، كما تم دمج الذكاء الاصطناعي في سلاسل القرار التشغيلي والحكومي، إضافة لتصاعد الاهتمام بحوكمة المخاطر (وتعني إدارة المخاطر الرقمية والأمنية وفق سياسات منظمة) عبر التشريعات الأوروبية ومبادئ اليونسكو. وفي مجال اقتصاد الرقائق والحوسبة برز التنافس على أدوات الطباعة الضوئية والتصميم والتصنيع، كما برز أيضا تأثير ضوابط التصدير على إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية (وهي شبكات معقدة تجمع مكونات منتج معين من عدة موردين ثم توزعها عبر الحدود بسلاسة، مثل مكونات الهاتف الذكي، وتمثل اليوم العمود الفقري للتجارة العالمية).
التنافس الجيوسياسي في الفضاءين الرقمي والفضائي
ويقصد بهما الفضاء الإلكتروني/ الإنترنت، والفضاء الخارجي/ الأقمار الصناعية، ويتمثل هذا التنافس بكل من؛
الفضاء السيبري (أي المجال الافتراضي لشبكات المعلومات والاتصالات) من خلال الصراع على المعايير وحماية البنى التحتية، وتزايد الهجمات على سلاسل التوريد.
وفي الفضاء الخارجي يبرز التنافس بعسكرة متصاعدة، وتجارب مضادة للأقمار الصناعية، وسباق على خدمات المدار الأرضي المنخفض التي توفر ارتباطا اسرع بالأرض (شبكة أقمار ستارلينك)، وبالتالي تفاقم مشكلات الحطام الفضائي والتزاحم المداري.
اما التنافس بالقوة التنظيمية والقانونية فقد تجسد بعدة قوانين مثل؛ قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، واتفاقية بودابست لمكافحة الجرائم السيبرانية، ونقاشات الأمم المتحدة حول قواعد السلوك السيبري. ومع ذلك استمرت فجوات تطبيق القانون الدولي بشأن النزاعات السيبرية (أي قانون النزاعات المسلحة في الفضاء السيبري/ كدليل "تالين" الذي يتضمن قواعد دولية لتنظيم الحروب والهجمات في الفضاء الإلكتروني).
ممارسات الجيوبوليتيكا الرقمية والذكية
1. البنى التحتية الحرجة كنقاط اختناق إستراتيجية، والمتمثلة (بالكابلات البحرية) لنقل الإنترنت عالميًا عبر المحيطات.
2. مراكز البيانات والسيادة الرقمية.
3. الأقمار الصناعية التجارية في دعم الاتصالات الميدانية.
4. سلاسل توريد الرقائق والمعايير الانتاجية، بالتنافس على التصميم والتصنيع المتقدم، وإعادة التموضع الإقليمي لها.
القيود على إعادة التموضع الإقليمي:
1. تواجه جهود إعادة التموضع الإقليمي لسلاسل التوريد العالمية صعوبات عديدة في نقل البنى الرقمية (السحابية/ وهي أنظمة لتخزين ومعالجة البيانات) بين الدول، لأسباب سياسية/ قانونية. والتي تتضمن المعلومات والتأثير بالتزييف العميق والعمليات المعلوماتية والنفسية، وذلك عبر المنصات الرقمية باستخدام محتوى مزيف (صورة/ فيديو/ صوت) للتأثير او التجنيد لأهداف معينة.
2. المجال السيبري الهجومي/ الدفاعي: باستخدام القدرات الرقمية للهجوم الإلكتروني أو الحماية منها، مثل تطور أدوات الاستغلال والهجمات عبر سلاسل التوريد، مقابل بناء المرونة الوطنية والقطاعية.
مستقبل الحروب والصراعات الرقمية حتى 2050
1. الحرب السيبرانية: وتمتد من التعطيل الاقتصادي إلى استهداف البنى الحيوية، مع صعوبة (الردع والنسْب/ اي تحدي منع الهجمات السيبرية، وصعوبة تحديد منفذها بدقة).
2. الأسلحة والمنظومات ذاتية التشغيل: أي الأسلحة والمنظومات ذاتية/ او شبه ذاتية التشغيل، وتتمثل بأنظمة عسكرية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتعمل بحد أدنى من التدخل البشري. وكذلك اسراب الدرونز الجوية والبحرية والبرية، إضافة للأنظمة الأخرى المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
3. حروب الفضاء: وذلك بحماية الأقمار الصناعية ، وبدائل الاتصالات، (ومخاطر الحطام الفضائي/ وهو بقايا الأقمار، والتي تتركز بارتفاع يصل لأقل من الف كم).
4. العمليات المعلوماتية: عبر التزييف العميق بالذكاء الاصطناعي (وهي تقنية تستخدم التعلم العميق بأنشاء محتوى مزيف)، وحملات التضليل في السياقات الانتخابية والسياسية.
5. القوى المحلية: وتتمثل بتبني جهات شبه رسمية قدرات رقمية فعالة ومنخفضة التكلفة، تؤثر على التوازنات الأمنية.
جغرافية الصراعات الاستراتيجية العالمية بآفق (2050)
1. الصراع على البنية التحتية الرقمية (مضيق تايوان والكابلات البحرية)، ويمثّل بنية تحتية رقمية حساسة قد تتحوّل إلى هدف لصراع استراتيجي. وموقعه بين الصين وتايوان، ويُعدّ أحد أهم الممرات البحرية العالمية، وتتمثل أهميته الرقمية؛ بشبكة كابلات بحرية تمر عبره وتربط شرق آسيا بالعالم (اليابان، هونغ كونغ، سنغافورة، الولايات المتحدة). اما البُعد الجيوبوليتيكي فيكمن في اعتبار الصين لتايوان بأنها جزءًا منها، بينما تعتمد تايوان على هذه الكابلات في الاقتصاد الرقمي، والأمن القومي. وعليه فأن أي انقطاع متعمّد أو غير متعمد للكابلات في هذه المنطقة قد يشلّ اقتصادًا رقميًا حجمه مئات المليارات، وهذا ما يؤثر على سلاسل التوريد العالمية.
2. الحرب الهجينة (الرقمية – السيبرانية/ الفضائية)/ أوكرانيا، وتمثل تحولات الحروب بفعل الذكاء الاصطناعي والاتصالات الفضائية. وموقعها شرق أوروبا والذي يشكل بؤرة الصراع الروسي – الغربي، وتكمن الأهمية الرقمية لهذه الحرب بالهجمات السيبرانية الضخمة (مثل اختراقات البنية التحتية للطاقة والبنوك)، إضافة إلى استخدام شبكة ستارلينك كبديل للاتصالات العسكرية والمدنية. اما البُعد الجيوبوليتيكي فيكمن بالصراع الذي اصبح يمثل نموذجًا جديدًا بتداخل الصراع السيبراني والفضائي والميداني. وهذا مما يؤكد أن الحروب الحديثة لم تعد عسكرية بالأسلحة التقليدية فقط انما حروب هجينة رقمية – سيبرانية/ فضائية.
3. تحول الحروب من جيوش نظامية إلى فاعلين محليين، وذلك بحيازتهم لأدوات تكنولوجيا الحرب الرقمية، فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط جغرافيا من تركيا الى باكستان تكثيفًا لاستخدام الطائرات المسيّرة (درونز) في النزاعات الداخلية والإقليمية. ويكمن بُعدها الجيوبوليتيكي بالاستخدام المحلي لتقنيات منخفضة الكلفة وبفعّالية عالية جدًا (درونز رخيصة تُصنع محليًا، أو تُجمع من مكونات تجارية)، وعليه فأن استُخدمات الدرونز في ضرب منشآت حيوية، يكشف هشاشة الأمن الإقليمي أمام الذكاء الاصطناعي والطائرات غير المأهولة.
رؤية مستقبلية حتى 2050
1. الحكومات؛ ينبغي صياغة إستراتيجية وطنية موحَّدة للذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. وتحصين البنى التحتية (الكابلات، المراكز، الأقمار) بالتوافق مع القوانين والمعايير العالمية. وحوكمة مسؤولة، بوضع قواعد أخلاقية وقانونية لاستخدام الذكاء الاصطناعي. وتعزيز التكامل المدني – العسكري في مواجهة التهديدات العابرة للقطاعات، مع دبلوماسية سيبرية وفضائية نشطة بتحركات دولية منظمة لإدارة قضايا الأمن الرقمي والفضائي، ومنع الحطام الفضائي بسياسات وتقنيات متعددة لتقليل النفايات في الفضاء الخارجي.
2. المؤسسات؛ وجوب تبني أطر إدارة مخاطر الذكاء الاصطناعي. باعتماد هندسة أمنية "صفرية الثقة"، وخطط استمرارية لأعمال مدعومة بالسُحُب المتعددة (أنظمة لتخزين ومعالجة البيانات بشكل مركزي أو موزع)، وبأنشطة اقتصادية/ خدمية موزعة على أكثر من سحابة في مناطق جغرافية مختلفة لضمان الأمان والاستمرارية.
3. الأفراد والمجتمع؛ السعي لتعزيز محو الأمية الرقمية والإعلامية. وحماية الهوية والأمن الشخصي الافتراضي، وتطوير مهارات البيانات والبرمجة، وفهم أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
هـكذا تشير الاتجاهات الرقمية الراهنة إلى أن؛ خرائط القوة العالمية بحلول 2050 ستُعاد صياغتها عبر التحكم؛ بالفضاءين السيبري - الفضائي، وضبط سلاسل الرقائق والمعايير الرقمية، وامتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي القابلة للحوكمة. ولن تُقاس القوة بعد اليوم بالأسلحة التقليدية وحدها، انما بقدرة الدول على بناء قوة ذكية رقمية تمزج بين؛ التكنولوجيا، والقانون، والدبلوماسية، مع مرونة مجتمعية واقتصادية عابرة للحدود.
***
ا. د. مجيد ملوك السامرائي - كاتـب اكاديمي
...................
المراجع:
1. European Union. (2024). Artificial Intelligence Act, Regulation (EU) 2024/1689. Retrieved from
https://eur-lex.europa.eu/eli/reg/2024/1689/oj
2. UNESCO. (2021). Recommendation on the Ethics of Artificial Intelligence. Retrieved from https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000381137
3. U.S. Department of Defense. (2023). 2023 DoD Cyber Strategy (Unclassified Summary). Retrieved from