قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسَّعة لنص الأديب سعيد علي البطاط بعنوان:

"القدس.. حين أُغلِقَ الطريق في وجهي لا على الخريطة بل في الهوية"

لا يقدّم نصّ «القدس.. حين أُغلِقَ الطريق في وجهي لا على الخريطة بل في الهوية» نفسه بوصفه حكاية سفر عابرة، ولا شهادة ذاتية محضة، بل باعتباره نصاً سردياً تأملياً مركّباً، يتقاطع فيه اليومي بالوجودي، والسياسي بالإنساني، والذاتي بالجمعي. إنّه نصّ عن المنع بوصفه تجربة وجود، وعن الحدود حين تتحوّل من خطوط جغرافية إلى جدران هوياتية.

النص يشتغل على لحظة بسيطة في ظاهرها، عميقة في بنيتها: ورقة نشاط سياحي، كلمة واحدة («Jerusalem»)، وجواب إداري جاف، لكنها تتحوّل سردياً إلى صدمة أنطولوجية تمسّ معنى الانتماء، وشرعية الحلم، وحق الذاكرة في الجسد.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب:

يتّسم النص بسلامة لغوية عالية، وبناء نحوي متين، مع قدرة واضحة على تطويع اللغة الفصيحة داخل سرد معاصر غير متكلّف. الجمل غالباً متوسطة الطول، تُوظَّف فيها الوقفات، والنقاط، والتكرار البنائي، لإنتاج إيقاع داخلي محسوب.

الانزياح اللغوي حاضر بذكاء، لا على مستوى الغموض، بل عبر نقل الكلمات من دلالتها التداولية إلى شحنة رمزية:

«ورقة صغيرة.. لكنها كانت أكبر من القلب»

«المدينة تُلغى»

«رسالة رفض رسمية من التاريخ»

هنا لا تُستعمل اللغة للزينة، بل كأداة كشف.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

الفصاحة نابعة من ملاءمة اللغة للموضوع: لغة هادئة، غير خطابية، تخلو من الصراخ، وهو ما يزيد من وطأة الألم. النص يرفض البلاغة العالية الصاخبة، ويختار بلاغة الخيبة الصامتة.

التوازن بين اللفظ والمعنى دقيق؛ فلا يوجد فائض لغوي بلا ضرورة دلالية، ولا جفاف تعبيري يفرّغ التجربة من بعدها الإنساني.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي

النص نثري، لكنه مشغول بإيقاع داخلي واضح:

التكرار (القدس – الورقة – الهوية)

الجُمل القصيرة المتتابعة في لحظات الصدمة

الوقفات التأملية التي تُحاكي التردّد والانكسار

الإيقاع هنا نفسي قبل أن يكون صوتيًا، وهو ما يمنح النص موسيقى داخلية خافتة لكنها مستمرة.

ثانياً: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص:

النص قائم على السرد الذاتي بضمير المتكلم، مع توظيف ذكي للزمن:

١- زمن الحكاية: لحظة واحدة.

٢- زمن الوعي: ممتد، متشظٍّ، تأملي.

لا شخصيات بالمعنى التقليدي؛ المنسّق ليس شخصية بقدر ما هو وظيفة سلطوية، والراوي هو الذات العربية/الإنسانية التي تواجه نظام المنع.

المنهج الوصفي يتداخل مع التحليل الذاتي، دون انقطاع سردي.

2. الرؤية الفنية:

الرؤية تنطلق من منظور إنساني نقدي يرى العالم بوصفه منظومة فرز هويّاتي. الشكل (السرد الهادئ، اللغة البسيطة) منسجم تمامًا مع المضمون (المنع الصامت، القمع غير الصاخب).

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي

الإبداع لا يقوم على حدث غير مألوف، بل على إعادة تأويل حدث مألوف (المنع الإداري) وتحويله إلى مجاز وجودي. الدهشة هنا فكرية وأخلاقية، لا سردية.

ثالثًا: الأسس الفكرية والفلسفية

1. الموقف الفكري للنص

النص يطرح أسئلة عميقة:

من يملك حق الوصول؟

هل الهوية جريمة؟

هل الذاكرة تُعاقَب؟

إنه نص عن اغتراب الإنسان داخل العالم المعاصر، حيث تتحوّل القيم إلى معايير أمنية.

2. الأفق المعرفي

يتقاطع النص ضمنيًا مع:

فلسفة الهوية

نقد السلطة الحيوية

مفهوم المنع الرمزي في الفكر ما بعد الكولونيالي

لكن دون إحالات مباشرة، ما يمنحه استقلاله الأدبي.

3. البنية العميقة (الهيرمينوطيقا)

القدس ليست مدينة، بل:

ذاكرة ممنوعة

اختبار هوية

مرآة كاشفة لعنف النظام العالمي

العنوان نفسه مفتاح تأويلي عميق: الإغلاق في الهوية لا في الخريطة.

رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية

1. سياق النص:

النص مكتوب في لحظة عربية مأزومة، حيث:

تُباع القدس سياحياً

وتُغلق سياسياً

وتُجرَّم هويّاتياً

2. تطوّر النوع الأدبي:

يقع النص ضمن السرد التأملي السياسي، القريب من أدب الشهادة، لكنه يتجاوز التقريرية.

3. العلاقة بالتراث:

يحمل النص روح المراثي العربية القديمة، لكن دون استعارات تراثية مباشرة، ما يجعله حداثياً في أداته، تراثياً في روحه.

خامساً: الأسس النفسية

1. البنية الشعورية.

المشاعر المسيطرة:

الدهشة

الخيبة

الانكسار الهادئ

لا غضب انفجاري، بل ألم ناضج.

2. تحليل الذات الساردة

الراوي ليس ضحية باكية، بل ذات واعية تُحلّل صدمتها، ما يمنح النص نضجاً نفسياً.

3. النبرة النفسية:

نبرة احتجاج صامت، مشوبة بحنين ومرارة.

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع

النص يفضح:

آليات الإقصاء.

عنف البيروقراطية.

تصنيف البشر وفق الهويات.

2. الخطاب الاجتماعي

ينقد السلطة دون شعارات، ويُظهر كيف تعمل عبر لغة «الاعتذار».

3. الكاتب كفاعل اجتماعي

الكاتب يمارس دور الشاهد النقدي، لا المُحرِّض ولا الواعظ.

سابعاً: الأسس السيميائية

1. الرموز

الورقة = وعد زائف

المعبر = السلطة

القدس = الذاكرة/الحق

2. الثنائيات

الحلم / المنع

القرب / الاستحالة

الاسم / الجغرافيا

3. النظام الرمزي

كل الأشياء اليومية تتحوّل إلى علامات قمعية.

ثامناً: الأسس المنهجية

النص صالح للقراءة:

الأسلوبية

التأويلية

السوسيولوجية

ويحافظ على موضوعية داخلية عالية.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

1. القيم

حرية، كرامة، حق الحلم.

2. الانفتاح التأويلي

النص قابل لقراءات فلسطينية، عربية، إنسانية كونية.

3. البعد الإنساني والسياسي

إنه نص عن الإنسان حين يُرفض لا لفعله، بل لكونه هو نفسه.

خاتمة:

يُعدّ نص سعيد علي البطاط عملًا سردياً تأملياً عالي القيمة، يجمع بين:

١- صدق التجربة

٢- نضج الرؤية

٣- جمال اللغة

٤- عمق الفكرة

وهو نص يؤكّد أن الأدب حين يلامس الهوية، يصبح فعل مقاومة ناعمة، وأن القدس، في هذا النص، ليست مكاناً، بل سؤالًا أخلاقياً مفتوحاً على العالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

الطريق الذي أُغلق في القلب

حصل معي موقفٌ لم يكن غريبًا فحسب، بل كان غامضًا ومؤلمًا على نحوٍ لا يُقال بسهولة.

وجعه لم يكن في الكلمات التي قيلت، بل في تلك التي لم تُقَل، في الفراغ الذي خلّفته الحقيقة حين سقطت فجأة، بلا تمهيد.

في صباحٍ هادئ من صباحات دهب، وجدت ورقةً موضوعة عند باب غرفتي. ورقة عادية، تشبه غيرها، لكنها كانت تحمل وعدًا مبطّنًا بالحلم. نشاطاتٌ سياحية مقترحة: بحر، صحراء، رحلات، أسماء مدن تتبدّل كالألوان. قرأت بلا اكتراث.. حتى توقّفت.

Jerusalem.. القدس.

تجمّد الاسم في عينيّ.

لم يكن مجرّد مدينة، كان نداءً قديمًا، صوتًا أعرفه منذ الطفولة، يخرج من الحكايات، من الصلوات، من خرائط القلب التي لا تُدرَّس في المدارس.

كتبت الورقة ببرودٍ مهنيّ:

زيارة القدس وبيت لحم.

مكان ولادة السيد المسيح.

كنيسة القيامة.

المسجد الأقصى.

أهم المعالم في القدس وبيت لحم.

التكلفة:295 دولار.

الانطلاق الساعة الثالثة فجرًا، والعودة الواحدة ليلًا، عبر طابا.

أغلقت الورقة قليلًا، وقلت في سرّي:

يا إلهي.. يا ليت.

لم يكن تمنّي سائحٍ يبحث عن صورة، بل رجاء إنسانٍ يريد أن يلمس ذاكرته بقدميه، أن يرى بعينيه ما عاش في وجدانه عمرًا.

ذهبت إلى منسّق النشاطات. سألته بهدوءٍ متردّد:

- ممكن تشرح لي عن هاي الرحلة؟

نظر إليّ نظرةً سريعة، ثم تغيّر صوته فجأة، كمن وجد نفسه في مأزق لا يريد الدخول فيه. قال معتذرًا، متكسّر العبارات:

- أنا بعتذر يا باشا.. حقك علينا يا أخوي.. بس مش حتزبط.

سألته، وأنا أعرف الجواب قبل أن يُقال:

- ليش؟

تنفّس بعمق، ثم قالها كما تُقال الحقائق الثقيلة:

- لأنك أصلك عربي ومسلم.. مش غربي أصلي. الرحلة معقّدة. بيرجعوا أغلب الناس. حتى أوروبيين وأمريكان رجعوهم. الكونترول هناك بيستمر من ثلاث لأربع ساعات، وهم صعبين جدًا.. انسَ الموضوع يا باشا. حقك علينا.

لم أجادل.

لم أسأل أكثر.

كنت أعرف أن لا شيء يُناقَش حين تتحوّل الهوية إلى تهمة، والانتماء إلى حاجز.

خرجت وأنا أحمل الورقة مطويّة في جيبي، كأنها جواز سفرٍ لم يُختم أبداً. شعرت بشيءٍ ينكسر في داخلي، لا بصوت، بل ببطء. لم تكن القدس هي التي مُنعت عني، بل حقي في أن أشتاق إليها دون إذن.

قلت في نفسي، وأنا أكتم دمعةً لا تريد النزول:

أريد أن أبكي.. لأن بلادنا ليست لنا.

ليست لنا حين نُمنع من زيارتها ونحن نراها كل يوم في القلب.

ليست لنا حين تصبح الأسماء المقدّسة بنوداً سياحية متاحة للبعض، ومحظورة على أصحاب الحكاية.

ليست لنا حين نحتاج إلى أصلٍ آخر، وديانةٍ أخرى، ولهجةٍ أخرى، كي نقترب خطوة من تاريخنا.

عدت إلى غرفتي. فتحت الورقة مرةً أخيرة. قرأت كلمة Jerusalem ببطء، ثم أعدت طيّها. أدركت يومها أن بعض الرحلات لا تُلغى عند الحدود، بل تُمنع في الهوية، وأن أكثر الطرق إغلاقًا هي تلك التي تؤدي إلى ما نحب.

ومنذ ذلك الصباح، لم تعد القدس عندي مدينةً مؤجّلة،

بل جرحًا مفتوحًا،

وحلمًا يعرف طريقه..

لكنه مُنع من الوصول.

 

في المثقف اليوم