قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: دراسة في رواية "حياة الكاتب السردية" لغيوم مسيو
التمثيل التخيلي لمستويات دلالية مركبة
الفصل الأول ـ المبحث (6)
***
توطئة: يتمظهر النص الروائي في أجزاء وفصول رواية (حياة الكاتب السرية) من جلة مكونات وعناصر خاصة من النمذجة التي يقترحها التفاعل الدينامي بشكل متراتب وذي تأثير متبادل وروح الخلايا المركبة من جزيئات البنيات التكوينية والعلامات والأخبار والتقارير التي تخضع في نمو مسار معطيات السرد إلى سنن توالدية وتحولات ومواريات سردية وخطابية متعددة في مستوى الإحالات والعلاقات الأكثر غورا في منظومة عضوية حالات وبنيات السرد الروائي.
ــ آليات الحكي وتفاصيل حكاية قديمة
تكشف لنا النتائج الدراسية التي توصلنا إليها في بعض مباحث دراستنا السابقة للرواية موضع بحثنا فتوصلنا في هذا المبحث إلى محورية (آليات الحكي) الذي كشفنا فيه عن مختلف المحكيات التي تكونت في مسار المتن السردي من الانساق والتخييلات في الأنماط التالية (النسق الواقعي ــ الاشارات الزمنية ــ نموالشخصية وتطور طباعها ــ اتساع الوصف ــ الحوافز الظهورية والضمنية) بوصفها أفاقا لاشتغال تقنية (تداخلات وتعالقات المغامرة السردية) بلوغا نحو محكي المتن وما تتمظهر من خلاله من مواضع ومواقع حياة الشخصية الروائية ناثان فاولز ونزوعاته وعلاقاته اللامشخصة إزاء حكايات وعقد جرت في تفاصيل زمان غير محدد شكلا ومدلولا.
1ـ الداخل الشخوصي ومسافة الأشياء الحادثة:
من خلال استعراضنا لحياة الشخصية فاولز عبر تمظهرات حيواته المغلقة على تواريخ زمن لا يمكننا ترجمته إلا من خلال وسائط شخوصية وعقدوية تتمثل بأشد أوجه الانماذج الضدية المنشطة من خلال تفكيكية وتماسكية هجرانه لحياة الكاتب دون ورود مقدمات من شأنها تبرير ذلك الانفصال بين الكاتب وزمنه التخييلي بصورة مفاجئة. نتبين من خلال محكيات الرواية أن فاولز كان مبتئسا من: (ولى زمن الألفة ومعاقرة المشروب معا في أجواء من الفرح ومودة السكان الاعتيادية. حتى دفء الطقس المؤنس هجر المكان. بات الشك والارتياب يهيمنان على الجو في كل مكان. وقد ازدادت حدت التوتر اليوم حين عنونت صحيفة أسبوعية محلية موضوع غلافها ــ أسرار جزيرة بومون السوداء ــ. / ص 115الرواية) على هذا النحو كان جميع أهالي بومون يصابون بالجنون إلى جانب الخوف من وجود قاتل بارد الدم بينهم على الجزيرة. بهذا المعنى تتصاعد وتيرة الخوف من الداخل والخارج الشخوصي وعلى مسافة مخبوءة من تطورات الأحداث الروائية والأوصاف للأشياء المؤثرة: (دفعني صوت التنبيه الصادر من هاتفي إلى الخروج من تحت كومة الأغطية، فركت النوم من عيني قبل أن أكتشف ما ظهر على الشاشة. كان لوران لافوري قد نشر توا مقالتين متتاليتين.. دخلت إلى مدونته. كان منشوره الأول يستعرض صورة لوجهه المتورم. فقد روى أنه كان ضحية اعتداء تعرض له في الليلة السابقة ــ وقد زعم أن مجموعة من الزبائن هاجمته، متهمة إياه بتأجيج الهوس الذي بدأ يستولي على الجزيرة بتغريداته. / ص116 الرواية) إن ما يميز هذا الشكل الإنتاجي هو ارتباط المنتج بظواهر متبدية ومحاقبة، أي ما يعدها كمؤشرات في صلب استراتيجية الإنتاج، بلوغا نحو جملة علاقات وأواصر تصب في حيز السنن المتبدية كأدلة جزئية داخل المتبدي والمحاقب، بمعنى ما أن وحدات السرد التي كان يتابع السارد المشارك قراءتها من على الشاشة هي سيرورة الإدراك إلى ذلك الواقع المصاغ في التفكير والسؤال المداري، كما هو الحال مع مدارات أخرى من الوقائع: (لم يكن لافوري مخطئا في استنتاجه الأخير، لا بل كان متبصرا. كان الصحافي يرصد مشاعر الكراهية ويجسدها. يعيش في الوقت نفسه لحظة مجد ومعاناة حقيقية. كان يظن بحق أنه يؤدي واجبه المهني ليس إلا. / ص117 الرواية).
2ــ أبولين شابوي وكريم عمراني سيرة ذاتية مضللة:
تطفح على مستوى مدارية المتن الروائي حكاية أبولين شابوي وزوجها كريم عمراني ومن خلال ما قرأنا من سيرة أبولين شابوي نلاحظ أن هناك معطيات سردية تتعلق بكيفية ووسيلة اقترانها بكريم عمراني كزوجا: (أما المقالة الثانية التي نشرها الصحافي فكانت عن التحقيق الذي تجريه الشرطة، وبنوع خاص التحقيق في شخصية الضحية وقصتها: في العام 1980 ولدت أبولين شابوي، وكانت شهرتها مرينياك قبل الزواج. أرتادت مدرسة سانت كلوتيلد ثم ثانوية فينيلون سانت ماري. كانت فتاة خجولا ولامعة ــ خلال سهرة للطلاب تعرفت إلى كريم عمراني، وهو تاجر مخدرات صغير يجري الصفقات عند جادة لاشيابيل ووقعت في غرامه. / ص117الرواية) تخبرنا الرواية من خلال الوحدات الخاصة بكريم عمراني بأنه ترك تحصيله الدراسي في مجال الحقوق، وهو متحدث حصيف، غالبا يبدو شارد الذهن، يميل إلى اليسار المتطرف، من عادته الشروع في الأحلام، فكان يحلم بأن يصبح فيدل كاسترو. أصبحت أبولين أكثر تغيبا عن حصصها وانتقلت لتسكن معه في كوخ وضيع في شارع شاتودان، شيئا فشيئا أصبح كريم عمراني يتعاطى المخدرات وكان يحتاج دائما إلى المزيد من المال لدفع ثمن جرعاته. غرقت أبولين في حياة منحرفة رغم الجهود الكثيفة التي بذلتها أسرتها لإخراجها من هذه الأجواء. بدأت ممارسة الدعارة ولكن سرعان ما لم يعد المال الذي تجنيه منها كافيا، فأصبحت متواطئة مع كريم وغاصت مع في حياة الشرذمة والانحراف. غدا السارد المشارك غاطسا في تفاصيل سيرة أبولين شابوي وكريم عمراني وإلى درجة ينأى بجريمة قتلها خارج حدود جزيرة بومون وسكانها.
ــ كشوفات الموقع الشخوصية وصراع خفايا الرسائل
تمنحنا الوحدات السردية في الفصول الروائية من رواية (حياة الكاتب السرية) ذلك التحول في علاقة ناثان فاولز بالسارد المشارك، خصوصا وهو الأخير الذي تصدى له فاولز عندما حاول التسلل إلى منزله وقد قام فاولز حينها بأطلاق رصاصة نحوه في الموقع الحجري الذي يفصل ما بين شاطىء البحر ومنزله، ولكنه اليوم أي ــ فاولز ــ راح يستقبله بحفاوة كبيرة لم يعهد لمثلها من قبل السارد المشارك: (دعاني فاولز إلى الجلوس وجلس قبالتي: ــ سأدخل في صلب الموضوع، خاطبني وعيناه تحدقان في عيني إن استدعيك إلى هنا، فذلك لأني بحاجة إليك؟. / ص121 الرواية) نتبين من خلال تلك الجلسة الحوارية التي استغرقت تقريبا من الصفحات (ص121. ص122. ص123. ص124) جملة محكومة بغاية الرجاء من فاولز نفسه (أنا بحاجة إلى مساعدتك) وبعد زمن من الحوار نكتشف حجم الخطورة في طلب فاولز من السارد المشارك الذي كان يساوم فاولز بالمقابل من إسداء هذه الخدمة له. كان رفاييل ــ السارد المشارك ــ قد وضع حقيبة في المرة الأولى من لقائهم الأول تحتوي على مسودة روايته الأولى: (ما أريده هو أن تقرأ مخطوطتي؟ بهدوء فتح فاولز الحقيبة لإخراج الرواية التي رميتها له خلال لقائنا الأول: لقد قرأت نصك أيها الصغير! أجابني والبسمة مرسومة على شفتيه. أعطاني مخطوطة ــ خجل القمم ــ والسرور باد على وجهه لأنه تمكن من الإيقاع بي. / حسنا هل ستقبل بمساعدتي، نعم أو قطعا لا؟ بكل جدية، حدق فاولز في عيني من دون أن يرمش له جفن: ــ ماذا تريدني أن أفعل؟ ــ أولا، أريد منك أن تستعلم عن امرأة من هي؟ ــ صحافية سويسرية موجودة على الجزيرة أسمها ماتيلد موني. / ص126 الرواية) على أساس من هذا، ينمو فعل بحث رفاييل في المنزل الذي كانت تسكن فيه ماتيلد موني، ذلك بعد خروج صاحبة المنزل العجوز بصحبة امرأة مسنة إلى الكنيسة. وبعد صراع رفاييل في البحث في مقتنيات غرفة ماتيلد تمهدها مطاردة ذلك الكلب له داخل المنزل، وبعد البحث المضني: (كان من الواضح أن ماتيلد تجري تحقيقا حول فاولز. لم يكن هناك جهاز كمبيوتر على مكتبها، ولكن كانت هناك العشرات من المقالات المطبوعة المظللة بقلم ستابيلو، كنت أعرف هذه الأوراق، إنها تلك التي كانت تظهر دائما حين أجري بحثا في شبكة الأنترنيت: المقابلات القديمة نفسها من حقبة التسعينيات التي أجريت قبل أن يعتزل فاولز الكتابة، ثم مقالتان مرجعيتان الأولى نشرتها صحيفة ــ نيويورك تايمز) في العام 2010 بعنوان ــ الرجل الخفي ــ والثانية نشرتها ــ فانيتي فير الأمريكية قبل ثلاث سنوات بعنوان ــ فاولز أو خطأ والعكس صحيح ــ / ص136 الرواية) كما سنلاحظ أن هذه الشخصية رفاييل بأعتبارها فاعلا ذاتيا تزاوج ــ على طول خط السرد ــ بين السرد والتبئير، فهي التي تتكلم وهي كذلك التي ترى، وسيتم من خلالها نقل أغلب الخطاب الروائي لهذه الرواية.
ــ تعليق القراءة:
تتجلى فضاءات رواية (حياة الكاتب السرية) من خلال أحداثها وأفعالها ومحاورها الزمنية والمكانية والشخوصية وحبكتها البوليسية التي تحتل المراحل الغامضة من زمن الرواية. فالحكاية الروائية تتبع سياق تسلسل الأحداث، تمتاز بموضوعة روائية كبيرة في البناء والأسلوب والنمو الدلالي. الرواية كأصوات سردية تطل من على المشاهد ضمن أداة الناظم الخارجي ويتحول بدورها إلى ناظم داخلي عندما يسجل آثار التحولات والأفعال في الرواية. سوف يواجه القارئ عند قراءة الرواية مدى تجليات الرؤية السردية وتصورات الفعل الروائي وهو يتأرجح في حدود التماهي بين شخوص الرواية وخطابها التشويقي في السرد والتبئير والتنصيص المركب.
***
حيدر عبد الرضا






