قضايا
الحسين بوخرطة: التكنولوجيا وتحولات الفعل السياسي في المغرب
نحو إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع
يشهد العالم تحوّلاً جذرياً بفعل الثورات التكنولوجية المتسارعة، التي باتت تخترق مختلف البنى الاجتماعية وتعيد تشكيل أنماط التواصل والإدراك والسلوك. وقد ولّدت هذه التحولات تحديات غير مسبوقة أمام الأنظمة السياسية، لاسيما في الدول النامية التي تعاني هشاشة في مجالات التربية والتكوين والتعليم. فالتفاهة الرقمية، وميولات الغواية الجديدة الموجّهة إلى العقول الأقل تحصيناً، أصبحت آفة مركّبة تُضعف مناعة المجتمع وتحدّ من فاعلية الفعل السياسي التقليدي.
ضمن هذا المشهد العالمي المضطرب، تتقدّم التجربة الديمقراطية المغربية بخطوات محسوبة، تجمع بين الحذر وبناء التراكم. فقد رسخت الدولة حضورها المركزي في قيادة التحولات الاستراتيجية، مستندةً إلى منظومة مؤسساتية تحمّلت عبء توجيه التغيير بعد عقود من تعقّّد التاريخ السياسي الوطني. ومع ذلك، يظلّ هذا التقدم مشروطاً بقدرة الفاعلين السياسيين والمؤسسات على الاستجابة لمتطلبات الانتقال نحو حكامة حديثة وعقلانية، تفصل بوضوح بين السلطات، وتضمن الانخراط الفاعل للمجتمع.
أولاً: مفترق طرق سياسي وفكري
لم يعد الوضع السياسي الراهن في المغرب يحتمل مقاربة تقوم على المسايرة أو إدارة الزمن السياسي بأدوات الماضي. فالتحديات التي يواجهها المغرب، في سياق إقليمي ودولي متغير، تفرض مراجعة عميقة للمفاهيم المؤطّرة للفعل السياسي، مثل السلطة، والحق، والعدالة، ومشروعية العنف. كما أن تراكم التجارب منذ تسعينيات القرن الماضي مكّن البلاد من تجاوز نسبي لمرحلة الهشاشة، لكنه لم يلغِ مظاهر التصلّب داخل بعض المفاصل المؤسساتية، والتي ما تزال تعيق الانخراط الكامل في تفعيل السياسات العمومية وفق المعايير الحديثة للحكامة والشفافية.
وقد أضحت الحاجة ملحّة لإعادة التفكير في سبل تعزيز الديمقراطية الشعبية، وتحقيق الالتقائية بين السياسات العمومية، وتكريس التضامن بين الوحدات الترابية، وإنعاش الطبقة الوسطى، والحد من الانتشار الواسع للاقتصاد غير المهيكل.
ثانياً: أولويات لإعادة بناء العقد الاجتماعي
يتطلّب الظرف الحالي من المغرب توظيف الجهود المجتمعية والمؤسساتية لمواجهة جملة من المطالب الإستراتيجية الملحّة، من أبرزها:
- تعميق مسار الحرية الفردية باعتبارها حجر الزاوية لأي مشروع ديمقراطي حديث.
- ترسيخ الدولة ككيان أخلاقي وروحي يستند إلى قيم موضوعية في بناء سلطته ومشروعيته.
- ضمان الحق في الحياة والكرامة وصون الخيرات المدنية للذوات الفردية.
- إعادة التوازن بين الأمن وحقوق المواطنين عبر التخفيف من المقاربات الاحترازية المفرطة وإبراز قيم الرأفة والتلاحم الوطني.
- تعزيز الفصل بين السلط وتحصين دور الدولة الجامعة التي توحّد ولا تُقصي.
- الحد من اللجوء إلى العنف وحصر ممارسته المشروعة في إطار قانوني ديمقراطي يرسّخ حقوق الإنسان.
- ربط شرعية الدولة بالإجماع الوطني وسيادة الحق والقانون، وبالبعد الإنساني لمؤسسات التأديب.
ثالثاً: العقل السياسي المغربي ورهانات المستقبل
يميل الأفق المغربي نحو التفاؤل، إذ يستند العقل السياسي للدولة إلى خبرة تراكمية عميقة تُغذّيها اجتهادات فكرية وفلسفية لروّاد مثل سبينوزا، هيغل، مونتيسكيو، عبد الله العروي، جاكلين روس، ومحمد عابد الجابري... وتدلّ هذه المرجعيات على أن ازدهار الدولة واستمرار قوتها يمران عبر تكريس الديمقراطية الشعبية، وتثبيت الأمن والاستقرار، والاستجابة لمطالب المشاركة المواطِنة.
ولا يمكن لتمثّلات العقل الجمعي أن ترتقي في ظلّ اعتماد مقاربات قسرية أو ظرفية. فالعنف ــ تاريخياً وفلسفياً ــ ليس خياراً طبيعياً في الإنسان، بل وسيلة للسيطرة والاستغلال. وعليه، فإن تعزيز السلم الاجتماعي لن يتحقق إلا بترسيخ العدالة الاجتماعية، وضمان التوزيع العادل للثروة، وإتاحة متعة العيش الكريم كقاعدة لثقافة سياسية مناهضة للعنف.
رابعاً: سياق دولي متوتر ومسؤوليات مضاعفة
يشهد العالم توترات حادة، تتراوح بين النزاعات التقليدية والحروب المعلوماتية، ما يجعل اختراق سيادات الدول عملية ممنهجة تحرّكها دوافع التنافس والهيمنة والحذر المتبادل. وفي هذا السياق، يحتاج المغرب إلى يقظة مؤسساتية وروح وطنية صلبة لمواجهة هذه التحديات، لا سيما في ظلّ التحولات التكنولوجية الكبرى التي تعيد تشكيل الأنماط الاقتصادية والاجتماعية.
فالتقدم الاقتصادي لم يعد قابلاً للإنجاز اعتماداً على القوة العضلية أو الموارد التقليدية، بل عبر المعرفة، والابتكار، والتكنولوجيا، والثقافة. ويستوجب هذا الواقع عقلنة الممارسة السياسية، وترسيخ حقوق الإنسان كشرط أساسي لإخماد بؤر التوتر الناتجة عن التهميش وضعف تكافؤ الفرص.
خاتمة: نحو منطق سياسي جديد
لم تعد المقاربة الأمنية قادرة على احتواء الاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بالعدالة، خصوصاً في ظلّ شعور واسع لدى الشباب بضعف آفاق التشغيل وجودة التربية والتعليم والصحة. وعليه، يفرض السياق الانتقال إلى منطق سياسي جديد يقوم على:
- تعزيز الثقة في المؤسسات،
- تجديد صيغ الإنصاف والمساواة،
- رفع منسوب الشفافية،
- والقطع مع ممارسات الهيمنة التقليدية التي فقدت مشروعيتها.
فالدولة الحديثة، في ظلّ التكنولوجيا المتقدمة، لم تعد تُعرَّف بوصفها جهازاً للهيمنة، بل باعتبارها منظومة كفاءات مستدامة، تحكمها قواعد عقلانية وتُكرّس قيم الخدمة العمومية والعدالة والكرامة.
***
الحسين بوخرطة






