قضايا
إبراهيم برسي: اللغة كسلطة.. إعادة تشكيل الواقع عبر الفجوات الثقافية

من خلال كل لغة، تفرض الثقافة منظومتها الخاصة من المعاني والمفاهيم. ولكن وراء كل لغة، توجد أيديولوجيا معينة، كما أشار جيرمي بيثام حين قال: “اللغة هي أداة الهيمنة”. وهذا لا يعني أن اللغة مجرد أداة لنقل الأفكار، بل هي التي تشكّل هذه الأفكار في الأساس.
هذا المفهوم يتجاوز مسألة الترجمة التي نتصورها ببساطة عملية نقل كلمات من لغة إلى أخرى؛ إنها في واقع الأمر عملية إعادة تشكيل للمعاني ضمن سياق ثقافي واجتماعي مختلف. وتُظهر هذه العملية كيف أن ما نعتقد أنه مجرد ترجمة، هو في الحقيقة عملية إعادة تشكيل دائمة للمعاني عبر لغات وثقافات مختلفة. وعلى الرغم من محاولات الترجمة، تبقى هذه الفجوات بين اللغات والثقافات عصية على أن تُملأ بالكامل، لأن كل لغة تشكّل رؤية خاصة للعالم، وهذه الرؤى لا تلتقي بسهولة، بل تحمل في طياتها اختلافات تجعل الفهم المتبادل أمرًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا.
اللغة ليست مجرد وسيلة لتبادل الأفكار والمعلومات، بل هي الأداة التي تشكّل طريقة تفكيرنا وتوجيه رؤانا للواقع. وبذلك، فإن اللغة تشكّل نظرتنا للعالم من خلال الأطر الثقافية التي تحملها، مما يجعل كل لغة بمثابة مرآة تعكس القيم والمفاهيم التي تتبنّاها الثقافة التي تنتمي إليها. ولكن هذه الرؤى لا تقتصر على كونها نسخًا ثابتة من الحقائق، بل هي ديناميكية ومتغيرة، تتأثر بالظروف الاجتماعية والسياسية التي تعيشها المجتمعات، فتتشكّل عبرها معاني جديدة وتختفي أخرى.
ومن هنا، تصبح اللغة أحد أبرز الأدوات التي تستخدمها القوى الاجتماعية لتشكيل الوعي الجماعي، وبالتالي، لتشكيل الواقع نفسه. وعندما ننظر إلى اللغة بهذه الطريقة، يمكننا أن ندرك كيف أن الفجوات بين اللغات والثقافات ليست مجرد مشكلات تتعلق بالترجمة أو الفهم، بل هي ظاهرة ثقافية تتعمق في الأسس التي تقوم عليها المجتمعات.
وإذا كانت اللغة تشكل الواقع وتحدد حدود الفكر، فإن فكرة فيتجنشتاين الشهيرة: “حدود لغتي هي حدود عالمي” تبقى محورية في فهم هذه الديناميكيات. فهذه الحدود لا تمثل فقط قيودًا لغوية، بل هي دعوة للتفكير في مدى تأثير هذه القيود على قدرتنا على الفهم والتفاهم عبر الثقافات. فاللغة لا تقتصر على نقل الأفكار كما هي، بل هي في الواقع قيدٌ مفروضٌ على الفكر ذاته، وهي تعكس في الأساس طريقة تفكير الثقافة التي تنتج هذه اللغة.
ومن هنا، فإن تأثير اللغة على فكرنا لا يمكن تجاهله. إذا كانت اللغة هي التي تشكّل وعي الفرد، فإنها تخلق أيضًا واقعًا مفروضًا عليه.
هذه الفجوة في المعاني التي تتجاوز مجرد الاختلافات اللغوية هي جوهر الصعوبة في التواصل بين الثقافات. فالفجوات بين اللغات تعكس أيضًا الفجوات بين الأيديولوجيات والقيم التي تؤثر في مجتمعات معينة. فعندما يتم التعبير عن الأفكار بلغة معينة، تصبح تلك الأفكار محكومة بإطار مرجعي خاص، وهذا يجعل ترجمة هذه الأفكار إلى لغة أخرى عملية معقدة. إنها ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي إعادة بناء للمعاني والتصورات التي قد تكون مشوهة أو مغلوطة عندما تُترجم، مما يؤدي إلى أن الفهم المتبادل بين ثقافات مختلفة يصبح أمرًا صعبًا للغاية.
تتفاقم هذه الديناميكيات في عصر العولمة، حيث تساهم السوق الرأسمالية في إعادة تشكيل المفاهيم والمصطلحات لتتماشى مع منطق الاستهلاك. في هذا السياق، تصبح اللغة أداة لتوحيد المفاهيم والواقع، لكنها في ذات الوقت تُستخدم لقمع التنوع الثقافي الذي يعارض الهيمنة اللغوية السائدة. كما يقول جان بودريار: “الواقع لم يعد يمثل شيئًا إلا ما يُنتج من خلال اللغة”، مما يعني أن الواقع نفسه يتم تشكيله وفقًا للغة السائدة في المجتمع الرأسمالي، التي تجعله سلعة تستهلك وتُعاد إنتاجها بما يتناسب مع منطق السوق. وفي هذه العملية، يتم تهميش الثقافات التي لا تستطيع مواكبة هذا التوحيد اللغوي، مما يعزز الهيمنة اللغوية ويضعف التنوع الثقافي.
في هذا السياق، يُظهر تأثير السوق الرأسمالية على اللغة كيف أن الأنظمة الاقتصادية الكبرى لا تقتصر فقط على السيطرة على الموارد الاقتصادية، بل تمتد إلى السيطرة على الأفكار والمفاهيم من خلال لغة السوق. حيث تُستخدم اللغة هنا كأداة لفرض هياكل قوى معينة على المجتمعات، سواء عبر الإعلام أو الإعلانات أو أدوات أخرى تُستخدم لترسيخ فهم موحد للواقع.
في هذا السياق، تصبح اللغة أداة لخلق نوع من الانصهار الثقافي، مما يؤدي إلى التقليل من قيمة التنوع الثقافي واللغوي الذي يشكل جوهر غنى الإنسان.
إذن، هل يمكن تجاوز الحدود التي تضعها اللغة؟ من المؤكد أن الإنسان لا يمكنه الهروب من “شباك اللغة”، ولكن يمكنه بالتأكيد أن يعيد تشكيل هذه اللغة، أن يلتف حول قيودها ليفتح أبوابًا جديدة للمعنى. في هذا السياق، يبدو أن الفن هو المسار الذي يمكن من خلاله تجاوز هيمنة اللغة. الفن لا يتقيد بقواعد ثابتة، بل يتلاعب بالمعنى ذاته، ويعيد تشكيله بما يتجاوز الأطر التقليدية للغة. فكما يظهر في أعمال جاك دريدا، لا يُعتبر الفن خروجًا عن اللغة، بل هو إعادة إنتاج لها بطريقة تفكك البنى الثابتة، وتفتح الفضاءات لتأويلات جديدة، لا تتقيد بقوالب مفاهيمية محددة.
الفن في هذا السياق يصبح أداة لتفكيك الهيمنة الرمزية التي تفرضها اللغة، ويمنحنا فرصة لإعادة التفكير في معاني العالم وفقًا لآفاق أوسع وأكثر تحررًا.
عندما نستخدم الفن للتعامل مع اللغة، ننتقل من مجرد كوننا مستهلكين للمعاني الثقافية إلى أن نصبح مبدعين ومبتكرين في إعادة تشكيل هذه المعاني. الفن يخلق مساحة للحرية والإبداع حيث لا تكون اللغة أداة للتسلط أو الهيمنة، بل وسيلة لفهم العالم بشكل غير تقليدي.
في هذا الإطار، يصبح الفن ليس فقط وسيلة لتجاوز القيود التي تفرضها اللغة، بل أيضًا وسيلة لرؤية العالم بشكل جديد، يفكك التفسيرات السائدة ويخلق إمكانيات جديدة للفهم.
اللغة، إذا، ليست محايدة أو شفافة كما قد يعتقد البعض، بل هي تحمل في جوهرها هيمنة ثقافية تتخلل كل مفردة، وتفرض حدودًا على الفكر. ورغم ذلك، تبقى هناك ثغرات يمكن من خلالها فتح مساحات جديدة من المعنى، وهذا ما يجب أن نبحث عنه: الفجوات الصغيرة التي يمكن أن ينفلت منها المعنى، والتي قد تمنحنا القدرة على تجاوز الهيمنة الرمزية التي تفرضها اللغة على أفكارنا. ومع هذه الثغرات، قد نتمكن من إعادة بناء الواقع بشكل يتجاوز التفسيرات المحدودة التي تفرضها اللغة على فهمنا للعالم.
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني