قراءات نقدية

ليلى تبّاني: الأَدَبُ العَرَبِي وتابوهات الإبداع.. واقع موبوء يكابر أمام قوّة الخيال

أتعجّب في كلّ مرة أرى فيها كاتبا كبيرا يتعرّض للهجوم من فئة تدّعي أنّها مثقّفة وأنّها وصيّة على الأخلاق والقيم، وتدّعي امتلاك مفاتيح الشرف والفضيلة وكأنّها حارسة لنوايا المجتمع وقيّمه، وقد أثار حفيظتي مؤخرا هجوم غير مبرّر لأناس يُفترض أنّهم أكثر الوعي في مجال الكتابة والإبداع، فآلمني ما رأيت، وبتّ أتحسر على واقع الأدب والكتابة الإبداعية في وطني، وعلى الطريقة التي يُحاكم بها الخيال كلّما حاول أن يخطو خطوة خارج الأسوار الحديدية التي فرضتها العقول الضيقة. وما زاد ألمي أنّني، ومن واقع حضوري في معرض الكتاب، رأيت بأمّ عيني المحاباة الواضحة التي لا تعطي قيمة للكتابة بقدر ما هي لهث خلف الشهرة وموالاة ذوي النفوذ، حتّى أصبح المشهد الثقافي يفتقر إلى الجدّية، ولم يعد محفّزا ولا محمودا كما كان يُفترض أن يكون. فبدل أن يكون المعرض مساحة للاحتفاء بالكُتّاب الحقيقيين، تحوّل إلى فضاء يتصدره من يجيدون صناعة الضجيج لا صناعة الأدب، وكأنّ الثقافة أصبحت تُكرَّم بالصوت العالي لا بالجودة والإبداع.

من الموجع أن يجد الكاتب العربي نفسه في كل مرّة مطالبا بالدفاع عن نصّه أمام محاكم لا شرعية لها، محاكم تُنصّب نفسها حارسة للشرف والأخلاق والهوية، كلّما تجرأ على كتابة قصة حب أو كشف منطقة مسكوت عنها في المجتمع كمجال خصب لخيال ينتج جمالا سرديا أو فنيا. فما إن عرض فنّان عمله ، أو نشر روائي رواية يتناول فيها حدثا ما ، حتىّ تنهال عليه الاتهامات بالخلاعة والابتذال وتدنيس الشرف والخروج عن المعتاد، وكأنّ الأدب تعبير واقعي صارم لا يجوز له أن يقترب من الخيال أو يعيد تشكيل الوقائع أو ينسج احتمالات جديدة للحياة. والحقيقة أن هذه الهجمات لا تكشف عن حرص أخلاقي بقدر ما تكشف عن خوف متجذّر من الحرّية نفسها، لأنّ الخيال حين يتحرّر يهزّ عروش الوصاية. وفي خضم كلّ ذلك، أستحضر في كل مناسبة يتعرض فيها كمال داوود لسيل الاتهامات والطعنات التي تنحدر أحيانا إلى تشكيك في دينه، وأستعيد كيف رُمي الروائي الكبير واسيني الأعرج من قبل بعضهم بالتهم نفسها، وكأنّ الإبداع خطيئة لا تُغتفر، ثمّ أرى بعد ذلك أنّ الأول وصل إلى الغونكور وأنّ الثاني تبوّأ منزلة نابغة العرب، وكأنّ الزمن وحده يملك القدرة على كشف الحقيقة وفضح الغلاة من حرّاس النوايا. وقد حدث مؤخرا ضجيج كبير حول مقتطف أنزله واسيني الأعرج يتعلّق بقصة "البوغي"، فاتّهمه البعض بأنّه خرج عن إطار الواقع وتمرّد على تقاليد المدينة وحرّف الحقيقة، وهذا أمر يبعث على الغرابة لأنّ كاتبا كبيرا بحجمه، محاطا بنصوص مشهودة وبحث مضن ورحلات طويلة من التقصّي والتوثيق، لا يمكن أن يقع في مثل تلك الهفوات، أو يسعى إلى تحريف الواقع كما ادّعوا، لكنّهم يصرّون دائما على محاكمة الكاتب بدل قراءة النص، وعلى تقمّص دور الوصي بدل احترام حرية الخيال.

ماذا لو تعلّق الأمر ذاته بي؟! فلقد كتبتُ أنا أيضا عن تنهنان، فهل يعني ذلك أنّني مطالبة بالوقوف أمام محكمة أهل الطوارق؟ وهل أصبحوا أوصياء على المرأة التارقية فقط لأنّني تناولت شخصية من تراثهم؟ أم أنّ القضية كلّها تكمن في أنّني لست مشهورة بما يكفي ليصنع أحدهم مجده الخاص من مهاجمتي؟ ثمّ أليس في الأمر مفارقة صارخة حين ندرك أنّ أحدا من أهل القاهرة لم يحاكم كاتبا من وزن إحسان عبد القدوس أو نجيب محفوظ بتهمة الإساءة للمرأة المصرية؟ لم يقف المصريون يتساءلون : هل أهانت رواياتهم سمعة القاهرة أو شوّهت صورة النساء؟ لأن القارئ هناك كان يعرف أنّ الأدب حقل تخييلي، لا وثيقة عائلية ولا سجلّ شرف.

إن الجنوح إلى الطمانينة بأنّ الكاتب قد استقى مادته الروائية من كبار عائلة نجمة وجاب الله، ليس أكثر من محاولة لجرّ النص إلى أرض الواقع بالقوة. فالعائلتان نفساهما أدرى بتاريخيهما، والأمر إذ ذاك ينفي بأن يملك أحد ـــــ بعد هذا الاعتراف ــــ حقّ الوصاية على خيال الكاتب.

الأدب ليس مكتبا لتوثيق الأسماء ولا سجلّا لأنساب الناس، بل هو عمل فني حرّ. ومن لا يستطيع الفصل بين الحكاية الروائية وبين الواقع فمشكلته ليست مع الكاتب بل مع قدرته على القراءة. وإنّ ما يواجهه الأدب العربي اليوم هو ظاهرة "حرّاس النوايا"، أولئك الذين يتربّصون بالنصوص بحثا عن نوايا لم يقصدها الكاتب، وعن إساءات لم تحدث، وعن رموز لم تُكتب أصلا. يحاكمون الوهم، ثم يتّهمون النص بأنّه أساء للمدينة أو للمرأة أو للتاريخ. هؤلاء يمنعون الرواية من أن تكون رواية، ويصرّون على تحويل كلّ كتابة إلى بيان أخلاقي، وكل شخصية إلى فرد من العائلة يجب صون اسمه. لكنّ الأدب، بطبيعته، يعيش على حدود التابو، ويمتدّ حيث تنتهي الجرأة المعتادة، وإلاّ لانتفت الحاجة إليه.

والحقيقة ليس الأدب العربي أوّل من يواجه هذه الرياح، فالتاريخ العالمي للأدب مليء بأمثلة تدلّ على أنّ الإبداع لا يزدهر إلا حين تُكسر القيود. فـفرجينا وولف اتُّهمت بالجنون لمجرد مطالبتها بأن تكون للمرأة غرفة تخصّها وحدها، واليوم تُعتبر من أهم الأصوات النسوية. وفيكتور هوغو حُورب بسبب روايته التي جسّدت مأساة أحدب نوتردام، لكنه غيّر وجه الأدب الفرنسي. وسارتر وكامو وُصفا بالعدمية، ثم أصبحت كتبهما منبعا للفكر الحديث. وغابرييل غارسيا ماركيز حرّمته الكنيسة بسبب "مئة عام من العزلة"، بينما صار العالم يحتفي بماكوندو كواحدة من معجزات الأدب. وهوجم تولستوي بشدة حين كتب "آنّا كارنينا" لأنّها تناولت الخيانة الزوجية، ثمّ أصبحت الرواية مرجعا عالميا في فهم النفس البشرية. لم يصرخ الفرنسيون بأنّ هوغو أساء لفتياتهم، ولم يغضب الروس لأنّ تولستوي شوه نساءهم، ولم يغضب الكولومبيون لأنّ ماركيز اخترع قرية بأكملها. كل هؤلاء كانوا يدركون أن الأدب لا يحاكي الحياة حرفيا بل يفتح نوافذ لرؤيتها من جديد، إلاّ إذا صنّفت تلك المجتمعات بلا أخلاق !

إنّ السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم كقراء عرب : إلى أين نمضي؟ وكيف نكتب رواية في مجتمع يعامل الخيال كتهديد؟ وكيف يقوم الأدب بدوره إن بقي كل كاتب مطالبا بالاعتذار لكلّ قبيلة وكلّ عائلة وكل جهة ترى نفسها في أي شخصية من شخصياته؟ إنّ الأدب العربي لن يتقدم ما دام محاطا بأسلاك شائكة، وما دامت كل محاولة لكسر الصمت تُقابل باتهامات جاهزة عن الشرف والسمعة والحياء. فالشرف الحقيقي لا تهدده رواية، بل يهدده الجهل والخوف من السؤال.

كي نسمو ونتطوّر، علينا أن ندرك أنّ الإبداع ليس عدوّا للأخلاق، بل هو عدوّ للجمود. ومن يريد حماية المجتمع حقا فليحمِه من الجهل لا من الأدب كونه إبداع. لأنّ الأدب، في جوهره، محاولة لفهم الإنسان وتحريره، لا محاولة لتشويه أحد. وما دام الإبداع يُحاكم اليوم بتهم زائفة، فالمستقبل محاصر. ووجب أن نقول : إنّ الأدب ليس مُلكا لأحد، ولا وصاية عليه لأيّ جهة، وإنّ من يحاكم الخيال إنّما يحاكم القدرة الإنسانية على أن تحلم. فهلاّ كففتم عن مصادرة الأحلام؟!

لأؤكّد في الأخير على أنّ مقالي هذا ليس دفاعا عن كاتب بعينه بقدر ما هو دفاع عن حقّ الكاتب العربي في أن يكون كاتبا، وعن حقّ الأدب في أن يبقى أدبا، وأن يظلّ فضاء حرّا يليق بالإنسان الذي يحلم.

***

ليلى تبّاني - الجزائر

في المثقف اليوم