قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: الذاكرة كجغرافيا للغائب

قراءة هيرمينوطيقية وجمالية في قصيدة ‹مثل رجل يتذكّر› لغسان زقطان:
قصيدة "مثل رجل يتذكّر – الرحلة (1)" للشاعر زقطان من النصوص الشعرية المعاصرة التي يمكن أن تُقرأ على أكثر من مستوى، إذ تنفتح على التأويل الوجودي، والرمزي، والديني، والنفسي، والجمالي، والوطني معًا.
هذه دراسة نقدية تحليلية موسّعة بالمنهج (الهيرمينوطيقي التأويلي، الأسلوبي، الرمزي، الجمالي، الوطني، والسيميائي)، تتوغّل في الطبقات العميقة للنص، وتكشف ما تحت الجلد الشعري من نبض وتوتّر ومعنى.
أولاً: مقدمة منهجية:
تتبدّى قصيدة غسان زقطان "مثل رجل يتذكّر" كرحلة تأويلية في الذاكرة الفلسطينية، حيث يتحوّل التذكّر إلى فعل وجودي يستعيد الإنسان ذاته من تحت الركام الرمزي للتاريخ والاغتراب والمنفى.
النصّ ينهض على مفارقة أساسية: أن التذكّر ليس استعادة للماضي، بل إعادة بناء للذات وسط خراب الحاضر.
وإذا كانت القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية) تُعنى بفهم المعنى المتواري خلف اللغة، فإن هذا النصّ يستدعيها بكل طاقته، لأنه لا يُقدَّم المعنى بشكل مباشر، بل يموّه به عبر صورٍ تتناوب بين الواقعي والمتخيَّل، الحسيّ والميتافيزيقي، الذاتي والجمعي.
ثانياً: المنهج الهيرمينوطيقي – التذكّر بوصفه تأويلاً للوجود
في المستوى التأويلي، “الرجل الذي يتذكّر” ليس فرداً محدداً، بل هو الذات الفلسطينية الجمعية التي تحاول أن تفهم وجودها بعد الصدمة، بعد الخروج من المكان، بعد “الرحلة” التي ليست سوى استعارة كبرى للمنفى.
الطرق “ممتلئة بأخطائهم”، أي بأخطاء التاريخ، بالهزائم، بالماضي الذي لا يموت. لكنّ الشاعر، في وعيه التأويلي، يحوّل الذاكرة من لعنة إلى كشف. فالتذكّر ليس عودة إلى الأمس، بل إعادة قراءةٍ له من داخل الحاضر.
حين يقول:
“الأمر كله يشبه النوم في غرف الميتين”
فهو لا يصف موتاً مادياً، بل موت الذاكرة حين تُحبس في الجدران، وحين يصبح استحضارها طقساً جنائزياً.
وهكذا يتحوّل النص إلى سردٍ تأويلي للمنفى الداخلي، إذ يصبح “التذكّر” هو الأداة الوحيدة لمقاومة المحو.
ثالثاً: المنهج الأسلوبي – جمالية الانكسار وتعدد الأصوات:
الأسلوب عند الشاعر غسان زقطان يقوم على تفكيك الإيقاع الخارجي لصالح إيقاع الذاكرة.
يتكئ على جملٍ طويلة تتشظى مثل نَفَسٍ متقطّع، تخلق موسيقى داخلية نابعة من التكرار والانقطاع والتوازي، يقول:
“ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة...”
“الوحيدون يفعلون ذلك...”
هذا التكرار البنائي ليس ترفاً أسلوبياً، بل يحمل وظيفة دلالية: يؤكد على التكرار الوجودي للمنفى والذاكرة والاغتراب.
أما على المستوى الصوتي، فإن المفردات المشحونة بالحروف الحلقية والهمسية (“النوم، الظل، النساء القتيلات، الرائحة”)، تُنتج فضاءً صوتياً خانقاً، يعكس القلق الداخلي للشاعر.
رابعاً: المنهج الرمزي والسيميائي – “الرحلة” كعلامةٍ للوجود والغياب
النصّ بأكمله يقوم على رمز “الرحلة”، وهي ليست سفراً في المكان بل في الزمن والذاكرة والهوية.
الرحلة = المنفى
النوم = الموت الرمزي
النساء القتيلات = الجمال المهدور والوطن المغتصب
البيت = الذاكرة الجمعية
القهوة = طقس الاستعادة
كل هذه العلامات تُشكّل شبكة سيميائية تتقاطع فيها دوالّ الحياة والموت، الحضور والغياب، الطهر والخيانة.
فحين يقول الشاعر زقطان:
“الوحيدون يفعلون ذلك، يأتون بالمنفى إلى البيت”
فهو يُعيد تعريف المنفى: ليس غياب الوطن، بل حضوره المؤلم داخل البيت ذاته، في الذاكرة، في تفاصيل المعيش.
البيت في هذا السياق علامة مزدوجة: حضور مكاني / غياب رمزي.
هو المأوى الذي يُذكّرك بفقد المأوى، أي بالمنفى المتجذر في الذات.
خامساً: المستوى النفسي والديني – الذاكرة كصلاةٍ على الغائب
- تحت الجلد الشعري، تنبض القصيدة بتيارٍ صوفيٍّ مكتوم؛ فهي تذكّرنا بما قاله ابن عربي: “المعرفة تذكّر، والوجود ذكرى منسيّة فينا”.
فـ “الرجل الذي يتذكّر” هو السالك الذي يواجه نفسه عبر مرآة الذاكرة.
كل صورة من صور الموت، والظل، والنساء، والبيت، تحمل بعداً روحياً يعيد إلى الأذهان مفهوم الفناء في المحبوب؛ لكنه في شعر زقطان فناءٌ في الوطن لا في الله.
المنفى هنا يتحوّل إلى تجربة روحية، أشبه بالحجّ العكسيّ نحو الداخل، نحو الذاكرة المقدّسة التي لا تُمسّ.
الرموز الدينية (“البخور، الترنيمة، الاستغفار، المآذن، السور الأبيض”) لا تُستخدم بمعناها الطقسي، بل كأدوات لغسل الذاكرة من خطايا التاريخ.
إنها محاولة لتطهير الوجود عبر اللغة، أي عبر الشعر ذاته كصلاة.
سادساً: المستوى الجمالي والوطني – جمالية الخراب وإعادة بناء الهوية
جماليات النص تقوم على ما يمكن تسميته بـ جماليات الخراب، وهي الفكرة التي نجدها عند أدونيس ومحمود درويش أيضاً:
أن الجمال لا يُبنى على اكتمال الصورة، بل على تشظّيها.
زقطان لا يبحث عن وطنٍ مكتمل، بل عن هوية تستمد معناها من هشاشتها.
فالطرق "ممتلئة بالأخطاء" لأنها تاريخ وطنٍ جُرح، والماضي "منسيّ في الظلال" لأنه يُستعاد لا ليمجّد، بل ليفهم.
بهذا المعنى، تصبح القصيدة فعل مقاومة جمالية؛ إذ تحوّل الذاكرة من مأساة إلى مادة للفن، ومن الهزيمة إلى إمكانٍ للخلق.
سابعاً: تأويل ختامي – الشعر كتذكّرٍ كوني
في ختام القصيدة، حين يقول:
“مَنْ أنتَ لتتذكّرَ وترى...”
يبلغ النص ذروة انكساره التأويلي. فالشاعر لا يخاطب الآخر، بل نفسه التي تنقسم إلى ذاتٍ تتذكّر وذاتٍ تُنكِر.
إنها مواجهة وجودية مع السؤال: هل نحن من نتذكّر، أم أن الذاكرة هي التي تتذكّرنا؟
هذا الوعي بالانقسام الداخلي يجعل النصّ كياناً مفتوحاً لا يُغلق على معنى واحد، بل يُعيد إنتاج ذاته مع كل قراءة.
فـ “التذكّر” في النهاية ليس عودة إلى الوراء، بل صيرورة دائمة للوعي بالذات والزمان والمكان.
خاتمة:
قصيدة “مثل رجل يتذكّر” نصّ يتجاوز حدوده الشعرية إلى فضاء فلسفي وجودي.
إنها ليست فقط عن الفلسطيني الذي يرحل، بل عن الإنسان الذي يحاول أن يتذكّر كي لا يموت مرتين.
فيها التراجيديا والقداسة، المنفى والبيت، الخيانة والطهر، وفي عمقها صراع الذاكرة مع النسيان، وصراع اللغة مع العدم.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.
.....................
مثل رجل يتذكَّر
الرحلة (1)
ممتلئة بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة، متكئاً على سيرتي، ومتأملاً خزائنَ الموتى وطيورَهم، ممتلئةً بالنسيان وحوادثَ يوجِزُها رحالةٌ قلقون ومتعثراً بنوايا جوّالين أخّرتهم أمنياتُهم، وبلصوصٍ لم يتوقفوا ليسألوا عن الدروبِ المؤديةِ للتلال، ومهتزاً في حقولِ الذرةِ الفقيرةِ تنفرُ من تحتِ قدميّ الطيورُ مثلَ فراشاتٍ متربة...
الأمرُ كلُّه:
يشبهُ النومَ في غرفِ الميتين
التجوّلَ أعزل
في الرائحة.. ،
حيثُ أحلامهم، دونَ باقي الرواية،
منسيةٌ في الظلالِ
وحيثُ انتهى الأمر
...
...
... وفي الظلِّ، أيضاً،
ستلمعُ أكتافهنَّ النساءُ القتيلاتُ،
متروكةً في التذكّر.
*
مَنْ نثرَ الكحلَ في جنباتِ الكلام ِ
وقادَ البخورَ إلى الترنيمةِ
مَنْ استغفرَ ونَوَى
على هذهِ المصاطبِ المفرودةِ لغيرِ العابرينَ والطرّاقِ
مَنْ أحبك حتى لا يوقظك
وبكى عنك
وتنهدَ فيك
وإذ تتذكّرُ كلَّ شيء
: القشَّ والكتفَ
الحفيفَ والظلَّ
الماءَ والشهقةَ
التعثرَ والمناداةْ
لا تراهُ.. لا تلمسه!
*
الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ
يأتونَ بالمنفى إلى البيتِ
ويرمّمونَ الماضي
في مرثيةٍ عادلةٍ
يعيدونَ صنعَ القهوةِ
بهمّةِ ميتٍ
ويطوونَ الرغبةَ مثلَ حاشيةٍ ملّونةْ.
*
الوحيدونَ يفعلونَ ذلكَ
يختارونَ مقعداً منـزوياً
مثلَ اسمٍ ذابلٍ لشجرةْ
ويبدأونَ بوصفِ الماضي مِن جديد:
*
المرأةِ المتزوِّجةِ حديثاً
الخيانةِ الممهّدةِ في حديقةِ الجار
الدرجِ المعتمِ
وخزانةِ العائلة
السيرِ على حافةِ الروايةِ
وتفتيشِ المارّة
*
زراعةِ النساءِ في المخيِّلة
وإعادةِ النظرِ في الندم
ترتيبِ المنحنياتِ القليلةِ على الرفوف
وإشعالِ شمعة...
*
ها هي البيضاء
أختُ الناسِ
صوتُ الذاهبينَ إلى التلالِ
تفرُقُ المعنى أمامَ الماء.
*
نبدأُ من هناكَ إذنْ
ونذهبُ في هناك.
*
مآذن بيضاء
سور أبيض
والنوم أبيض
صيحةُ الأسماء تعبرُ من أعاليَ السورِ
نحوَ قلوبهِم بيضاءَ.
*
ممتلئةٌ بأخطائهم الطرقُ التي أذرعها هذه الصبيحة
ناقصةٌ ومشغولةٌ بالنسيان..
... مَنْ لم يغطِّ الجبالَ
ومَنْ أهملَ السهلَ حتى اطمأنَّتْ أفاعيه
مَنْ كانَ ينسى أحابيلَه في مسَّراتِ هذي القرى،
في زراعتها وهي تنأى عن البرِّ
حين "المكلاّ" التي صَعَدَتْ.. سلَّماً غائراً
كي تنقِّبَ سوقَ النساءِ وما تركَ الذاهبونَ، الذكورُ،
على القشِّ من نومهم
حيث أكتافُهم لم تزل تُشتهى
والضحى يدفعُ اليومَ من ظهره مثلَ ثور؟! مَنْ لم ينمْ كالغبار على دككِ السوق،
سوقِ النساءِ، ولم يتئدْ،
أو يُرى في المساءات يأوي إلى الخان
أبيضَ من أثرِ الكلسِ والجيِر والحرِّ؟!
ومن لم يثقْ بالرضى، أو يربّي النسورَ على حجرِهِ
أو يفق نائحاً
أو يُنادى من الليلِ سبعاً
كما تفعلُ الطيرُ؟!
*
مَنْ أنتَ لتتذكَّرَ وترى
العابرَ متمهِّلاً في أحجياتِ الآخرينَ وعجائبهم
من أنت لتتذكر!
العابَر! متمهِّلاً في عتمتهم
وفي أثرِكَ لعنةُ أشيائهم
... الشالُ في الواجهةِ المضاءةِ قبلَ ثلاثينَ سنة
حين كنّا عائدين من النهرِ بأعضاءٍ مبلّلة
أجراسُ الخطايا في الظلال
وثرثرةُ الفضيلةِ في الصالة
إشاراتُ المثليينَ في الحدائقِ العامة
وتعاليمُهم
اُعذر البيتَ
والدرجاتْ
اعذر الضوءَ والذاهباتْ
مضت زوجةُ الآخرين إلى بيتِها وحدها
واعذر الخائناتْ. مَنْ أنت لتتذكَّر
مَنْ أنتَ لتمرَّ في احتفالاتهم المطفأة
وتتعثرّ في أحلامِهم دونَ رأفة؟!
*
مَنْ أنتَ لتفعلَ ما تراه
وتروي فننصت:
ضيوفي عشرةُ عميان
يتوكأون على الليل
بيضاً من العمى
يحيطون بنومتي
*
بينما كلبٌ أسودُ يتنفسُ فيهم
ضيوفي عشرة عميان
وصدَقَتي جاريةْ.