قراءات نقدية

بهيج حسن مسعود: قراءة في رباعية الشاعر العراقي يحيى السماوي

حـبـيـبـي للشاعر يحيى السماوي

قال ابن الفارض في واحدة من روائع شعره في العشق الصوفي:

شـربنا على ذكرِ الحـبـيـبِ مـدامة ً

سَـكِرْنا بها من قبلِ أن يُخلقَ الكَرمُ

***

أيُّ الأحـبـةِ عـنـدهُ مـثـلـي بـدنـيـا الـعـشـقِ

إلْـفُ ؟

*

يُـعـطـي بـلا مَـنٍّ..

ويـغـفـرُ لـيْ إذا اسـتـجْـديْـتُـهُ مـاءً

لأطـفـئَ جَـمـرَ آثـامـي

فـيـعـفـو!

*

سـيـمـاؤهُ نـورٌ وإكرامٌ

وإحسانٌ وعـطـفُ..

*

أغـفـو... سـريـري جـفـنُـهُ...

فـأنـا حـبـيـبـي لـيـس يـغـفـو

*

ويـداهُ لـيْ سُــورٌ ويـنـبـوعٌ

وبـسـتـانٌ وسـقـفُ

*

وهـواهُ خـمـري إنْ شــربـتُ وشــدَّنـي

لـلـرقـصِ عـزفُ

*

يـزدادُ صـحـواً شـاربـوهُ

فـلـيـس مـثـلَ شــذاهُ رشْــفُ

*

مادامَ في قلبي

فليس يمسّني يأسٌ

وخوفُ

*

سـألـوا فـؤادي عـنـهُ وصـفـاً...

فـاسْـتـحـالَ عـلـيـهِ وصـفُ "١"

*

الـخـلـقُ ـ كـلُّ الـخـلـقِ ـ فـي

قـامـوسِـهِ الـكـونـيِّ: حَـرْفُ

***

"١" الضمير في "عليه" يعود إلى القلب

.......................

سأقرؤها بثلاثة وجوه: عامة، انزياحات وصوفية، ايقاعية

أولاً - القراءة العامة:

تتشظى القصيدة أمام القارئ لا كنصٍّ مكتوب، بل ككونٍ موازٍ تُعاد فيه صياغة علاقة العاشق بالمعشوق. هنا، لا نجد ذلك التابع الخاشع في التصوف الكلاسيكي، بل نرى "أنا" متجذرة تطرح سؤال التميز: "أيُّ الأحبة عنده مثلي؟". إنها لا تطلب الفناء، بل تعلن عن وجودها الفريد الذي يُعاد تشكيله عبر حضور "الحبيب". لقد قلب السماوي المعادلة؛ فالنوم لا يأتي من غفلة المحبوب، بل لأن "سريري جفنه"، واليأس لا مكان له "مادام في قلبي". إنها علاقة وجودية، الحبيب فيها هو الضمانة الوحيدة ضد العدم.

تبني القصيدة عالمها عبر استعاضة المجرد بالملموس. فـ "يداه" ليستا رمزاً للعطاء فحسب، بل هي "سور" يحمي، و"ينبوع" يروي، و"بستان" يثمر، و"سقف" يؤوي. كل صفة تحمل في طياتها حكاية وقصة وظيفة. حتى "الخمر" الصوفية، ذاك الرمز الأثير، تُسقطُها القصيدة في عالم الحواس لتصير "هواه خمري"، لكنها خمرةٌ فريدة، تدفع للرقص لا للسكر، وتزيد شاربيها "صحواً" لا ذهاباً في الغياب. إنها استعارة جديدة للمعرفة والوعي، تختلف جذرياً عن مفهوم السكر الصوفي التقليدي.

الانزياح الأكبر يكمن في اللغة نفسها، في تلك القدرة على تحويل الكون إلى نظام لغوي تابع للحبيب. "الخَلقُ – كلُّ الخلق – في قاموسه الكوني: حرف". هذه الجملة الأخيرة ليست خاتمة عابرة، بل هي زلزال معرفي يُختزل فيه الوجود كله في أبجدية الحبيب، ليصير مجرد "حرف" في قاموسه الشخصي. هذا الانزياح اللغوي – الفلسفي هو ذروة التحرر من كل الأوصاف التقليدية. ولهذا، عندما "استحال على القلب" وصفه، لم تكن الاستحالة عجزاً، بل إعلاناً عن فشل اللغة التقليدية في احتواء تجربة تتجاوز كل ما هو مألوف. القلب هنا يعترف بأن الحبيب قد أصبح نظاماً كونياً خاصاً، مستحيل الوصف بغير لغته هو.

ثانياً- تحليل لعلاقة قصيدة يحيى السماوي بالتراث الصوفي، مع التركيز على الانزياحات اللغوية التي تشكل نسيجها الشعري الفريد. سأعتمد في هذا التحليل على المفاهيم النقدية الحديثة، وسأقوم بربطها مباشرةً بالنص.

الانزياح اللغوي: قلب المفاهيم وتكسير المألوف

الانزياح هو "خروج التعبير عن المألوف من الكلام ونسقه المثالي"، وهو الأداة التي تميز اللغة الأدبية وتجعلها لغة خاصة. في قصيدة السماوي، نجد هذا جلياً في عدة مستويات:

1- انزياح دلالي: وهو الانزياح في معاني الكلمات والمفردات. يقوم السماوي من خلاله بقلب المفاهيم الصوفية التقليدية رأساً على عقب. فالحبيب لا يغفو بينما يغفو العاشق، مما يناقض الصورة التقليدية للعاشق الولهان الذي يسهو عن المحبوب. والأكثر لفتاً للانتباه هو الانزياح في مفهوم الخمرة الصوفية؛ فخمرة الحبيب "تزيد شاربيه صحواً" لا سكراً. هذه الانزياحات تخلق "مفاجأة" للمتلقي وتؤكد على أن تجربة العشق هنا تمنح الوضوح واليقظة، وليست غيبوبة للوجد.

2- انزياح تركيبي (نحوي): يتجلى في الانزياح عن القواعد النحوية المألوفة لخلق إيقاع ودلالة جديدين. يمكن ملاحظة هذا في جمل مثل "سريري جفنه"، حيث يخلق السماوي تركيباً جديداً ومكثفاً يعبر عن الاتحاد والحميمية بشكلٍ ملموس، متجاوزاً قواعد الإضافة النحوية المعتادة ليعبر عن تلاشي المسافات بين الذات المحبة والموضوع المحبوب.

3- انزياح استبدالي (مجازي): وهو الانزياح الذي يقوم على المجاز والاستعارة. يحوّل السماوي الحبيب إلى عناصر طبيعة وحماية مادية: "ويداه لي سورٌ وينبوعٌ وبستانٌ وسقف". هذه الاستعارات المتسلسلة تبتعد عن التجرّد الصوفي الكلاسيكي لترسم حبيباً هو أساس العالم المادي والروحي للشاعر، مانحاً للحماية والعطاء والنماء.

العلاقة مع التراث الصوفي: حوارٌ وتجديد

لا تنقطع القصيدة عن التراث الصوفي، بل تدخل معه في حوارٍ خلاق، يتمثل في:

1- توظيف الرمزية الصوفية وتطويعها: استخدم المتصوفة الرمز "للتعبير عن وجدانهم وخبراتهم الذوقية" لأنها تتسع للمعاني التي تعجز اللغة العادية عن إمساكها. السماوي يستعير هذه الآلية لكنه يُعِدّ شحنها بدلالات جديدة. فالحبيب ليس غائباً يُتطلع للاتحاد به، بل حاضرٌ في القلب يطرد اليأس والخوف. كما أن القصيدة تخلو من "العاذل" أو "اللائم" التقليدي، مما يشير إلى أن هذه التجربة الشخصية لا تحتاج إلى تبرير أو دفاع.

2- البناء على فكرة "القلب" كمركز للمعرفة: الإحالة في هامش القصيدة بأن "الضمير في 'عليه' يعود إلى القلب" تضعنا في صميم التصوف، حيث القلب – وليس العقل – هو أداة الإدراك والكشف. عجز القلب عن الوصف ("استحال عليه وصفه") هو ذروة المعرفة الصوفية القائمة على المشاهدة والذوق، والتي تعترف بعجز اللغة عن احتواء حقيقة التجلي.

3- الانزياح عن النموذج الصوفي الكلاسيكي: إذا كان الشعر الصوفي الرسمي التقليدي يُكتب بلغة فصيحة وبقالب محدد، فإن قصيدة السماوي تأتي بلغة شعرية حديثة، تخلط الفصحى بلهجة السرد اليومي، وتستخدم تقطيعاً مختلفاً، مما يجعلها أقرب إلى "الشعر الصوفي بأسلوب حداثي" كما هو الحال في تجربة شعراء مثل عبد الوهاب البياتي وأدونيس.

خلاصة تحليلية

ما يقدمه يحيى السماوي في هذه القصيدة ليس تكراراً للتراث الصوفي، بل إعادة تأويل له من خلال الانزياح. فهو يستعير الإطار العاطفي والروحي للعشق الصوفي، لكنه يملأه بتجربة شخصية يكون فيها "الأنا" فاعلاً وموجوداً، والحبيب حاضراً وداعماً. الانزياحات اللغوية – دلالية كانت أم تركيبية – هي الآلية التي ينقل من خلالها هذه الرؤية المجدّدة، ليخلق "نظاماً لغوياً جديداً" يعبر عن عالمه الشعوري الفريد.

ثالثاً- الايقاع

دعونا نغوص في البناء الإيقاعي والنظام الرمزي، حيث يُعدان عماد التجربة الجمالية في القصيدة.

البناء الإيقاعي: موسيقى اللااستقرار

لا تتبع القصيدة نظام البحور الخليليّة التقليدي، بل تصنع إيقاعها الداخلي عبر تقنيات أكثر حداثة. إنها موسيقى هادئة لكنها مضطربة، تعكس حالة الشاعر بين اليقظة والوجد. يتشكل هذا الإيقاع من خلال:

1- تقطيع النص إلى وحدات نفسية: فالفقرات القصيرة المنفصلة بعلامات النجمة (*) تشبه أنفاساً متقطعة، أو لحظات تأملية منفصلة متصلة، حالة التدفق الذهني للعاشق.

2- توازن الجمل وتوازيها: لاحظ التوازن في "يُعطي بلا منٍّ... ويغفر لي"، وهذا التوازن اللفظي يخلق نغمةً شبيهة بالترنيم أو التكرار التأملي، مما يذكرنا بأذكار الصوفية، لكن بصيغة شخصية.

2- انزياحات نحوية مقصودة: مثل حذف حروف العطف أو تقديم الخبر على المبتدأ، مما يخلق إرباكاً إيقاعياً جميلاً يعكس ارتباك العاشق ودهشته. هذه الانزياحات تكسر توقعات الأذن، فتصير الموسيقى غير مستقرة، كقلب العاشق.

هذا الإيقاع المكسور والمليء بالمفاجآت لا يخدم المعنى فحسب، بل يصبح هو نفسه تعبيراً عن "صحوة" السكران، عن يقظة القلب في حالة الحب.

النظام الرمزي: قاموس الحب الشخصي

لا تكتفي القصيدة باستعارة الرموز الصوفية الجاهزة، بل تبني نظامها الرمزي الخاص، الذي يتشابك فيه الجسدي بالروحي، والمادي بالمطلق:

3- رمز اليد: "ويداه لي سورٌ وينبوعٌ وبستانٌ وسقف". اليد هنا ليست مجرد أداة عطاء، بل هي رمز مركزي متعدد الأبعاد. إنها "سور" للحماية من الخارج، و"ينبوع" للارتواء من الداخل، و"بستان" للنماء والجمال، و"سقف" للأمان الوجودي. هذا التعدد يحول الحبيب إلى فضاء حياتي كامل، يقدم كل احتياجات الوجود المادية والمعنوية.

  • رمز الخمر والصحو: هذا هو الانزياح الأكبر عن الرمزية الصوفية الكلاسيكية. الخمر التقليدية تفضي إلى "السكر" وفقدان الوعي. أما خمر السماوي فـ "تزيد شاربيه صحواً". إنها تحويل جذري للرمز؛ فالحب هنا ليس هروباً من الذات أو العالم، بل هو وسيلة لفهم أعمق ووعي أوضح. إنه خمرة تمنح الوضوح، لا الغياب.

4- رمز القلب والوصف: "سألوا فؤادي عنه وصفاً... فاستحال عليه وصفه". القلب هنا ليس مجرد مضخة دم، ولا مجرد وعاء للمشاعر. لقد تحول إلى "عقل بديل"، إلى أداة للمعرفة العليا. لكن هذه الأداة نفسها تعترف بعجزها. هذا العجز عن الوصف ليس فشلاً، بل هو إعلان عن أن التجربة تتجاوز قدرة اللغة ذاتها. القلب يعرف، لكنه يعجز عن الترجمة إلى كلمات.

5- رمز الحرف: "الخلق – كل الخلق – في قاموسه الكوني: حرف". في هذا الرمز الأخير، يختزل السماوي الكون كله في أبجدية الحبيب. الحرف هو أصغر وحدة في البناء اللغوي، وأصغر من أن يحمل معنى كاملاً بذاته. اختزال الكون إلى "حرف" في قاموس الحبيب يعني أمرين: استصغار شأن كل ما عداه، وفي الوقت نفسه، جعل الكون كله قابلاً للقراءة وفهم معناه فقط في إطار علاقته بالحبيب. إنه رمز يجمع بين التوحيد الفلسفي والتذلل العاشق.

هذان البعدان – الإيقاع والرمز – لا يعملان بمعزل عن بعضهما. فالموسيقى المتقطعة تعزز إحساس الانزياح في الرموز، والرموز الجديدة تحتاج إلى إيقاع غير تقليدي لتحملها. معاً، ينسجان عالم القصيدة الفريد، حيث يصير الحبيب نظاماً كونياً شخصياً، ولغة جديدة، وإيقاعاً لحياة الشاعر بأكملها.

***

بقلم: بهيج حسن مسعود

في المثقف اليوم