قراءات نقدية

جبَّار ماجد البَهادليّ: "المَاجِدِيَّةُ".. شَاهداً سَرديَّاً عَلى هُوِيَّةِ الآخرِ الثَّقافيَّةِ

لا شكَّ أنَّ القارئ الواعي والمُتلقِّي الذكي أو الناقد الألمعي النابه الذي يُطالع مدوَّنة (المَاجديَّةُ)، الرِّوايةُ التي ابتدأت خطَّ مسارها التعبيري (الأُفقي والعَمودي) الزمكاني التأثيثي الأوَّل من الماجديَّة ذاتها وانتهتْ بعَتبة مثابة المَاجديَّة الكونية نَفسَها، ثُمَّ يُحاول جاهداً الغوصَ عميقاً في مكامن لُجِّها السردي، والنبش الفكري في أغوار وحِفريَّاتِ فصولها (التسعةَ عشرَ)فصلاً، ويُمعنَ النظر والتأمُّل وئيداً في لُقى وآثار نصوص وحداتها السردية، وَدُرَرِ جَواهر مكنوناتها الموضوعية التشاكليَّة، لا يمكن لهُ أنْ يضعها تحت خانةٍ تصنيفيَّةٍ مُعيَّنةٍ، أو تحتَ توصيفٍ تجنيسي أو مُسمَّىً سرديٍّ ما.

وذلك؛ لكونها روايةً تكامليَّةً التأثيث في التجنيس والتأسيس والتكريس السردي الشُّمولي، ومن روايات الحداثة (المِيتَا سرد)، وما بعد الحداثة الجامع لكلِّ التصانيف والأفكار والرؤى والتَّطلُّعات الذاتية والموضوعيَّة التجدُّدية.

فَيُمكنُ أنَّ نطلق عليها بالدرجة الأولى رواية بنية تجلِّيات (المَكان) والتاريخ الضارب الأصل، ورواية الأرخنة السيرية والتوثيق التاريخي الشخصي الحديث والمعاصر. وهي رواية مُتعدَّدة الرؤى والأفكار ولاتجاهات الموضوعية وكثيرة الأنساق والمرجعيَّات الثقافيَّة البعيدة والقريبة.

و(المَاجديَّة) بدرجة اهتمامنا السردي والفكري الآخر، هي رواية الآيدلوجيا العقائدية في رفض الواقع الحياتي المعيش وعقابيل مواجهة تحدِّي الراهن السلطوي. وهي مِهمَاز فكري مناهض في سرديَّات ما بعدَ الواقعي السِّحري والأُسطوري المخيالي، أو البثّ القصصي الغرائبي والعجائبي الوجودي الفريد الذي يَستمدُّ مصادرة الفنيَّة واشتغالاته الثقافيَّة والفكريَّة والموضوعية من ظلال ومثابات الواقع الوارف. ومن صور وأديم التقاطات تجلَّياته الوجوديَّة الظاهرة والخفيَّة.

و (المَاجديَّة) أيضاً يُمكن أنْ نعدَها توصيفيَّاً رواية الارتحال الشَّخصي، أو أدب الرِّحلات الحكائي السَّردي، ويُمكنُ أنْ تكون تَبئِيراً نصيَّاً لافتاً لسرديَّات الحسِّ الأمني والاستخباري والبوليسي القمعي لنفوذ أجهزة الموساد الإسرائيلي والأمريكي، والمحيط الأقليمي لدول الجوار العراقي التي لا يمكنَّ الشكِّ بها خارجياً بدءاً من شمال الوطن ووسطه ومُروراًبالكويت وتركيا وفرنسا وأمريكا.

و (المَاجديَّةُ)أيضاً، هي رواية المكان والزمان والشخصيَّات والصراع والحوار والعُقدِ والتَّعقيدات التي تتجلَّى فيها سرديَّات مظاهر الأدب التأصيلي الممزوج بميلودراما الفنِّ الحركي لبَصَرِي والفنِّ المَسرحي. وهيَ رِواية الماضي القريب والحاضر الزمني الآني المَعيش الذي يُؤرخنُ لنصف قَرنٍ من الزمان من تاريخ مدينة أو حيِّ شعبيٍّ فقيرٍ يقطنه الكثير من المُتعبينَ الكادحينَ والمناضلينَ الذين يَسعَونَ لمستقبلٍ زاهرٍ حُرٍّ كريمِ العيش يُسمَّى (الماجديَّة)، إحدى مناطق أو الأحياء الشعبية المشهورة الأثر لمدينة العُمارة ذات التاريخ المَديني السَّومري الأصيل التي تتوسَّد وتنام وتغفو ضافيةً على ثلاثة أفرع من نهر دِجلة الخالد لتنعمَ بالحبِّ والخيرِ والجَمالِ والسلامِ برغم يدِ الزَّمنِ.

و (المَاجديَّة)، رِوايةُ (يُوتوبيا) مدينة السرد الإنساني الفاضلة والكاشفة (لدستوبيا) الواقع التعسُّفي المرير الفاسد، والمُضاد لتلكَ المدينة التي تقاوم سِهامَ الشرِّ وتُحاربُ كُلَّ اتجاهاته القميئة المُختلفة.

 (المَاجديَّةُ)، ليست مجردَ روايةٍ تتألَّف من مجموعةِ حكاياتٍ وأفكارٍ فاعليةٍ متناميةٍ وموضوعاتٍ سرديةٍ جريئةٍ واثبةٍ فحسب، إنّما هيَ في واقع الأمر روايةٌ بيئةُ مُحيطيةٌ جمعيةٌ، وليست روايةً شيئية وصفية، روايةُ المُثقَّف الواعي والإنسان البسيط المُكافح العادي الذي كان شاهداً على جريمة العصر، وعلى هُويَّة الآخر الآثم بين عتبات الماضي وإرهاصات الحاضر الآسر، وبين الحاكم الآمر الجائر، والمَحكوم عليه المأمور، والسائل والمُسؤول، رواية القاتل الجلَّاد والضحيَّة المقتول.

من يَتَتَبَّعْ بوعي وإدراك ثاقبين سطورَ رواية (المَاجديَّة) ويتأمَّل معاني صفحات فصولها الكليَّة، سيقرأْ بتجلٍّ أنَّها سرديَّاتٌ ومرويَّاتٌ شعبيةٌ وثائقيةٌ حقيقيةً تشي بِعَدلٍ وَإنصافٍ موضوعيَّةٍ حياديَّةٍ إلى ثُلَّةٍ طيِّبةٍ لنماذج من المناضلينَ والأحرارِ وشخصيَّاتٍ خَيِّرةٍ من المُهمشينَ والمُغيَّبينَ والمُعدمينَ والمسكوتِ عنهُم عن قصدٍ من رجالِ ونساءِ مدينةٍ لا تَعرفُ الذُّلَّ والخضوع والاستسلام والكَلل. شخصيَّات حركيَّةٌ تَنشدُ التَّحرُّرَ وترفعُ راية الوجود والأمن والأمان والسَّلام (أكونُ أو لا أكونُ).

إنَّ أغلب شخصيَّات رواية المَاجديَّة الرئيسة والثانوية، هي شخصيَّات واقعيَّة حقيقيَّة بحتة، ما زالت سِيرُهُم الذاتيةُ الوجوديَّة، وذِكراهُم الحَدثيةُ الواقعيةُ تحتفظ بها ذاكرة أجيالٍ فذةٍ من أهل العُمارة الطيبينَ، هذ المدينة الجنوبيَّة الضاربةُ جذورُها التاريخيةُ بعيداً في الأرض. ومَنْ مِنَّا لا يتذكَّر شخصيَّة الرجل (كرَيِّم شيشةُ) المُثيرة للجدل، وشخصيَّة (جَميلةُ الكحَّاحَةُ) المُتسوِّلة الشَّعبية.

أمَّا القسم الآخر من هذه الشخصيَّات الفرعيَّة الواقعية الفردية والجمعية المشتركة، فقد وضع لها المؤلِّف الكاتب أسماءَ رمزيةً افتراضيَّةً وهميةً مُستعارةً تُناسب موحياتُها الفواعليَّةُ مَشاهدَ حركةِ وفعل الواقعة السرديَّة وصورها التاريخية الجميلة التي تمنح الرواية فضاءً مِخياليَّاً مُؤثِّراً لتجلِّيات واقعة الحدث السرديَّة، وتشغل فكر المتلقِّي والقارئ بوقع ماهيتها الإنسانية والاجتماعية المتفرِّدة.

 (المَاجديَّة)، هيَ عتبةُ الرِّواية المَركزية الأولى، ومِفتاحُ بوابة الدخول إلى أُسِ مدينة السَّرد الفاضلة بكلِّ تجلياتها، والتي كُتِبَتْ مَسروداتُ نصوصها تَيمُنَاً باسم هذه المدينة الثائرة؛ وفاءً لأهلِها وأُناسِها المتأصِّلين، تعدُّ مِنَ الروايات (البُوليفونيَّة) المُتعدِّدة الأصوات والرموز والشخصيَّات المؤثِّرة.

فهذا هو النهج الأُسلوبي السِّيري والحركي الذي التزمت به مَسرودات هذه الرواية في بعض فصولها الأولى وتهادت؛ بَيدَ أنَّها بفعل حذاقة كاتبها كاظم أبو جُويدة وثقافته الفكريَّة المُتجدَّدة، وألمعية أسلوبيته التعبيريّة الفنيَّة والتَّخليقيَّة الأخَّاذة تحوَّلت لُغة فصولها الأخرى إلى رواية البطل المركزي الواحد الَّذي تَمثَّلت اسميته الشخصيَّة الأنثويةبـ (نِسرين). المَرأة العماريَّة الهَوى و النشأة، وذاتَ النَّسب اليهودي والأصول العراقية الضاربة الميلاد والأرض والتاريخ لهذه المدينة. وهذا النسق السِّيري السردي الأسلوبي الذي اِتَّبعه الرَّائي العليم (الكاتب)، سَيكتشفه القارئ بنفسه ويتلمَّس فنيَّته التواصلية والابتداعيَّة الذكيَّة بعد أن يتوغَّلَ في فضاءات فصول الرواية ويستمتع بسردياتِها.

جَميلٌ جدَّاً أنْ تكونَ بطلة هذه الرواية امرأةٌ عماريَّةٌ مَيسانيَّةٌ حقيقيةٌ أصيلةٌ اسمُها (نسرين)؛ ولكنَّ الأجمل والأبهى أنْ تتعدَّد مُسمَّيات هُوِيتِهَا الذاتية الاسمية إلى أسماء ستة أُخرى بوليفونيَّةٍ تُنسبُ لهذه البطلة الجهادية وتتقنَّع بها شخصيتها الأنويَّة والذاتية وفق ما تتطلَّبه مظاهر التسريد الحداثوي وإجراءاته الحركيَّة المتنامية.

فهيَ تَبعاً لسلسلةِ هذا التَّسريد الحدثي تأخذ أسماءَ عديدةً مثلَ، (سارةُ، ونسرينُ، وجميلةُ الكَحَّاحَةُ، وَعنَيدَةُ، وصَوفِي، ومَارِي)،أسماءٌ شرقيةٌ وأوربيةٌ غربيةٌ بحسب طبيعة الأمكنة التي تقنَّعت لأجلها. ومن ثم عودة هذه البطلة في خواتيم هذه الرواية إلى اسمها الميساني الحقيقي الذي اكتشفته من قِبَلِ ذويها متأخراً بأنَّ اسمها الذي عرفته صدفةً، هوَ (نِسرينُ) بنتُ (ميثمُ الوالي)الذي تركها أمانةً وبِيعَتْ في طفولتها اُضطراراً بُغيةَ ضغط خطِّ الفقر وطائلة الظروف الاجتماعية القاهرة والخطيرة.

والتي أرغمتها أنْ تتخذ لنفسها أكثر من اسمٍ مُزيفٍ وهَويَّةَ تَقنُّعٍ مُزورةٍ؛ بسبب كثرة ملاحقتها الأمنية السريَّة من أجل تصفيتها جسديَّاً في واقعها الحياتي والسِّيري المعيش الذي أوصلها لهذه الحال من البؤس والفقر والشقاء الاجتماعي على الرغم من أنها من عائلةٍ يهوديَّةٍ ميسورة ثَريَّةٍ.

أمَّا لُغةُ الرواية، فإنَّها كُتِبتْ بلغةٍ سرديَّةٍ جماليَّةٍ ناهضةٍ وماتعةٍ وبأُسلوبٍ فنِّي عالٍ وشائقٍ عذبٍ ومُهذبٍ يَجمع بين لغة الواقع اليومي التداولي المألوف المَعيش، وبلاغة لغة الانزياح الأُسلوبي الفنِّي الدرامي المرئي وغير المرئي ذي الأثر السردي الناهض في آليات القراءة والتلقِّي المعرفي.

وهذا التباين الثقافي منح الرواية جماليات الإبداع والابتداع والتأصيل الذي يجذب القارئ إليه ويجعله متواصلاً معها دون الفكاك عنها حتى آخر فصلٍ من فصولها. وقد سيطرت الكثير من الوقائع والمشاهد ذات الأثر المَسرحي الحركي على فصول الرواية؛ لكون كاتبها المُبدع كاظم أبو جُويدة مُختصَّاً بالفنِّ المَسرحي ومثابراً غي أدبه السَّردي الحكائي.

ومن لوافتِ فنيَّة التعبير الأُسلوبية التي دشَّنت فصول الرواية، قِيامُ الكاتب الرائي في كلِّ فصلٍّ من فصولها التسعة عشرَ بوضع ِعتبةٍ تصديريَّةٍ تكون مُقدِّمةً دلاليةً تُناسب موضوعةَ سرديَّاتِ الفصول. وهي عباراتٌ مأثورة أو أقوال ثقافيَّةٌ مُختارةٌ لجمهرة من أساطين الفكر والأدب والفنِّ والشِّعر من الذين لهم مكانتهم الفلسفية والمعرفيَّة المرموقة عالميَّاً وعربيَّاً، وهذا دليلٌ على ثقافته.

وفي جانب أسلوبي أخر عَمدَ المُؤلِّف الكاتب أبو جُويدة قصديَّاً وفنيَّاً في بناء تركيباته السرديَّة والجُمليَّة، وتأثيث حواراته الحكائيَّة إلى توظيف واستقدام بعض المُفردات العاميَّة باللَّهجة المَحليَّة العراقية الدارجة؛ كونها تُضفي على لُغة السرد وفضاءاته المكانية لوناً من التلقائية التعبيرية وتمنح البناء السردي تأثيراً سحريَّاً أخاذاً مُباشراً يُلقي بظلاله الفنيَّة والجماليَّة على نفسيَّة المتلقَّي ويُمتِّعُهُ.

بقي أنَّ تدركَ أنَّ عملاً روائيَّاً سرديَّاً بحجم رواية (المَاجديَّة)، يُعدُّ عملاً فنيَّاً أركيلوجيَّاً مهمَّاً للكشف عن آثار ومُعميَاتِ حَقيقةٍ تاريخيةٍ مُهمَّةٍ قابعةٍ خَلفَ نِقابِ اللُّغةِ زمكانياً من إرث نظام الحكم الدكتاتوري البائد، للتعرُّف على حياةِ أُناس أنقياء مُكافحينَ قدَّموا أنفسَهم الأبيَّةَ قُرباناً للوطن الكبير، ولهذه المدينة الصامدة بوجهِ تَحدِّيات عقابيل الزمن ورَزاياهٍ المُفتعلة التي طالت حياتهم ومستقبلهم.

وعلى وفق ذلك النهج التخليقي الإنتاجي الذي اعتمده الكاتب المثابر أبو جُويدة في مسار تجربة مشروعه الثقافي السردي الرِّوائي الأوَّل المَكين، وبوصفهِ شاهداً وثوقيَّاً تاريخيَّاً، ورائيّاً عَيانيَّاً شخصيَّاً صادقاً على أحداث عصره وحمولاتِ جرائمه التاريخية بحقِّ الإنسانيَّة، وتحوَّلاته الزمانية السريعة التي جال بأحداثها داخليَّاً، وانتقل بوقائعها السرديَّة المتوالية خارجيَّاً بطريقةٍ إمتاعيةٍ تنمُّ عن ثقافةٍ احترافيةٍ مُكتسبةٍ وبسالةٍ فنيَّةٍ راكزةٍ.

يمكن أنْ نَعُدَّ بأنصافٍ وحياديةٍ مهنيةٍ وموضوعيةٍ لا مجانبة فيها إلَّا للإبداع والاستحقاق روايةَ (المَاجديَّة) عَملاً مكانيَّاً توثيقياً وتأصيليَّاً إبداعيَّاً، وببليوغرافيَّاً وصفيَّاً نوعيَّاً مُهمَّاً في أدبيَّات الفنِّ الروائيّ العراقيّ المعصرن الجديد يُضافُ معرفياً إلى لائحة سرديَّات المكتبة العراقيَّة النَّوعية الحديثة التأثيث، والعربيَّة التأصيل التي تقدِّم للقارئ كشوفاتٍ معرفيَّةً وفتوحاتٍ فنيَّةً مُذهلةً التخليق.

***

تَقديمٌ: د. جبَّار ماجد البَهادليّ - ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

في المثقف اليوم