قراءات نقدية
عبد العزيز الناصري: قوس قزح بلا سواد.. قراءة نقدية في ومضة شعرية

للشاعر يحيى السماوي.
نص الومضة:
من خمرة دمي
وخضرة عشب عيني
وبياض قلبي
وزرقة جنوني
وشحوب وجهي
سأرسم قوس قزح للأطفال
قوس قزح يخلو من اللون الأسود
فأطفال وطني يفزعهم السواد
سواد ضمائر وقلوب الساسة
تتأسس هذه الومضة الشعرية على مفارقة شعورية مكثّفة، تنتقل فيها الذات الشاعرة من الاحتراق الداخلي إلى محاولة الخلق والتكوين من رماد التجربة. إنّه خطاب شعري موجّه من الداخل المجروح إلى الخارج المأمول، حيث يمتزج الألم الشخصي بالهمّ الجمعي، ويتحول النص إلى مرآة للطفولة المغتصبة، وللبراءة المنتهَكة في وطنٍ لم يعُد يَسَع الحلم.
يفتتح الشاعر السماوي نصه باستعارات ذات طابع جسدي وروحي عميق:
فهو هنا، لا يستدعي أدواته من الواقع البارد، بل من صميم ذاته: دمه، قلبه، جنونه، وجهه. إنها لغة تنطلق من التجربة الوجودية المباشرة، تُحيل على أن الكتابة ليست ترفًا ولا وصفًا، بل هي معاناة تتخثّر في صورة. فالخمرة ليست متعة، بل وجع مختمر؛ والبياض رمز الصفاء ، والوجه – ذلك المرآة الخارجية – يبوح بشحوبه عن ليلٍ طويل من الإنهاك.
هذه المقدمة المرهفة تُؤسِّس للذروة التي تأتي بعدها:
"سأرسم قوس قزح للأطفال"
الفعل هنا فعل خلق، لا هدم. في عالم مأزوم، يختار الشاعر أن يستجيب لا بالقسوة، بل بالفنّ. لكن هذا "القوس" الذي يعد به، ليس بريئًا تمامًا. إذ إنه قوس قزح ينقصه اللون الأسود، وكأن الشاعر يُعيد بناء صورة الطفولة، لكن بما يناسب براءتها، خاليًا من الخوف.
يكتسب اللون الأسود في هذه الومضة وظيفة رمزية كثيفة. فهو ليس فقط اللون البصري الذي يرتبط بالحزن والموت، بل هو أيضًا التمثيل الأخلاقي لانحدار السلطة السياسية. فحين يقول:
"فأطفال وطني يفزعهم السواد / سواد ضمائر وقلوب الساسة"
فهو لا يتحدث عن فزع بصري، بل عن رعب قيمي وأخلاقي. الأطفال – رمز الطهارة – صاروا يخشون العالم بسبب ظلمة الداخل، بسبب سواد لا يُرى بالعين المجردة، بل يُحسّ في السلوك والمصير. إنه نقد ناعم وعميق في آنٍ معًا، يُدين الطبقة السياسية لا من باب الممارسات، بل من باب ما تتركه في أرواح الصغار من أثر لا يُمحى.
وفي هذا السياق، يصبح حذف "الأسود" من قوس قزح فعل مقاومة فنية، لا مجرد حركة تشكيلية. إن الشاعر يحاول أن يعيد تشكيل العالم برمزية جديدة، يكون فيها الأسود رمزًا للمسؤولية، لا للطبيعة؛
نتيجة لفعل الإنسان لا قدرًا.
لقد تميّزت الومضة بقدرتها على الإيحاء عبر الاختزال. كل سطر فيها يعمل كشظية، لا تعتمد على التوسع السردي بل على التوتر الداخلي بين الصور. فاستطاع الشاعر السماوي، من خلال عشرة أسطر فقط، أن يُكوّن بنية شعرية مشحونة بالإحساس، متماسكة في نَفَسها ومتصاعدة في بُعدها الدرامي، مما يمنح النص قيمة تأملية لا تعتمد على البلاغة الزائدة، بل على صدق العاطفة وحدة الرؤية.
اذن ...نحن أمام ومضة شعرية مكثفة تمزج بين شعرية الألم وفنّ الأمل. لا تكتفي بإدانة السواد، . بل تسعى إلى تجاوزه ، بالبراءة، بالطفولة. وهي بهذا تكتب سيرة وطنٍ من خلال ريشة شاعر، وسيرة جيلٍ من خلال وجوه أطفاله.
ومضات كهذه، وإن بدت قصيرة، تحمل في طياتها صرخة كاملة بحجم وجع أمة.
***
قراءة/ عبد العزيز الناصري