قراءات نقدية
عبد الله الفيفي: دوافع الخِصام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام!

لعلَّ بيت الداء لدَى أولئك الشُّرَّاح الذين شرحوا شِعر (المتنبِّي) و(أبي تمَّام) أنهم إمَّا نحويُّون، وإمَّا لُغويُّون، أو خليط من أرباب هاتين الصناعتين، وليسوا من النقد في عِيرٍ ولا نَفير. هكذا زعم (ذو القُروح). فأمسكتُ بخِناقه:
ـ وما العيب في ذلك؟
ـ هم لذلك قد اعتادوا على النحو والصَّرف، أي على الانشغال بتحليل الكلمات بناءً، أو بالجمل إعرابًا، ولا كبير شأن لمعظمهم بالأساليب والوحدات البنائيَّة للنصوص. ومن ثَمَّ لا غرابة أن تراهم لا يلتفتون إلى مواقع الأبيات من القصائد إلَّا لمامًا، ولو فعلوا لشَرحتْ لهم القصيدة معظم ما يُرهقون أنفسهم فيه ويُرهقون به القارئ من الشطحات البعيدة. بَيْد أنَّ تلك الشطحات، من جانبٍ آخَر، قد تأتي مقصودةً لذاتها، كما تقدَّم في المساق السابق؛ للمناكفة، والمغالبة، وإظهار التفوُّق، وأنَّ الشارح الآخَر لا يُقبَل منه في المسألة صَرْفٌ ولا عَدْل، كما يقال. ولذا سيتجلَّى لك، إنْ وازنتَ، أنَّ شرح (أبي العلاء المَعَرِّي) لشِعر (أبي الطَّيِّب) هو أقرب إلى المعنى الشِّعري من شروح (ابن جِنِّي)، و(الواحدي)، و(العكبري)، وأضرابهم، ممَّن مَلأوا الدُّنيا وشغلوا النَّاس في غير طائل.
ـ في المساق السابق حلَّلتَ شرحهم لبعض أبيات (أبي الطَّيِّب). هل من نماذج أخرى؟
ـ خذ مثالًا آخَر على هذا ممَّا جاء في شرحهم بيت (أبي تمَّام)، عن مَلِك الرُّوم (توفلس)، في فتح (عمُّوريَّة):
وَلَّى وقَد أَلجَمَ الخَطِّيُّ مَنطِقَهُ ::: بِسَكْتَةٍ تَحتَها الأَحشاءُ في صَخَبِ
ذلك أنَّه لمَّا شرحَ (الصُّولي، -335هـ)(1) البيت بقوله: «مِن خوف الرِّماح لا يُطيق الكلام، ولكن أحشاءه تصطخب. يريد: أنَّ الفَزَع ربما أحدثَ صاحبه، وتحرَّكت أرياح بطنه»، تعقَّبه (ابن المستوفي، ـ637هـ)(2) قائلًا: «لو قطع فسره [كذا!] عند قوله «تصطخب» أتى بالمعنى، أمَّا الباقي، فزيادة قبيحة، لم يُرِدها أبو تمَّام، ولا دلَّ عليها شِعره.» ثمَّ أردف: «ولمَّا فرغتُ من نقل ذلك، وقعَ إليَّ كتاب المرزوقي، الذي سمَّاه «كتاب الانتصار من ظَلَمة أبي تمَّام»، فوجدته قال، عُقيب بيت أبي تمَّام هذا: «ذكرَ بعضهم أنه وَلَّى هذا المنهزم وهو من خوف الرِّماح لا يطيق الكلام»... قال المرزوقي: «هذا لفظه في تفسير هذا البيت... ولو تأمَّل هذا المُفَسِّر أدنَى تأمُّل لكفَى مؤونة هذا الغوص البعيد. والوجه أن يكون المعنى: ألجَمَه الخوفُ بلجامٍ من السكون [كذا! ولعلَّ الصواب: السكوت] لكن قَلْبه يَجِب وأحشاؤه تَخفِق، حتى صار لهما كالجَلَبَة، وهذا معلوم من الخائفين، حتى ربما يسمع صوت جوانحهم من لاقاهم على خُطَى».» وكان (الخطيب التبريزي، ـ502هـ)(3) قد تبِع (المرزوقي) أيضًا في انتقاد شرح الصُّولي، قائلًا: «لا يُلتفت إلى ما ذُكِر من معناه سِوَى هذا.» يقصد أنه لا يُلتفت إلى شرح الصُّولي. والحقُّ أنَّ شرح الصُّولي وارد، ولا يستدعي كلَّ ذلك الاستنكار الغريب. علاوة على أنَّه من العجيب قول ابن المستوفي: إنَّ ما ذكره الصُّولي «زيادة قبيحة لم يُرِدها أبو تمَّام، ولا دلَّ عليها شِعره!» فمَن قال لك، يا ابن المستوفي، إنَّ أبا تمَّام كان في سياق مدح (توفلس) مَلِك (الرُّوم)؟! لقد قامت الأبيات على هجاء مَلِك الرُّوم وتقبيح صورته. فما الغريب أن يقول فيه كلامًا هجائيًّا قبيحًا، مقابل ما كان يقوله في (المعتصم) من كلام مدحيٍّ جميل؟!
ـ لكن (ابن المستوفي) لم يكن نحويًّا، بل كان أديبًا ومؤرِّخًا!
ـ ليس الإشكال في النحو عينه، بل في طغيان الحِرفة العِلْميَّة الصارمة على ذوق صاحبها في فهم النصوص. وقد كان صاحبك وريث ذلك من الاشتغال بالحديث النبوي، وعلومه، مع اشتغاله بالنحو واللُّغة والعَروض والقوافي، وعِلم الأنساب. والأغرب في اعتراضه السابق كأنَّه- ومَن قال بقوله- لم يسمعوا، مثلًا، بالحديث النبوي عن إدبار الشيطان- وحاله كحال (توفلس)- إذا نُودي إلى الصَّلاة، حتَّى لا يَسمع التَّأذين!(4) فمن غير المستغرب أن يكون الشاعر قد نظر إلى معنى ذلك الحديث، تشبيهًا لتوفلس في خوفه وإدباره بالشيطان، في صورته الواردة في الحديث، أو نظرَ إلى غير الحديث ممَّا هو من مألوف كلام الناس عن حالات الخوف والفِرار وما ينتاب صاحبهما. أمَّا ما قاله (المرزوقي، -421هـ) حول مؤونة الغوص البعيد على المعاني، فلا معنى له؛ فأبو تمَّام نفسه من أرباب الغوص البعيد على المعاني. على الرغم من أنَّ معنى بيته واضح، لا غوص فيه، لا في معناه ولا في شرحه، ومغزاه مفهوم لكلِّ ذي قراءة، لولا تلك المماحكات التي أشرنا إليها بين الشُّرَّاح، التي كانت تَأُزُّ كلَّ واحدٍ إلى التماس المآخذ في شرح الآخَر ومواطن النقد فيه.
كما يبدو من المناكفة أيضًا اعتراضُ (ابن المستوفي) على شرح (التبريزي) بيت (أبي الطَّيِّب):
أَنساعُها مَمغوطَةٌ وخِفافُها ::: مَنكُوحَةٌ وطَريقُها عَذراءُ
فلمَّا قال التبريزي(5) في شرح البيت: «جعل خِفافها منكوحةً لأنها دامية، فكأنها العذراء التي قد نُكِحت، وجعل الطريق عذراء لأنها لم تُسلَك قَبل. وحَسُن المعنى لأنه جعل الطريق عذراء؛ لأنها لم تُسْلَك. العذراء: هي التي جرت العادة بأن تُنكَح. وهي هنا ناكحة لأنها التي أدمت الخفاف.» هَبَّ (ابن المستوفي)(6)، قائلًا: «قال المبارك بن أحمد: إنَّما تنكِح خفافَها غِلَظُ الأرض والحصَى. فالناكح غير الطريق. والطريق عذراء لأنها لم تُسْلَك.» فأفسدَ بهذا معنى الشاعر، وأفسد التفاتَ التبريزي في شرحه، بكلامه هذا الذي لا معنى له. فنحن نعلم أنَّ الذي نكحَ خفافَ الناقة غِلَظُ الأرض والحصَى، ولكن أين كان هذا الغِلَظُ والحصى؟ أليسا في الطريق التي يصوِّرها الشاعر، ويصوِّر المفارقة بين عُذريَّتها وما تفعله بأخفاف الناقة؟! وهو ما التفتَ إليه التبريزي. فكيف أصبح «الناكح غير الطريق»؟!
إنَّما هي المناكفة بين الشُّرَّاح، إذن؛ لأنَّ (ابن المستوفي) لم يوضح لنا سبب اعتراضه، إلَّا بما هو سبب لعدم الاعتراض أصلًا؛ بل بما هو- فضلًا عن خوائه من المعنى- مسطِّح للشِّعر!
وكذا تجد في كلامه على أبيات (المتنبِّي):
بَينــي وبَيــنَ أَبــي عَلِــيٍّ مِثلُــهُ ::: شُمُّ الجِبـــالِ ومِثلَهُـــنَّ رَجـــاءُ
وعِقابُ لُبنـــانٍ وكَيــفَ بِقَطعِهـا ::: وهُوَ الشِّـــتاءُ وصَـــيفُهُنَّ شِـتاءُ
لَبَـسَ الثُّلوجُ بِهــا عَلَـيَّ مَسـالِكي ::: فكَأَنَّهـــــا بِبَياضِــــها سَـــوداءُ
وكَــذا الكَريــمُ إِذا أَقــامَ بِبَـلـدَةٍ ::: ســالَ النُّضــارُ بِهــا وقامَ الـمـاءُ
جَمَـدَ القِطـارُ ولَو رَأَتـهُ كَمـا تَـرَى ::: بُهِتَــت فَلَــمْ تَتَبَجَّـــسِ الأَنــواءُ
فبعد أن ساق اختلافات الشُّراح- ولاسيما حول البيت الأخير، لما فيه من تقديم وتأخير- ولمَّا لم يجد ما يعترض به، قال: «ولو أعاد ذِكرَ الممدوح أو ضميره بعد قوله «وكذا»، كان أجود، ولم يحتجْ إلى هذا التأويل.»(7) ونقول: إنَّ (ابن المستوفي) لو سكتَ هنا، لكان أجود، فلم يكن في حاجةٍ إلى مثل هذا التعليق البارد كعِقاب (لُبنان)! فمَن قال إنَّ إعادة ذكر الممدوح أو ضميره بعد قول الشاعر «وكذا» كان أجود؟! لقد أراد الشاعر أن يضرب هذا مثلًا لكلِّ كريم، ولم يُرِد أن يقيِّده بالممدوح. وهذا هو الأجود. أي «وكذا حال كلِّ كريم، إذا أقام ببلدٍ سال النضار فيه، أي الذَّهب، وجَمَدَ الماء.» ثمَّ لولا احتمال الشِّعر لتعدُّد القراءات والتأويلات، لَما كان شِعرًا، بل إخبارًا وتقريرًا، ولَما نام أبو الطيِّب ملء جفونه عن شوارده، ليسهر الخلق جرَّاه ويختصموا! ومن هنا فإنَّ كلام ابن المستوفي غير صحيح، لا من الوجهة الشِّعريَّة، ولا من الوجهة النقديَّة.
[وللحديث بقية].
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
..........................
(1) (د.ت)، شرح الصُّولي لديوان أبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الإعلام)، 1: 201.
(2) (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 56- 57.
(3) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 67.
(4) يُنظَر: البخاري، (1981)، صحيح البخاري، عناية: مصطفى ديب البُغا، (دمشق/ بيروت: دار القلم)، (الحديث 583)، 1: 220.
(5) (2000)، الموضح في شرح شِعر أبي الطَّيِّب المتنبِّي، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: دار الشؤون الثقافيَّة العامَّة)، 1: 146.
(6) ابن المستوفي، 1: 398.
(7) م.ن، 1: 406.