قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: قراءة في قصيدة "رسالة من زوجة تاجر النهر"

للشاعر الأمريكي ازرا باوند
قصيدة الرواي بين استجابة الإحالة ودينامية الزمن الضائع
***
توطئة: تشتغل آليات الدال الشعري في الأوضاع القصدية بوصفه هدفا تتوجه به الذات الراوية تجليا يتكشف بوعي شعري مقارب إلى محكي السارد العليم في المتون السردية، لذا وجدنا الصلات والأواصر في محكيات النص الشعري وكأنها إشارات إلى زمن تصويري مستعاد في الإحالة والتصدير والإيحاء. تأخذنا قصيدة الشاعر الأمريكي الكبير (ازرا باوند) الموسومة ب (رسالة من زوجة تاجر النهر) نحو جملة من الدوال المقرونة والمرتهنة بشبكة أفعال وصياغات إشارية الطابع وإحالية في رصد الصلات الدﻻلية الدينامية التي تجعل من زمن المكان الشعري في النص التحاما وحدود جملة أفكار واسترجاعات وأحاسيس جعلت تتجسد على نحو ميلودرامي، يلخص لنا حكاية المرسل إليه متماثلا في أفق شخصانية لقطاتية مستعادة شعريا وتركيز تشكيل محكيات دائرة الراوي ذاتا وموضوعا وداﻻ.
- فعلية استرجاع الزمن عبر مستلزمات المتن النصي
إن فعلية العلاقة الاحوالية في حدود خصائص الزمن الشعري، تفصل ما بين (سياق داخلي = سياق خارجي) أي أن المنظومة المعرفية للبنية الزمنية تقع ضمن حدود خاصة من الخصوص وعامة من العموم. إذ عندما يأتي الزمن في حالة (سياق داخلي = ذات = كينونة) فلربما تقع شرطية مقصوديته في مسار حركة فعلية - ذاتية، كحال النموذج الاستهلالي من قول النص:
قد كان شعري ما يزال
يقص خطاً يستقيم على الجبين.
على هذا النحو الذي جاءت به الجمل الأولى من النص، تتبين ثمة حركة زمنية بين الجملة الأولية والثانية، فالأولى تحدد فضاء الزمن الممدود وصوﻻ إلى الملحقة الفعلية في (يقص خطاً) ثم إلى مسار حركة الكشف الوضعي المرسوم بصياغة الحدوث الحال (يستقيم على الجبين) وبوسعنا القول أن الاستعانة الذاتية للزمن حلت في إطار (فضاء الحكي؟) من خلال إبقاء عنصر الزمن وأدواته (قد كان؟) ومعنى ذلك أن دائرة الأفعال تتم بملازمة زمنيين (زمن سابق - زمن حاضر) وتتنوع الأداة الزمانية بشروطها الأحوالية لتظل عملية القول متأرجحة ومعلقة أحياناً:
- أيام ذاك - وكنت عند الباب ألعب بالزهور
وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ
الوهم صيرها حصان.
قد كنت تنظر حيث أجلس، أو تدور
حول المكان وكان بين يديك من ريش الطيور
زرق لعبت بها كثار.
وواضح من هذه المقاطع، أنه ليس هناك من دﻻﻻت واصلة بين الموضوع والمضمون، ولكننا في صدد إحتمال أن رؤية (الذات الراوية) تتحرك ضمن استعادات حاصلة في زمن المقابلة بين قطبي (قد كان - أيام ذاك) والنتيجة المشار إليها هي عين الذات الفاعلة والموصولة في إمكانية عكس ذلك الآخر في مرآة مرويها الذاكراتي (أيام ذاك، وكنت عند الباب ألعب بالزهور، وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ). إذا استبعدنا دﻻلة جملة (عذابات زانٍ) من كونها تقع في محمل التشبيه، فما دورها الدﻻلي الاصل لو افترضنا كونها جاءت ضمن مستدرك أحوالي خاص؟ ولربما الجملة ﻻ تتعدى فاعلية اللحظة الكسيرة أو اللحظة المشوشة من إستعادة الذاكرة بحدود التشبيه والمشبه به، ليندرج القول في أقصى أحواله في سياق حالة قصدية ما. عموما المقاطع الشعرية في شتى محاورها ﻻ تخرج عن منظومة الأفعال الزمانية المشرئبة في صورة المكان وذاتية العودة بسياق الأحوال إلى تموجات وتحوﻻت عاطفية وذاتية معمقة بحضور المتخيل في سعيه التشكيلي والإيحائي الصرف.
١- تصاعدية الزمن وتصويرية كشوفية الحاكي:
لعل قصيدة (رسالة من زوجة تاجر النهر) هي من الدﻻﻻت الشعرية التي تستأثر لذاتها تلك الصفة الانطباعية الروحية بالعشق لذلك الوعي المكنون في زمن مصائر الغياب والانتظار لذلك الآتي من المحال، فهي بدورها تجسد الزمن العمري لذاتها الحاكية والمتشاكلة مع مراحل نموها ذات العلاقة التضادية بين (الأنا - الأنت) توكيدا لرؤية كون ما تشعر به محض كلمات في رسالة متداعية تتقاذفها أمواج الغياب والفقد، مع كل هذا تبقى مقاطعها الإحالية بالقول تسمو وتصف صيرورة وجودها المموه بمزمام نفوذ خسارات الأشياء الحاصلة في تفاصيل مصيرها الدﻻلي:
حتى إذا بلغت أربعة وعشرة
زوجت من موﻻي، منك، فما عرفت الضحك مرة
إذ كان يمنعني الحياء.
أني - وقد أطرقت رأسي - كنت أنظر للجدار !
نوديت ألفاً أو يزيد.. فما التفت إلى الوراء.
٢- بناء القصيدة ومحكية المظاهر الصوتية:
أن القارىء لبعض مقاطع الصورة والحاﻻت الشعرية عبر بيئتها وسياقها العام والخاص، لربما يعاين الحجم المبذول من الاصوات المائعة والسائلة والغليضة ومدى ملاءمتها لشكل الدﻻﻻت المترشحة في مواضع صوتية تحاكي دﻻﻻت السيولة والانبساط والجريان كمياه النهر: (زوجت من مولاي، منك) بيد أن ألتقاط أنفاس الأصوات الحروفية تبقى ضمن حدود تركيبية من الناحية العضوية، وصوﻻ إلى المصادقة الإيقاعية في وظيفة الصوت الدوالي المتمثل في عدة منطوقات محكية في بناء الطاقة الصوتية دليلا ومؤشرا على طبيعة البناء السيولية للأصوات: (نوديت ألفاً أو يزيد.. فما التفت إلى الوراء) فالمقطعية الدوالية ها هنا تتفاوت في ضرورة اللازمة المفردية - الإيقاعية، ولكنها ﻻ تخلو من الموسيقى الصوتية في هسهسة مظاهر التصويت الذي يوحي للسامع بمدى حدية الصورة في موضع الجمل اللغوية. وبطبيعة الحال قد تصبح محموﻻت الأفعال والصفات في محاور الظواهر الصوتية إلى نقائض وخروجات بتحويل الظاهرة الصوتية إلى حركة بلوغية بالمعنى والدﻻلة كما الحال سابقا في الجمل الأستهلالية الأولى (قد كان شعري ما يزال، يقص خطاً يستقيم عل الجبين) أو جملة (وكنت تأتي راكبا عذابات زانٍ) ان أياً من الاستعدادات الفاعليةفي الجمل مصدرها موضعا في مقاصد (الصوت - الصفة - الأستعارة - المؤول) لتكون حقيقة المعنى تحوﻻ في إشادات الأصوات في الزمان والمكان والظرف والحال. لذا فأن القابلية الأصواتية في متعاقبات الصور والحاﻻت في البناء النصي، تجري بالمتحقق الصوتي - اتجاها داﻻ في حصولية ربط فروقات الصورة والتصور في خيارات الانماذج المبدية للوجود الإمكاني:
حتى إذا مر عام بي، كففت عن العبوس
وودت لو ضموا ثراي إلى ثراك مدى الزمان
مدى الزمان، مدى الزمان!
ربما أن هيمنة أفعال الراوي الذاتية تدفع المشهد الزمني نحو جملة إنبثاق في (الذاكرة - الراهن - الحلم - الرؤيا - الأصوات) بما يساعد صورة تقادم الزمن بمعناه الوجودي، على إستعادة - الحاكية - لاحوالها المتتابعة وتناميها في وجه فتوة الملفوظ (حتى إذا ما مر عام بي، كففت عن العبوس) وﻻ شك أن حركة الزمن بهذه الصيغة الاعتبارية تحيل من قابلية التمثيل الاستقبالي للحال الزمني إلى موجه يتطلع نحو الثبات في فضاء الحال (كففت عن العبوس) لذا يمكننا القول بأن الموجه إليه قصدا يبقى كصيغة تمثيلية لواقع حسي يقارب مناداة ضمير الغياب (وودت لو ضموا ثراي إلى ثراك مدى الزمان.. مدى الزمان، مدى الزمان) فخاصية الاستقدام والاختتام بالمد الزمني تتجاوز طرف المخاطبة للذات الراوية، لتحمل فعالية الأمنية إلى حالة ﻻ تتعدى مستوى معادلة اللزومية المرفقة بحواس قرائية راثية بقابلية الانشطار والزوال بكيفيات وحدات الغياب (مدى الزمان، مدى الزمان!).
- مطات الانتظار.. المساحة اللامنظورة من زمن اللاعودة
تتنازع مفردات (السفر - الانتظار - الخيبة) في أشد مفاصل السياق الشعري للنص، لذا فهي قصيدة المعادل العياني للمحسوس الغيابي، خصوصاً وإن موجهات العنونة المركزية (رسالة من زوجة تاجر النهر؟) تعكس ذلك المستوى الارتباطي من دال (الانتظار - السفر) حافلان بالاحتمالات المخيبة والمستجيبة لمنطقة الحلم وآلياته المكثفة والمضاعفة:
حتى إذا مر عام بي، عزمت على سفار
و قصدت - كوتون - البعيدة في سفار:
أصعدت في النهر الذي للموج فيه
صخب يدوم بالمياه.. كأن فيه هوى تدور.
و مضت شهور خمسة منذ ارتحلت. مضت شهور !
و على ذرى الأشجار حولي ها هنا، تثب القرود
و تضج في لغط حزين لا يطاق ! متى تعود !.
مما يحفزنا نحو رغبة التأويل، هو ذلك الضمير المستتر في قرار صيغة التعدد الصوتي (متى تعود !) فالمستوى المركب بين سياق الذات الراوية عبر صوتها الإجمالي والمخصوص ثمة مسافة إجرائية خاصة وكيفية في التعدد والتوحد، فعبر المستوى الأول ثمة آلية التمركز الحكواتي العام حاﻻ، أما في المستوى الآخر فهو المقصود بالوظيفة المضافة في التعلق الذاتي وسريته الماثلة في خطرات التماهي المتجاوز لمنطقة النطق والمنطوق التعجبي في مؤسطر الجملة. بمعنى ما ان الذات غدا يسيرها الانفصال الصوتي، وفي الجانب التشكيلي من زمن النص ثمة مفترضات بوظائف التصور الذاتي (أصعدت في النهر الذي للموج فيه صخب يدوم بالمياه.. كأن فيه هوى تدور.
- تعليق القراءة:
لعل القابلية التصويرية ها هنا اكتسابا ﻻحتماﻻت ظنية في سياق فاعلية حاسة الراوية، ليتأتى مفعول توظيف أنسنة الأشياء (القرود؟) باستعارة مستجيبة لمنطوق مخيلة الراوية التي ﻻ تنفك عن معاودة تحريكها للمخيلة التي باتت تحفظ تمثيلات الاستلهام في مفترضات حكواتية دائمة الاستعادة لذلك الغائب والحاضر في قاع النهر والذاكرة والزمن والمكان وطرائق توليد الحكي في حكايا الفقد والفقدان:
إني رأيتك تسحب القدمين في يوم الوداع
و الان، عند الباب، تنتشر الطحالب زاحفات
من كل أنواع الطحالب، يمتنعن على اقتلاع
و الريح كالآهات، والورقات تسقط مبكرات.
هكذا وجدنا (قصيدة الراوية) تحفظ لذاتها ودوالها صور مرثية مفترضة محفوفة برحيل ذلك الزوج عبر رحلاته النهرية، مستشرفا لذاته بانوراما عالم القاع والضياع بين طبقات الطحالب والحشائش العميقة من وجوه وخرائط القاع، تاركا لتلك الزوجة عملية تدوين آخر رسائلها المفترضة إلى ذلك النهر المثقل بمرايا الجثث الغاطسة والخضرة والتواريخ الدائرة في صفير الريح واستجابة لاصداء حكايا قصيدة زوجة تاجر النهر.
***
حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي