قراءات نقدية

إبراهيم برسي: نحن والحمير في المنعطف الخطير

صمت الحواف حين يهزم صوت الطريق

ثمة نصوص لا تُقرأ من أجل الاستمتاع، بل من أجل أن نختبر من خلالها الخدوش التي أحدثها الواقع في وعينا الجمعي.

“نحن والحمير في المنعطف الخطير”، الذي يكتبه القاص اليمني محمد العمراني، ليس مجرد سجل لذكريات قروية أو سرد لحكايات عابرة، بل هو كتابة تستدعي الذات والجماعة إلى مساءلة مؤلمة عن معنى العيش تحت وطأة القهر اليومي والتخلف المتوارث. إنه نص بسيط في ظاهره، لكنه يمارس قسوته على القارئ عبر صمت الأشياء المهملة، وعبر الأصوات التي ارتطمت بجدران التاريخ وانكسرت دون أن يسمعها أحد. هنا، لا تدور الحكاية حول بطل خارق أو فكرة تجريدية، بل حول حيوات معلقة بين انتظار الماء في المنعطف وبين انتظار رحمة السماء. كتابة تهب الألم شكله الأشد تواضعًا: شكل الطفولة المشروخة، شكل الأمل الذي تسرقه الخرافة، وشكل الحروب التي تُنتج الفجيعة اليومية بلا أساطير.

لا تبدو الحكاية هنا مجرد استعادة طفولية أو سرد لسيرة ذاتية متواضعة فحسب، بل هي استعارة مكثفة لانكسار جماعي طويل الأمد، عبر نثر حياة تتشظى بين الجبال والقرى والخراب. الكتاب، وإن جاء تحت غلاف السرد القصصي، إلا أنه يتكئ على بنية تراجيدية تتهكم من مصير الإنسان العربي، خاصة في سياق اليمن المثقل بأعباء الحرب والتهميش.

في بنية النص، يتحول الحمار إلى رمز ثقيل: إنه ليس مجرد دابة تحمل الماء عبر المنعطف الخطر، بل صورة للإنسان ذاته، المساق قسرًا عبر المنعطفات الحادة للتاريخ، بلا وعي ولا إرادة. العمراني يقيم سردية الهلع الطفولي حول المنعطف كمجاز عن رحلة أمة كاملة تسير وراء “الحمير” في لحظة خطيرة من وجودها، مكررة نفس الدروب دون أن تفكر في تغيير المسار.

تتكرر فكرة الفشل الجماعي عبر امتداد السرد: من مشروع إيصال الماء إلى البيوت، الذي احتاج عقودًا كاملة لإنجازه، إلى انهيار المشروع ذاته لاحقًا بسبب غياب التنظيم والفهم المؤسسي. كأن الكاتب يقترح، بلا تصريح مباشر، أن مشكلة المجتمع لا تكمن في الفقر وحده، بل في قابلية عميقة للانقياد والتعطيل الذاتي، في هيمنة ثقافة الإذعان واستمراء الكارثة.

لغة السرد تميل إلى البساطة الخادعة، لكنها تخبئ حسرة ثقيلة. لا يتوسل العمراني البلاغة الزائدة، بل يتعمد أن يجعل التهكم حبل النجاة الوحيد من وطأة الواقع، وكأن الضحك هو الدرع الأخير أمام الانهيار الكلي. تتجاور مفردات الألم والطفولة والموت والخرافة، متداخلة دون أن يضع السرد بينها فواصل صارمة، مما يخلق إحساسًا بالزمن الهلامي، حيث تتراكب التجارب وتتحول الذاكرة إلى وعاء ممتلئ بالخذلان.

تقدم قصص العمراني نقدًا مزدوجًا: نقدًا للبنية الاجتماعية الغارقة في الخرافة، وللذات الفردية العاجزة عن الثورة على الخوف. ففي قصة “بيت تسكنه الخرافة”، لا يتوقف السرد عند السخرية من تقديم العسل والسمن إلى ولي ميت، بل يتجاوزه إلى كشف آلية الاستسلام التي تجعل الأطفال يكبرون وهم يُلقّنون ألا يسألوا. وكأن الكاتب يريد القول: لا شيء ينقذ طفولة مشبعة بالخرافة سوى الكذب الأبيض، أو التمرد الصامت، أو الخيانة الصغيرة التي يبررها البقاء.

الحرب، بما هي ذروة الانهيار الاجتماعي، تحضر بقوة لا تخلو من مشاعر الفقد واليأس. في قصة “الحرب طفل”، يتحول ميلاد طفل إلى لحظة تتزامن مع ولادة جحيم الحرب في اليمن، ليُكتب على المولود أن يحيا في ظل التشرد والخوف. وكأن الحياة ذاتها صارت مشروطة بالنجاة اليومية لا بالتحقق الإنساني. الجملة القصصية هنا تصبح أثقل، يغلب عليها التكرار الموجع، كأن العمراني يريد أن يجرّ القارئ إلى تجربة الانسحاق عبر إعادة اجترار التفاصيل الصغيرة التي تصبح قاتلة عندما تتكرر: الصراخ، الخوف، النزوح، البحث عن دواء، تدهور الصحة، غربة القلب والجسد.

وإذا كانت القصص المبكرة تلعب على وتر الكوميديا السوداء، فإن القصص المتأخرة تتشظى إلى مزيج من العبث والأسى. في قصة “كابوس في العالم”، يبدو السرد وكأنه يحاكي تيار وعي مشوش، حيث الألم الجسدي من خلع الضرس يتحول إلى استعارة صريحة للألم الوطني والاجتماعي: محاولة النجاة في ظل ظروف عبثية ومخيفة، حيث الزمن نفسه يتآمر على الإنسان. خمس ليالٍ من الألم تتحول إلى تاريخ شخصي صغير يعكس تاريخًا جماعيًا أطول.

هنا، يكمن ما يشبه العبث الوجودي الذي تحدث عنه ألبير كامو: أن تجد نفسك مدفوعًا إلى تكرار محاولة الخلاص، رغم معرفتك بأنها عبثية. وكما في عوالم كافكا، تبدو الشخصيات محاصرة في متاهة بلا مخرج، تدور داخل أقدارها الضيقة، مستسلمة لقوى لا تفهمها ولا تستطيع مقاومتها. الطفولة، في هذا النص، ليست بداية بريئة، بل أول خطوة في طريق طويل من الانكسارات الموروثة.

مفارقة أخيرة يزرعها العمراني في قصة “خبر وفاتي”: حين ينتشر خبر وفاته بالخطأ، يجد نفسه محاطًا بأمواج من التقدير والاعتذار، وكأن الموت الزائف وحده يمنح الإنسان، أخيرًا، الاعتراف الذي حُرم منه حيًّا. بهذا يقفل الكتاب بدورة كاملة: تبدأ بالطفولة المعذبة، تمر بمخاض الحرب، وتنتهي بالسخرية من عبث الوجود الإنساني في عالم لا يعترف بالناس إلا وهم جثث أو أخبار عابرة.

ليس “نحن والحمير في المنعطف الخطير” مجرد عمل بسيط. إنه شهادة أدبية على هشاشة الحياة تحت وطأة التخلف والحرب. عمل ينتصر للصوت الإنساني، لا بالخطابة، بل بالحكاية اليومية التي تخترق العظم وتصمت حين تصير الكلمات عبثًا آخر. العمراني هنا لا يطلب منا أن نبكي أو نضحك، بل أن نحمل هذا العبء الصامت للوعي في عالم يركض وراء حميره، ظانًا أن الخلاص يكمن في اللحاق بها.

هكذا تتدفق القصص في هذا العمل كأنهار حزينة فقدت مصباتها، فلا تصل إلى البحر ولا تعود إلى الينابيع. يمضي محمد العمراني بين الذكريات كما يمضي طفلٌ حافي القدمين على حجارة الجبل، يتلمس الوجع في تفاصيل الأشياء الصغيرة: حمار، حجر، كوب ماء، أو نظرة طفل مذعور. في نهاية هذا النص، لا يقدم الكاتب خلاصًا ولا يقترح نجاة، بل يتركنا مع سؤال صامت: هل يمكن أن نواصل العيش بينما نعيد عبور نفس المنعطفات، خلف نفس الحمير، نحمل على ظهورنا نفس الأحلام المهشمة؟

إنها كتابة تنتمي إلى سلالة الألم النبيل، حيث تصير السخرية آخر ما تبقى من جدارة الإنسان بأن يروي، لا ليُغير العالم، بل ليشهد على عبثه، صامتًا كصوت الطريق المهزوم على حواف المنعطف.

***

إبراهيم برسي - كاتب وباحث سوداني

في المثقف اليوم