قراءات نقدية
نسيم عاطف: شعريّة النّصّ السّرديّ.. دراسة في أشكال الحبكة في روايات حيدر حيدر

للباحث الدّكتور فؤاد عزّام- مؤلّفٌّ هامّ في عالم الرّواية العربيّة
المقصود بالسّرد الإِخبار عن الأحداث ونقلها، باستعمال اللّغة أو التّصوير أو غيرهما من وسائل التّعبير، ويندرج في مفهوم النّصّ السّرديّ أنواعٌ مختلفة من النّصوص؛ منها القصّة، والرّواية، والحكاية، والخرافة، والتاريخ، والخبر الصحفي العابر، والنّوفيلا.
أمّا شعريّة النّصّ السّرديّ كما جاء في الكتاب ص20 فهي السّمات والخصائص الّتي تجعل من نصٍّ نثريّ معيّن نصًّا سرديًّا، أو ما يجعلنا نميّز نصًّا ما على أنّه نصٌّ سرديٌّ، والشّعريّة إضافة لذلك تحاول الإجابة عن أسئلة مثل: ما هي مركّبات العمل القصصيّ وطرائق اشتغالها؟ وكيف تتعالق هذه المركّبات لتبنيَ العمل القصصيَّ وتولِّدَ دلالاتِهِ؟
يستهلّ د. فؤاد بحثه بالمادّة النّظريّة، ويبدأها بمقدّمة حول تطوّر مفهوم الحبكة بدأً بأرسطو وصولًا إلى يومنا هذا، ثمّ يأتي الباب الأوّل والّذي يبحث فيه كلَّ عناصر الحبكة، وهي: الزّمن الروائيّ، المكان الروائيّ، الشّخصيّة الرّوائيّة، الأحداث الرّوائيّة، الرّاوي. أما الباب الثّاني فهو باب تطبيقيّ، حيث يحلّل الكاتب كُلًّا من العناصر السّابقة في عدّة روايات للكاتب السّوريّ لحيدر حيدر، وهي: رواية الفهد، رواية الزّمن الموحش، رواية شموس الغجر، ورواية مرايا النّار. ومن الجدير ذكره أنّ هذه الرّوايات لا تتبع لمدرسة واحدة، فرواية الفهد تتبع للمدرسة الواقعيّة، وروايتا الزّمن الموحش، ومرايا النّار تتبعان لمدرسة الحداثة، بينما تتبع رواية شموس الغجر لمدرسة الحداثة المتوسّطة؛ وهكذا يقوم د. فؤاد ببحث عناصر الحبكة الرّوائيّة لروايات من مدارس متعدّدة ليكون بحثة واسعًا شاملًا.
الزّمن في الرّواية
يُعد الزمن عنصرًا محوريًا في بناء السّرد الرّوائيّ، حيث يتحوّل الزّمن الواقعيّ إلى "زمن الحكاية" الّذي يُعاد تشكيله داخل النّصّ وفقًا لرؤية الكاتب. يعتمد د. فؤاد في تحليل عنصر الزّمن على رأي الكاتب جيرار جانيت من كتابه خطاب الحكاية، والّذي يعتمد بدوره على ثلاثة محاور رئيسة يتناولها المؤلّف بالشّرح والتّفصيل، (ص 71-81) وهي:
أ. المِحور الأوّل في تحليل الزّمن هو التّرتيب الزمنيّ:
ويُقصد به ترتيب الأحداث في النّصّ مقارنة بتسلسلها في الحكاية (وهنا نذكر أنّ الحكاية هي أبسط وأدنى التّراكيب الأدبيّة، وهي تتابع الأحداث المرويّة زمنيًّا، فكلّ حدث يأتي بالتّرتيب كما لو كان يحدث في الحياة الحقيقيّة، وسنترك الحديث عنها والشّرح حولها للدّكتور ناصر). في حال وجود أكثر من حكاية داخل القصّة الواحدة فهناك ثلاثة أنماط لترتيب هذه الحكايات في السّرد:
- التّسلسل: حيث تتتابع الأحداث بشكل طبيعيّ زمنيًّا.
- التّضمين: سرد قصّة داخل قصّة أخرى.
- التّناوب: سرد حدثين أو أكثر بشكل متوازٍ.
أمّا وسائل التّلاعب بالتّرتيب الزّمنيّ للأحداث، والّتي تناولها د. فؤاد بالشّرح وَذِكرِ أنواعها فهي:
- الاسترجاع/ اللّواحق (الفلاش باك): ذكر أحداث وقعت في الماضي قبل اللّحظة الحاليّة للسّرد.
- الاستباق (الفلاش فوروورد): يتمثّل في إيراد حدث آتٍ، أو الإشارة إليه مسبقًا، أو هو سرد حادثةٍ قبلَ موعد حدوثها في الرّواية، وتظهر قيمة هذا الحدث المذكور لاحقًا مع تطوّر الأحداث. وتسمّى هذه العمليّة بـالتّوقّع، وكذلك تُسمّى بالاستشراف.
- المدى والسّعة: المدى هو المسافة الزّمنيّة الفاصلة بين النّقطة الّتي توقّف فيها السّرد وتلك الّتي انتقل السرّد إليها (في الماضي أو المستقبل). أمّا السّعة فتشير إلى طول المدّة الزّمنيّة المغطاة بالمفارقة الزّمنيّة.
ب. المِحور الثّاني في تحليل الزّمن هو المدّة الزّمنيّة:
وهي العلاقة الّتي تربط بين زمن الحكاية (ثوانٍ، دقائق.. سنوات) وطول النّصّ القصصيّ الّذي يُقاس بالأسطر والصّفحات. ولها أربعة أشكال أساسيّة تمثّل الحركة السّرديّة تناولها د. فؤاد بالشّرح والتّمثيل، وهي:
- الحذف: حذف فترة زمنية بالكامل من السّرد.
- الوقفة: تعليق السّرد والانتقال إلى وصف عناصر أخرى، ما يوقف تدفّق الزّمن الرّوائيّ.
- المشهد: يحدث تزامنٌ بين زمن الحكاية وزمن النّصّ، ويظهر عادة في الحوارات.
- التّلخيص: ضغط الأحداث الزّمنيّة في كلمات قليلة، كسرد أشهر أو سنوات في جملة واحدة.
ج. المِحور الثّالث في تحليل الزّمن هو التواتر:
التّواتر يشير إلى العلاقة بين تكرار الأحداث في الحكاية وفي النّصّ. على سبيل المثال، وهناك أربعة أنواع من علاقات التّواتر:
أن يُروى مرّة واحدة ما حدث مرّة واحدة/ أن يُروى أكثر من مرّة ما حدث أكثر من مرّة.
أن يُروى أكثر من مرّة ما حدث مرّة واحدة/ أن يُروى مرّة واحدة ما حدث أكثر من مرّة.
2. المكان في الرّواية
يلعب المكان دورًا جوهريًا في الرّواية، ليس فقط كبيئة تجري فيها الأحداث، بل كمؤثّر في الشّخصيات والأفكار. وللمكان أهمّيّة في بَلورة الثّقافة، كما للثّقافة أهمّيّة في بلورة المكان، والمكان قادرٌ على تفسير الظّواهر الاجتماعيّة، والتّاريخيّة، والاقتصاديّة، والأدبيّة.
يذكر د. فؤاد المراحل الّتي مرّ بها المكان في الرّواية عند الرّومانسيّين ثمّ كتّاب الواقعيّة، ثمّ الحداثيّة، واهتمامات كلٍّ منهم بتفاصيل مختلفة للمكان. ثم يعدّد لنا أنواع المكان، وكيف أنّ هذه الأنواع ترتبط بعلاقة الشّخصيّات الرّوائيّة بهذه الأماكن، لأنّ الأماكن في حالة عزلها عن علاقتها بالعناصر الأخرى، وخاصّة الشّخصيّات، لا قيمة لها، فالمكان هو الّذي يمنحُ الشّخصيّة هُويّتها، أو يسلبُ الهُويّةَ من الشّخصيّةِ فيُغرّبها، بالإضافة إلى تحكّم المكان في سلوك الشّخصيّة ونفسيّتها، وانعكاس ذلك بدوره على المكان. وهذا التّقسيم جاء على النّحو التّالي:
1- الأماكن المأهولة: الأماكن الّتي يسكنها النّاس، وتنقسم إلى:
o أماكن خاصّة: كالمنازل والمكاتب، الّتي تعبّر عن الخصوصيّة والأمان.
o أماكن عامّة: مثل الأسواق والمقاهي، حيث تكون الشّخصيّات معرّضة للنّظرات الخارجيّة والرّقابة المجتمعيّة.
2- الأماكن الخالية: أماكن لا يسكنها البشر بشكل دائم، كالصّحراء والجبال والغابات، الّتي قد تكون رموزًا للوَحدة والضّياع.
ويشير د. فؤاد أنّه يمكن للكاتب أن يجعل للمكان دلالاتٍ مختلفةً، وذلك من خلال السّياقاتِ الّتي يُدمج فيها المكان مع العناصر المختلفة، فالبيت يمكن أن يأخذ شكل الحرّيّة، والحميميّة والدّفء، أو على العكس شكل الوَحدة والعزلة واللّا انتماء، وخاصّة في المجتمعات الأبويّة القمعيّة، حيث يصبح المكان سجنًا للفتاة والمرأة.
ومن صور المكان في الرّواية حسبما أورد د. فؤاد في كتابه:
- المكان المفتوح: كالشّوارع والصّحراء والبحر، ما يمنح الشّخصية شعورًا بالحرّيّة أو الضّياع.
- المكان المغلق: كالسّجن أو البيت، الّذي قد يرمز إلى العُزلة أو الحماية.
أمّا أساليب رسم المكان فنذكر منها:
- الوصف: تصوير المكان بالكلمات كما هو في الواقع.
- الأنسنة: أي إعطاء المكان إمكانيّة التّعبير عن الأحاسيس والأفكار، كأن يكون البيت "حزينًا".
- الرّمزيّة: المكان قد يرمز إلى الحرّيّة، كالبحر، وقد يرمز للقهر، كالسّجن.
- التّقطيع: أي تَنقّلُ الشّخصيّةِ بين أماكنَ مختلفةٍ، ما يعكس التّطوّر والتّحوّل في حالتها النّفسيّة.
- الفانتازيا: تقديم المكان بشكل عجائبيّ وغريب.
3. الشّخصيّات في الرّواية:
يذكر د. فؤاد المكانة المهمّة الّتي تحتلّها الشّخصيّة في بنية الشّكل الرّوائيّ، فهي من الجانب الموضوعيّ أداة ووسيلة الرّوائيّ للتّعبير عن رؤيته، وهي من الوجهة الفنية بمثابة الطّاقة الدّافعة الّتي تتحلّق حولها كلّ عناصر السّرد، والوسيلة الّتي من خلالها تُنقل القيم الإنسانيّة من الحياة للنّصّ ليتمّ تحليلها فيه. تُعد الشّخصيّة العنصرَ الأهمَّ في السّرد، حيث تتمحور حولها جميع عناصر الرّواية. يقدّم د. فؤاد ثلاثَ تصوّرات حول الشّخصيّة في الرّواية:
1. الشّخصيّة ككائن حيّ: وهي شخصيّة من لحم ودمّ، ولها حياتها المستقلّة، وعُمقها النّفسيّ.
2. الشّخصيّة كلغة: الشّخصيّة ليست سوى مجموعة كلمات.
3. الموقف التّوفيقيّ: يجمع بين الرّأيينِ السّابقين، حيث تكون الشّخصيّة حدثًا ولغةً في آنٍ واحدٍ.
كما ويتناول الباحث الشّخصيّةَ المسطّحةَ والشّخصيّةَ المستديرةَ بالشّرح والتّفصيل. ثمّ ينتقل للحديث عن أساليب رسم الشّخصيّات الرّوائيّة: الأسلوب المباشر، والأسلوب غير المباشر (الّتصويريّ)، شارحًا الأسلوبين مبيّنًا الوسائل الّتي من خلالها يتمّ رسم الشّخصيّة وفقًا لكلٍّ منهما. الأسلوب المباشر: يقوم به الرّاوي بتقديم الشّخصيّة الرّوائيّة من خلال وصف أحوالها، وعواطفها وأفكارها بحيث يحدّد ملامحها العامّة منذ البداية على الأغلب، ويقدّم أفعالها، معلّقًا عليها ومعلّلًا لها.
2- الأسلوب غير المباشر- التّصويريّ: يستنتج القارئُ استنتاجاتٍ معيّنةً عن طبع الشّخصيّة وصفاتِها دون أن يُصرَّحَ بهذه الصّفاتِ مباشرةً في النّصّ. وأهمّ الوسائل غيرِ المباشرةِ لرسم الشّخصيّات: المظهر الخارجيّ للشّخصيّة، أعمال الشّخصيّة، كلام الشّخصيّة، بيئة الشّخصيّة.
ويميّز الكاتب بين أنواع الشّخصيّة المركزيّة: شخصيّة البطل، اللّابطل، البطل الجزئيّ، ويتناول التّغييراتِ الّتي طرأت على البطل بمرور الوقت، وتغيّرِ العصورِ ومنظور النّاس للأمور (من البطل الإله، إلى البطل الأرستقراطيّ، ثمّ إلى الإنسان العاديّ).
أمّا فيما يتعلّق بالجانب التّطبيقيّ من هذا الكتاب فأذكّر بما أسلفت من أنّ هذا الجانب شمل عدّة روايات للكاتب السّوريّ حيدر حيدر، وهي: رواية الفهد، رواية الزّمن الموحش، رواية شموس الغجر، ورواية مرايا النّار، وهذه الرّوايات لا تتبع لمدرسة واحدة، فرواية الفهد تتبع للمدرسة الواقعيّة، وروايتا الزّمن الموحش، ومرايا النّار تتبعان لمدرسة الحداثة، بينما تتبع رواية شموس الغجر لمدرسة الحداثة المتوسّطة؛ ممّا يجعل البحث واسعًا شاملًا.
كمثال لهذا الجانب التّطبيقيّ سنأخذ تحليل د. فؤاد للبناء الزّمني في رواية الفهد، والّذي قسمّة لثلاثة أقسام.
في القسم الأوّل بحث د. فؤاد مسألة التّرتيب الزّمنيّ، وفيه يقارن بين ترتيب الأحداث في النّصّ القصصيّ، وترتيب تتابعها في الحكاية، من الحدث الأقدم إلى الأحدث للوقوف على المفارقات الزّمنيّة الّتي تحدث في النّصّ من استرجاعات، واستباقات وغيرها.
في القسم الثّاني بحث د. فؤاد قضيّة المدّة أو السرّعة في الرّواية، أي إنّه قام بتحليل العلاقة الّتي تربط زمن الحكاية المقيس بالثّواني والدّقائق، والسّاعات، والأيّام، والشّهور والّسنوات، مع طول النّصّ القصصيّ الّذي يُقاس بالأسطر والفِقرات والصّفحات. ومن خلال هذه المقارنة استطاع الباحث الوقوف على سرعة السّرد والتّغييرات الّتي تطرأ على نظامه من تسريع أو إبطاء، وبالتّالي الوقوف على الأشكال السّرديّة المهيمنة في النّصّ، وعلاقة ذلك بالدّلالات. ومن أجل تحليل الإيقاع الزّمنيّ في الرّواية من حيث السّرعة أو الإبطاء درس د. فؤاد الحركات السّرديّة الأربعة المؤثّرة في هذا المجال وهي: التّلخيص (ويكون ضمن الافتتاحيّة بتلخيص فترات زمنيّة طويلة أو خلال الرّواية بتلخيص الأحداث السّرديّة بواسطة فِقرات قصيرة) والحذف (الحذف يأتي من أجل تسريع وتيرة السّرد، والقفز فوق فترات زمنيّة ميّتة لا أهمّيّة لذكرها) حيث يتسارع السّرد، والمشهد (الحوار بين الشّخصيّات وهنا تتساوى سرعة النّصّ والحكاية عادةً) والوقفة (الوصف) حيث يتوقّف السّرد. وقد عالج الكاتب كلًّا من هذه الحركات بالشّرح والتّحليل والتّمثيل لها من خلال الرّواية.
أمّا القسم الثّالث فبحث فيه د. فؤاد قضيّة التّواتر في الرّواية وهو كما أسلفنا علاقة التّكرار بين النّصّ والرّواية.
ومن الجدير ذكره أنّ باحثنا د. فؤاد بحث التقنيات الخاصّة والفريدة لكلّ رواية، فنجده في رواية الزّمن الموحش يبحث قضيّة التّناوب (أي حكاية قصّتين أو أكثر في آن واحد من خلال إيقاف إحداهما طورًا والأخرى طورًا آخر، ومتابعة إحداهما عند الإيقاف اللّاحق للأخرى)، والتّضمين (وهو إدخال قصّة في قصّة أخرى، أي أن تأخذ الشّخصيّة في سرد قصّة أخرى، وهو ما يسمّيه جانيت بالسّرد من الدّرجة الثّانية).
وأخيرًا أرجو للأديب الباحث د. فؤاد كلّ التّوفيق والنّجاح، ومزيدًا من الإنتاج ليثري مكتباتنا بأبحاث عميقة شاملة كما فعل ببحثه هذا.
***
د. نسيم عاطف الأسديّ