قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية لقصيدة "هل تسمعني؟" للشاعر العراقي فارس مطر

تأخذنا قصيدة هل تسمعني؟" إلى تعدّد فكرة الغياب التي تتناوب بين سطوة الغياب: حضورٌ لا يُرى.. وحين يتكلم الغياب. والغياب كقوة خفية. والحضور الغائب. والغياب.. حين يصبح أبلغ من الحضور وحين يُملي الغياب معناه.

لذا فإنّنا نلج إلى الغياب بوصفه حضورًا مضاداً.

تبتدئ القصيدة بسؤالٍ بسيط ظاهرياً، عميق وجودياً: "هل تسمعني؟" — سؤال يضمر شكًّا في التلقي، ولكنه أيضاً يؤسّس لتيمة الغياب بوصفه مركزاً للرؤية، حيث يصبح الغائبُ أكثر تأثيراً من الحاضر، واللاوجود شرطاً للرؤية المطلقة. ينقلنا الشاعر فارس مطر من المألوف إلى ما وراءه، من الصورة المحذوفة إلى الغيمة المتحوّلة، في انتقالٍ من الماديّ إلى المجازيّ، ومن الواقعيّ إلى الكونيّ. يأخذنا من خلال أتباع منهج البنية الأسلوبية المادية إلى تفكيك الظاهر لإعادة بناء اللامرئي.

قصيدة "هل تسمعني؟" للشاعر فارس مطر تنتمي إلى قصيدة النثر، حيث تتحرر من القافية والإيقاع التقليدي، لكنها تحافظ على إيقاع داخلي ناتج عن التكرار، قارعاً جرسه الموسيقي الخاص، متحرراً من التركيب الموازي، والمجاز المحكم. نلحظ تكراراً هادئاً لأنماط لغوية كـ: "كـ.."، "قد.."،"عندما.."، ما يمنح النص نسقًا تأملياً متصاعداً.

الصور في قصيدة "هل تسمعني؟" لا تُقال لتصف، بل لتُفسِّر. الشاعر مطر، يستخدم الصور لا كتجميل بل كأداة فلسفية: "كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"، "كقارئ ترك الكتاب"، "كغيمة بدّلت الرياح شكلها". هذه التشبيهات تمثل لحظات خفوت الوجود، لا اختفاؤه. ساحباً لإدراكنا نحو أفقه الفلسفي من خلال الشعر بوصفه كينونةً بديلة.

القصيدة ليست فقط تأملاً في الموت أو الغياب، بل محاولة شعرية لتأثيث عالمٍ غير مرئي، يمنح الإنسان خفةً وانسيابيةً: "ستكونُ حُرًّا خفيفًا ويكونُ الهواءُ عادلاً" . هنا يتكشّف الشاعر فارس مطر عن رؤية طوباوية، تتجاوز ثنائية الحياة والموت. فأن تغيب، لا يعني أن تفنى، بل أن تتحول. الغائب يتماهى مع الكون، يتحوّل إلى: "تغريدة"، "قصيدة"، "نبض في الأغصان". إنها عودة كونية تتخذ شكلاً شعريًا خالصًا.

متساوقاً مع المجاز بوصفه نظامًا معرفيًا. حيث تبدو القصيدة مكتظة بالمجازات، لكنها ليست زينةً بل رؤية. نقرأ مثلاً: "ربما فكرةُ الغيابِ أكثرُ أناقةً وسُرياليةً من المثوى الأخير"، هنا يقرن الشاعر مطر بين الفكرة والأناقة، الغياب والسوريالية. إنه يفكّك الصورة النمطية للموت، ويُعيد تركيبه بوصفه حالة انفتاح على الكون، لا نقطة نهاية. من هنا كان ما بعد الحضور – الإنسان كقصيدة كونية، وهي نقطة الذروة في القصيدة حيث تجلت في الاتحاد بالطبيعة – حتى يصبح الإنسان ماءً، طيراً، شجرة، أغنية.

يقول: "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ

لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ". يذوب الشاعر مطر في الكائنات الأخرى، لا يزعم تميزاً، بل اتحاداً كليّاً. في هذا الفضاء الواسع، لا توجد حدود بين الشاعر والعالم، بل تناغمٌ مطلق يُختم بنداء: "أيها التناغمُ الكبير، هل تسمعني؟" "هل تسمع، قلبَ الشجرة؟"، هنا تتحول القصيدة من خطاب غيابي إلى صلاة وجودية، إلى نشيد كوني مفتوح. وهنا يأخذنا ببراعته من الذات إلى الكلّ.

قصيدة "هل تسمعني؟" ليست رثاءً ولا تأملاً فرديّاً في الغياب، بل هي بناءٌ شعريٌّ لبديلٍ وجوديّ، يتجاوز الموت، ويتخيّل الإنسان روحًا حرّة منسابة في تفاصيل الطبيعة. لذا وجدنا الشاعر فارس مطر لا يكتب عن الموت، بل عن التحوُّل، عن إمكانية النجاة من الثبات عبر الذوبان، وعن الكتابة كحياة أخرى. إنها قصيدة لا تُقرأ بعين واحدة، بل تتطلب الإصغاء كما تُشير نهايتها، وكأنّ الشاعر يريد من القصيدة أن تكون صوتاً في شجرة، أو همسة في كونٍ مزدحمٍ بالحضور الصامت.

رائع، لنغص إذن في تحليل رمزي دقيق لبعض المقاطع، لنكشف الطبقات العميقة التي تنطوي عليها رموز النص:

تحليل رمزي لمقاطع مختارة من القصيدة

1. "كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"

الرمز: الصورة المحذوفة

الدلالة: هذا المشهد اليومي المألوف يتحوّل عند الشاعر مطر إلى استعارة كبرى عن الغياب الرقمي/الوجودي. إنّ حذف الصورة لا يعني أنّ الشخص لم يكن، بل أنّ أثره صار لا مرئياً. استخدام الهاتف – رمز الذاكرة العصرية – يشير إلى أننا في زمن يُمحى فيه الوجود بسهولة.

المعنى الأعمق: الغياب هنا لا يتصل بالموت فحسب، بل بالتلاشي التدريجي من ذاكرة الآخرين، ومن الوجود المعنوي.

2. "كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً"

الرمز: الغيمة المتبدّلة

الدلالة: الغيمة ترمز في الأدب الصوفي والشعري إلى الروح، إلى الكائن المتحوّل، الخفيف، العابر. تغيّر شكلها، يُشير إلى قدرة الكائن على التقمّص والتحوّل وعدم الثبات.

المعنى الأعمق: يؤكّد الشاعر على أنّ الغياب ليس نقطة نهاية، بل حالة ديناميكية، حضور بصيغة أخرى، تتغيّر وفق الرياح (القدر/المصير).

3. "الغيابُ رهينةُ الحضور / ونغمةٌ في وتر قد تثيرُها ريشةٌ في أيِّ وقت"

الرمز: الوتر والريشة

الدلالة: الوتر يحمل طاقة صوتية كامنة، لكنه لا يُصدر صوتاً إلا إذا حرّكته الريشة. هذا رمز عميق لوجود كامن، غائب، لكنه قابل لأن يُستحضر في أي لحظة.

المعنى الأعمق: الغائب ليس منفصلاً عن العالم، بل هو جزء من نسيجه، ينتظر فقط "اللمسة" ليعود إلى الاهتزاز – أي إلى الحياة أو الذكرى أو الإلهام.

4. "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ"

الرمز: الساقية/الماء

الدلالة: الماء هو جوهر التحوّل في الرمزية الكونية. الذوبان في الساقية يعني الاتحاد بالعناصر، التخلي عن الفردانية، والتحول إلى جزء من المنظومة الحيوية الكبرى: الطبيعة.

المعنى الأعمق: دعوة للاندماج، للذوبان في الكلّ. الشاعر فارس مطر لا يريد أن يُذكر كاسم، بل كأثر حسي في الوجود – كماءٍ يسري في كائنات الأرض.

5. "هل تسمع، قلبَ الشجرة؟"

الرمز: قلب الشجرة

الدلالة: قلب الشجرة قد يكون استعارة عن الحياة الداخلية لكل كائن حيّ، أو عن وعي الطبيعة ذاته. إنه السؤال النهائي: هل للطبيعة وعي؟ هل يمكنها الإصغاء؟ وهل نصير نحن جزءًا من ذاك الوعي بعد الغياب؟

المعنى الأعمق: الشاعر يطرح هنا سؤالاً وجودياً ميتافيزيقياً: هل هناك صدى للروح في العالم بعد أن تغيب؟ هل يمكن للأثر أن يُسمع حتى لو لم يُنطق؟من هنا يمكننا القول انّ قصيدة "هل تسمعني؟" تمثّل نصاً شعرياً مكثفاً من حيث بنيته الفكرية وجمالياته التعبيرية، حيث يتقاطع فيه الحضور والغياب، ويتحوّل الكائن الإنساني إلى طيف كوني يتناثر في الطبيعة والعالم. إنها قصيدة ذات طابع تأمليّ عميق، تنتمي إلى ما يمكن وصفه بـ"الشعر الوجودي الحديث"، حيث تتداخل الأسئلة الكبرى مع الشفافية الشعرية.

البنية الفنية للنص: كان تأكيدنا على الشكل الشعري كون قصيدة

"هل تسمعني؟" تنتمي إلى شعر النثر، إذ تخلو من القافية التقليدية لكنها تحافظ على إيقاع داخلي مستند إلى التكرار، والتنويع الصرفي، وتعدّد الأنماط التركيبية. فالجملة الشعرية في القصيدة طويلة نسبياً، متدفقة، أقرب إلى المونولوج الداخلي، وتتحرك عبر تدرّج شعوري نحو الذروة التأملية في نهاية النص.

كون الشاعر مطر اتبع مسار التكرار والنسق الإيقاعي مستخدماً أدوات التشبيه مثل "كـ..."، والمقاطع الشرطية "عندما.."، وهذا ما يخلق نسقاً من التوازي البنائي، ويُفضي إلى حالة من التماوج الصوتي الذي يُشبه "خفقان الغياب". هذا البناء الفني يُعزز الأثر النفسي للنص، ويؤكد حالة الانسياب التي تتماهى مع رمزية الماء والهواء في المضمون.

لغة قصيدة "هل تسمعني؟" مكتظة بالصور الشعرية حيث جاءت اللغة في القصيدة تُزاوج بين اليومي والمجرد، بين التقني (الهاتف الخلوي) والفلسفي (الغياب الفيزيائي). هذا التداخل يعكس قدرة الشاعر على تحويل المفرد العابر إلى كوني، والمألوف إلى رمزي.

أما الصورة الشعرية هنا فإنها لا تؤدي وظيفة التجميل، بل تؤسس للرؤية. نلحظ مثلاً:

"كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي"، "كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً". هذان التشبيهان يُحيلان إلى الغياب كفعلٍ لا يُدرَك بالحواس، بل بالأثر. الصورة في هذا النص لا تُجسّد، بل تُفسّر وتؤول. من خلال رؤيته الفلسفية للنص كما أسلفنا معتبراً الغياب كحالة وجودية:

كون القصيدة تتمحور حول فكرة الغياب، لكن الغياب هنا ليس نفياً للوجود، بل تحولاً في شكله. فالشاعر فارس مطر يقول هنا:

"يصوغُكَ الغيابُ غائباً لا يُرى،

هذا يعني -فيزيائياً- لستَ موجداً"

المفارقة في هذا السياق أنّ الغياب يتطلب وجوداً سابقاً، بل ويعيد تشكيله. هكذا يتقاطع الشعري بالعلمي، ليؤسس رؤية وجودية للغياب كتحوّل، لا كفقد. ساحباً المتلقي من الكائن إلى الكونية:ففي المقطع الأخير، تبلغ القصيدة ذروتها الفلسفية والجمالية، حين يتحوّل الكائن إلى مكوّن كوني يقول الشاعر فارس مطر: "تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ"، هذا الذوبان ليس مجرد اندماج بالطبيعة، بل هو تخلٍّ تام عن الفردانية لصالح الوجود الجمعي. الإنسان لا يعود فقط جزءًا من العالم، بل يصبح العالم نفسه.

ولو عدنا إلى البنية التأويلية والرمزية فنجد هناك رمزاً مركزياً في القصيدة: (الغياب) حيث الغياب هو الثيمة المركزية، ويأخذ التأويل الهيرمينوطيقي في القصيدة وجوهاً متعدّدة: الصورة المحذوفة، القطار الذي فات، الغيمة المتغيرة. كلها تدل على وجود سابق يتحول إلى لا مرئي.كما يتحوّل من الذات إلى الطبيعة: كون الشاعر مطر سعى لإنهاء قصيدة "هل تسمعني؟" إلى صوت في الطبيعة حين قال: "وستغدو حفيفاً في النسمةِ، قصيدةً في الخميلةِ نبضاً في الأغصانِ"

هذا الانصهار هو أسمى درجات الوجود في القصيدة. الغياب لا يُنظر إليه كموت، بل كتحقّق أعلى للكينونة عبر الفن والطبيعة.

فالقصيدة برمّتها بياناً شعرياً ضمنيّاً تعبّر تمام التعبير عن قدرة اللغة على منح الخلود، وعن الشعر كوسيط بين الحضور والعدم. فحتى في الغياب، تظل الكلمة قادرة على البقاء، على الإنشاد، على أن تكون "ريشة تُحرّك الوتر".

إن عبارة "هل تسمع، قلب الشجرة؟" لا تخاطب كائنًا بعينه، بل تُحيل إلى وعي كوني، تنتقل فيه الذات من ضمير المتكلم إلى ذرات العالم.

خاتمة

قصيدة "هل تسمعني؟" نص شعري فريد في معالجته لفكرة الغياب، حيث يمزج بين الحس الفلسفي والنبض الشعري، ويجعل من الفناء مدخلاً للحياة الكونية. إنها قصيدة لا تُنشد الحزن، بل تحتفي بالتحوّل، وتكتب الذات من جديد في جسد الطبيعة، بأثرٍ يظل قائماً ما دام في الشجرة قلبٌ يسمع.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

................

هل تسمعني؟

.. وعندما تختفي كشيءٍ كان هنا قبل قليل

أو كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي

كقارئٍ تركَ الكتابَ على المنضدة

كخُلُوِ الرصيفِ منكَ تماماً

عندما تركبُ القطارَ قبل لحظات

أو كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً

يصوغُكَ الغيابُ غائباً لا يُرى،

هذا يعني -فيزيائياً- لستَ موجداً

ومع استبعادِ أن تكونَ قد لمستَ شيئاً قاتلاً

أو.. مَسَّكَ شيءٌ قاتلٌ

فقد خرجتَ من المسرح

-تأويلاً- يعني هذا أنكَ صرتَ مُشاهداً يرى غيابهُ

ولعلهم يذكرونكَ في مناسبة

ويقولونَ: روحهُ الآن تُطِلُّ علينا

ربما فكرةُ الغيابِ أكثرُ أناقةً وسُرياليةً من المثوى الأخير

-مجازاً- الغائبُ رهينةُ الحضور

ونغمةٌ في وتر قد تثيرُها ريشةٌ في أيِّ وقت

في النتيجةِ أنت غائبٌ وصامتٌ

ولا تستطيعُ الكتابةَ

لكن، مع افتراضِ وجودك اللّامرئيِّ

ستكونُ حُراً خفيفاً

ويكونُ الهواءُ عادلاً

ولن تكونَ لك وِجهةٌ أخيرةٌ

مُقبلٌ من كل الجهات

قابلٌ لكل شيءٍ

منهمرٌ

مضيءٌ

حالمٌ

‏ممتلئٌ مالئٌ كالأثير

إن اتَّحَدْتَ بشيء صِرتَهُ

آمِلٌ

متأملٌ

وقد تختارُ أن تكون سلاماً..

ورغيفاً..

وكماناً يُهَذِّبُ الكوكبَ من جديد

‏وعلى سبيل البساطة

تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ

لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ

فتصبحُ تغريدةً، أغنيةً

وستغدو حفيفاً في النسمةِ

قصيدةً في الخميلةِ

نبضاً في الأغصانِ

أيها التناغمُ الكبير

هل تسمعني؟

هل تسمعُ، قلبَ الشجرة؟

***

فارس مطر

شاعر عراقي يقيم في العاصمة الألمانية برلين

 

في المثقف اليوم