قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: تفكيك الخطاب الاحتجاجي في النص الحداثي

جدلية المقدس والمدنس في (أتوضأ بالدم) للأديب محمد خالد النبالي

يتسم النص "أتوضأ بالدم" ببنية لغوية حداثية تتأسس على التفكيك وإعادة تشكيل المعنى، حيث تتوتر اللغة بين البعد الصوفي والاحتجاجي، رافضة الانصياع للنمط التقليدي، ما ينتج تراكيب تستدعي تأويلات مفتوحة. يتماهى هذا التوجه مع تفكيكية جاك دريدا، التي ترى أن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل الفكر، بل ساحة للصراع بين الدلالات والانزياحات. لكن ما يميز النص ليس فقط تبني التفكيك، بل توظيفه لإحداث صدمة دلالية لدى القارئ، حيث يتم تحوير معاني الطهارة والدم من سياق ديني إلى سياق احتجاجي، ما يفرض على المتلقي إعادة قراءة مألوفاته اللغوية ضمن سياقات غير تقليدية.
تفكيك البنية السردية والرمزية في النص
يتميز النص بطابعه التأملي الذي يتجاوز السرد التقليدي إلى تفكيك الذات داخل مشهدية متشظية، موظفاً تقنيات التكرار البنيوي والتوتر الدلالي لتعزيز أثره الاحتجاجي. يتجلى ذلك بوضوح في جملة: "أتوضأ بالدم خمس مرات كلما ذكرت اسم بلادي"، حيث تعاد صياغة مفهوم الطهارة عبر استبدال الماء بالدم، مما يخلق مفارقة تجمع بين الفعل الديني والفعل الثوري. هذه الإزاحة الدلالية تتقاطع مع رؤية بول ريكور للاستعارة بوصفها أداةً لإعادة تشكيل الفهم، لا مجرد عنصر زخرفي.
يتلاقى هذا التوظيف الرمزي مع بعض أعمال غسان كنفاني، حيث يتحول الجسد إلى استعارة للوطن، كما في رواية "رجال في الشمس"، حين يختنق الأبطال داخل الخزان وكأن الوطن ذاته يختنق. بالمثل، في هذا النص، يصبح الجسد وسيطاً لنقل تجربة الفقد والمعاناة الوطنية، ويتحول الدم إلى عنصر تطهر يعيد إنتاج معانٍ تتجاوز الاستخدام التقليدي للرموز الدينية.
لا يقتصر النص على استدعاء الرموز، بل يوظفها في سياق احتجاجي يُعيد تعريف مفاهيم التضحية والطهارة، ما يتماشى مع طرح جورج باتاي حول العلاقة بين العنف المقدس وإعادة تشكيل القيم. فالدم هنا ليس مجرد سائل مسفوك، بل فعل وجودي يعكس تحول الألم إلى أداة للتماهي مع الوطن، حيث تصبح المعاناة شكلاً من أشكال الولادة الجديدة داخل سياق نضالي. بهذا، يضع النص القارئ أمام تجربة دلالية متجددة تتحدى الحدود التقليدية للمعنى.
التوتر بين الجسد والوطن
يتحول الجسد في النص إلى مرآة للوطن، حيث يصبح الألم الجسدي انعكاساً لمعاناة الأرض، كما يظهر في قول الأديب: "إنني أتعثر في متتالية من الحسرات، غارقة في عيني، أوراق الزيتون التي تقسو عليّ، تكوي وجهي وجنبي، وتُلقي بي في جبال الموتى، تراقبني بالضغائن المسنّنة، تخبرني أنني لم أكن سوى نشارة أزمان الحثالة." هنا، لا يكون الجسد تعبيراً عن فردية المتحدث فقط، بل يتحول إلى نص احتجاجي ضد محو الهوية الوطنية، حيث تتداخل المعاناة الفردية مع القمع الجماعي.
هذا التصور يتقاطع مع رؤية إدوارد سعيد حول المكان كهوية، إذ يرى أن المنفى ليس مجرد خروج من المكان، بل تجربة تعيد تشكيل الهوية داخل النص، مما يجعل الجسد ذاته امتداداً للمكان.
تظهر هذه العلاقة بين الجسد والوطن أيضاً في نصوص محمود درويش، حيث يكتب: "جسدي هو المعبر الأخير"، في إشارة إلى أن الجسد ليس مجرد كيان مادي، بل مساحة مقاومة. وبهذا، يتحول الألم في "أتوضأ بالدم" إلى رمز لمعاناة الوطن، حيث يتداخل الألم الفردي مع الجرح الجماعي، ويصبح الجسد ساحة مقاومة تكتب من خلالها الهوية الوطنية في مواجهة التلاشي.
التحولات الزمنية المتشابكة
لا يخضع النص لمنطق الزمن الخطي، بل يتبنى بنية دائرية تتداخل فيها لحظات الاحتضار والاستذكار والمواجهة الداخلية، كما في: "كلما قبضت على هذا الكون، كانت يدي تغوص في رغوةٍ وجفاء، تُزهر الكلمات تحت أطراف أصابعي، لعلني أستطيع أن أقتلعها من جذورها." هذا الأسلوب يستدعي تقنية "تيار الوعي" التي وظفها جيمس جويس، حيث تتحول اللغة إلى تدفق داخلي يعكس تناقضات الذات ويضع القارئ في حالة تفاعل وجداني عميق مع النص.
يتشابه هذا البناء الزمني مع ما نجده في روايات مثل مئة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز، حيث يتداخل الماضي بالحاضر في مشاهد تتكرر بطرق مختلفة، مما يخلق شعوراً بأن الشخصيات محاصرة في دوائر زمنية لا نهاية لها. في "أتوضأ بالدم"، هذا التداخل الزمني يعزز الإحساس بأن الألم الوطني متجدد، وكأن التاريخ يعيد إنتاج القمع والاحتجاج بشكل مستمر.
البنية الصوتية والانفعالية للنص
يعتمد النص على إيقاع داخلي متوتر يعكس طابعه الاحتجاجي، حيث يتجلى التكرار الإيقاعي في: "رضوخٌ، رضوخٌ"، مما يخلق تأثيرًا صوتياً أشبه بضربة طبول في فضاء معتم، معززاً الإحساس بالتمرد والاحتدام الداخلي. كما يتجسد التوتر بين الهمس والصراخ في عبارة: "تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري"، حيث يؤدي الانتقال من الوصف الهادئ إلى الانفجار الصوتي إلى تصعيد درامي يعكس تصاعد الاحتدام الوجودي داخل النص.
يتشابه هذا الاستخدام للإيقاع مع ما نراه في قصائد مظفر النواب، حيث تخلق التكرارات الإيقاعية توتراً يشبه الاحتجاج الصوتي داخل النص، مما يمنح اللغة بعداً نضالياً إضافياً.
البعد السياسي والاحتجاجي للنص
لا يقتصر النص على تقديم خطاب احتجاجي مباشر، بل يعيد إنتاجه بأسلوب حداثي جمالي، حيث يتحول السؤال السياسي إلى مأزق وجودي يتجاوز الخطاب الأيديولوجي التقليدي نحو تفكيك أعمق للعلاقة بين الفرد والسلطة. يتجلى ذلك في إعادة صياغة مفاهيم الطهارة، التضحية، والألم لتصبح أدوات مقاومة رمزية تعكس واقعاً سياسياً مضطرباً.
في ظل سياقات القمع، يتحول الجسد في النص إلى مساحة اشتباك بين السلطة والمقاومة، حيث يتم تحميل النزيف دلالات وطنية، كما في: "تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري، وتبدأ الطرقات بالازدحام بالتعب." هنا، يتماهى الألم الشخصي مع الجرح الجمعي، ويتحول الصوت إلى فعل احتجاجي يزعزع الصمت المفروض. يعكس هذا مفهوم "السيطرة الحيوية" (Biopolitics) عند ميشيل فوكو، الذي يرى أن السلطة تتحكم في أجساد الأفراد وتحولها إلى موضوع للرقابة والعقاب، حيث يصبح الجسد نفسه ميداناً للصراع السياسي.
يمكن مقارنة هذا الطرح برؤية جان بول سارتر حول الأدب الملتزم، حيث يؤكد أن الكاتب الملتزم لا يهدف إلى تقديم إجابات، بل يضع القارئ في مواجهة الأسئلة القاسية، تماماً كما تفعل نصوص المسرح الوجودي التي تسائل جدوى المقاومة والسلطة. بهذا، لا يكتفي النص بتوثيق الألم، بل يحوله إلى أداة مساءلة وإعادة تشكيل للوعي السياسي والإنساني.
جدلية المقدس والمدنس في النص
يطرح النص تصادمًا بين الحسي والروحاني، حيث يتم تفكيك مفهوم التطهر من الدنس عبر استبداله بالتضحية الدموية. هنا، يبدو أن المقدس في النص لا ينفصل عن العنف، بل يتماهى معه، كما يرى جورج باتاي. هذه الجدلية تتكرر في الأدب الصوفي حيث يصبح الجسد وسيلة تطهير من خلال الألم، كما في تجارب الحلاج.
هكذا، يتجاوز نص" أتوضأ بالدم" الثنائيات التقليدية بين المقدس والمدنس، وبين الفردي والجماعي، ليكشف عن اشتباك دائم بين السياسي والوجودي. وبهذا، لا يصبح النص مجرد خطاب احتجاجي، بل يتحول إلى ساحة مقاومة لغوية حيث تتحدى اللغة ذاتها السائد، ليظل المعنى مفتوحاً على التأويل في فضاء الصراع والتغيير.
***
قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله
..........................
"أتَوضأ بالدّم"
بينما تُجفف الشمس أشعّتها عني، يَتجمد الفم في صمتٍ ضائع، وكلّي في نعمتك، يا رب، أستظلُّ بظلال الليل. الليل الذي يقشِّرني كقشرةٍ رقيقة، بينما يشرب الدفء من عروقي كأنما يسلبني قوة الإيمان.
أي يأسٍ قد حرّرني من خيوط حياتي أو قبضة الموت، بينما تنهش فيّ براثن الشهوة الخالصة.
صوتي يغتالني، وكل المحيطات تَغتَسلُ من غريزتي، ترتشفُ من زخم المشاعر الجياشة، والبحار تنبُع من أطراف شِفاه الحرف، تندمج كأنها تلد صوت الوطن.
كلما قبضت على هذا الكون، كانت يدي تغوص في رغوةٍ وجفاء، تُزهر الكلمات تحت أطراف أصابعي، لعلني أستطيع أن أقتلعها من جذورها، إلى أن يأتيني نحيب الوطن يأمرني بأن أتوضأ بالدّم خمس مرات، كلما ذَكَرتُ اسم بلادي.
إنني أتعثر في متتالية من الحسرات، غارقة في عيني، أوراق الزيتون التي تقسو عليّ، تكوي وجهي وجنبي، وتُلقي بي في جبال الموتى، تراقبني بالضغائن المسنّنة، تخبرني أنني لم أكن سوى نشارة أزمان الحثالة. رضوخٌ، رضوخٌ، كل ما في الوجود حيّ إلا أنا، وحيدًا، كحطب الشتاء يُثرثر في فمي.
تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري، وتبدأ الطرقات بالازدحام بالتعب، بينما تنادي الحرائر في صرخات مكتومة: "لا تُنادي، يا ابنة أُم، لا تسألي أين العرب؟"، وكأن السؤال قد أصبح جرحًا نازفًا لا ينتهي. كأنما نداء الذاكرة يتحدى الزمن، فتظل الحقيقة أسيرة، تطاردني كلما أردت أن أكون.
أعوم في هذه الكلمات، في رماد الوجع، وأنا مُصمّم على أن أتوضأ بالدَم، أُقدس لحمي الذي يُزهق، بدماء تعكس ألوان الأمل والحنين، لعلي أستطيع أن أبعث الحياة في هذا الضمير الميت.
***
الأديب محمد خالد النبالي

في المثقف اليوم