قراءات نقدية
كريم عبد الله: أطياف اللامعقول.. سرد فوضوي لواقع متحلل

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة "شُذُوذٌ كيميائي" داخل غرف الإنفلونزا – للشاعر فراس جمعة كاظم – العراق
***
شُذُوذٌ كيميائي داخل غرف الإنفلونزا
فِي النِّزَاعِ عَلَى بَابِ الباصِ
قمصانٌ تَتَمَوَّجُ
وأَحْذِيَةٌ تَتَرَاكَمُ وتطيرُ
الصُّرَاخُ مذبحٌ مناسبٌ للاضلاعِ الناتئةِ
لَا...............
لَا تسرقوا الْمَحْفَظَةَ
الْمَحْفَظَةُ سَرِيرٌ مُقْفَلٌ
لبطاقةِ الباصِ رَقم ٩
دَرَاهِمُ مَرْبُوطَةٌ بمقصلةِ الْقَاضِي السَّمِينِ
الأطفال يُغمضونَ.....
تَدعكُهم قَذِيفَة
دَاخِلُ لُعبةِ السَّرَاوِيلِ الْفَارِغَةِ
الأمهات طاهياتٌ جيدات
يَمْتَزِجُ الرُّزُّ المُحمرُ
مَع رَكْضَةِ حِصَانٍ
حَسَاءُ مَعَدٌ للطواويسِ الْبَيْضَاءِ فَقَط
المناجلُ لِلضَحَايَا....
لَا للمزارعين
يُشاركُ جَرَسٌ ضَخْم وعكاتِ البَنادِق
لَا وَقْتَ لأعواد الثِّقابِ الكونكريتية
لَا وَقْتَ لعناقِ الأشجار الْعَارِيَّة للمظلات
القَهْوَةُ أكواب لدُنة لأفواه حَدِيدِيَّة
مَسَامِيرٌ بصِنَاعَة فاخرة لتثبيتِ الأصابع
الحانة تراجِيدِيا قرمزيةٌ لِرَجُلٍ طَاعِنٍ
الْمَطَاعِمُ فوانيسُ السندويشات البرونزيةُ
طائرة.......
تَسْتَضِيفُ الْمَدَارِسَ الْمُسَلَّحَةَ
تَلاَمِيذٌ يرسمون د ا رنَا
ويرسمون طائرة
وَعُلْبَةَ سردين مُتَعَفِّنٍ
وَحِذَاءً محشوراً فِي سَرِيرٍ مُعَقَّمٍ
الأمعاء تَحِيضُ اعشاشاً
مِنْ الْجُبْنِ الرَّاشِح
وَالْكَثِيرَ مِنْ الفايروسات الْمُحَمَّصَةِ
بَاعَةُ البراندي........
تَكدسوا فِي شَارِعِ الوَطَن
البرانديُ حَزِينٌ
السَّاعَةُ الْحَادِيَة عَشَرَ مساءً
أضواء الزئبق تتقافزُ عَلَى النَّهْرِ
اسماك نَظِيفَةٌ جداً
تُشاطِرُ الْمَاءَ غناءَهُ الْفَاحِشَ
تَعومُ الْمَتاحِفُ تَحْتَ حُفْرَةِ المصائر
رِمَالُ بَارِدَةُ تَغَطسُ
وحبيباتُ مهجوراتُ يتشنَّجن
كَمَا عَاصِفَةٍ عالقةٍ بِسِياجِ
تتعامدُ الأجساد الرَّاسِخَة
مَع الأعوام العصيّة
قبلاتٌ علْوِيَّةٌ تُدْفَنُ دَاخِلَ قُبَّعَةٍ
أَشْجَارُ المَزَامِيرُ القَاحِلَة.......
تترصعُ خَلْفَ مَرْقَدِ الْفَمِ
فَمُ يترهلُ
فَمُ مُضْطَرِبٌ تماماً
الْفَمُ مقهىً عَرِيضٌ
يَرْشَحُ الْكَثِيرَ مِنْ القصائد اللزجةِ
مَدامِعُ مَعاقَةٌ دَاخِلَ شَبَابِيكِ الْمَاءِ
عذراواتٌ كمناجمَ مُنْقَرِضَة
تَعَدُّ مَا ذَبُلَ مِن أشرطة الْيَنَابِيعِ الساخنةِ
العوانسُ صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ فِي مَرْمَى الْمَعَاطِفٍ
مَعَاطِفُ ثَقِيلَةٌ جداً
تَحْمِلُ الإناث الْخَالِدَةَ
كَمَا تحْمِلُ الشِّتَاءُ
الجَلِيدُ أرقام مُجَرَّدَةٌ مِنْ الْعُشَّاقِ الْمَوْتَى
الجَلِيدُ فُقّاعَةُ الرأسمالية الثلجيةِ
الاكواخُ انهار مِن الدُّخَانِ الْعَاطِل
تتناسلُ مَع زجاجاتِ النَّبِيذِ المُثلّجِ
يتزاوجُ النَّبِيذُ مَعَ قَطْعِهِ كَعْكٍ ذائبة
يَفْرُغ الكأس فِي بَطْنِ تِمْثَال
سَاقٌ عَرْجَاءُ استبدلت بِرَاْأس
اصبح الرأس اعرجا بِمَا لَا يُطَاقُ
تَذَكَّرَةٌ زئبقية نهائية
تزفرُها مؤخرات النوافير
الشَّوَارِعُ خَرْسَاءُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ
ولائم جَاهِزَةٌ تَمَامًا
وقَتْلَى جاهزون ايضاً
النوافيرُ تموءُ بِبُطْء
تُعَبِّر الأنفلونزا الصُّلْبَة
الى خَاتِمَةٍ الْفَنّ
وَخَاتَمُةِ الْغِنَاء
المنصاتُ عَمَلِيَّةٌ جِرَاحِيَّةٌ
خَارِجَةٌ عَنْ السَّيْطَرَةِ
نَسَبَةُ الشِّفَاءِ
صفر بالـ %.
***
بقلم: فراس جمعة كاظم.
..............................
القراءة النقدية:
قصيدة /شُذُوذٌ كيميائي داخل غرف الإنفلونزا/ هي عبارة عن رحلة إلى أعماق الوجود الإنساني المُعذب والممزق، إذ تشكل لغة الشاعر ساحة متشابكة من الرموز والتخيلات البصرية التي تجسد أبعادًا متعددة للواقع المأزوم والمضطرب.
البنية والأسلوب:
القصيدة تتميز ببنية سردية غير تقليدية، حيث تبرز الصور الشعرية بشكل متسلسل وغير خطي، ما يخلق حالة من الفوضى والارتباك الذي يعكس أجواء الانفلات الفكري والتشويش العاطفي. في هذه القصيدة، لا يبدو أن الشاعر يتبع تسلسلًا منطقيًا للأحداث؛ بل يعتمد على تقديم مشاهد معزولة عن بعضها البعض لتشكيل لوحة من الفوضى الكيمياوية، كما يوحي العنوان /شُذُوذٌ كيميائي/ من خلال تكثيف الصور غير المتوقعة.
الصور الرمزية والتشابك الفكري:
الصور التي يقدمها الشاعر تجعلنا نشعر وكأننا في وسط عالم يختلط فيه العنف بالعجز، والهزيمة بالأمل. فالصور مثل /قمصانٌ تَتَمَوَّجُ/ و/أحذيةٌ تتراكمُ وتطيرُ/ تعبّر عن حركة غير مستقرة، تمامًا كما هي الحالة العامة في القصيدة. الطيران والتراكم المتناقض بين الأشياء يشيران إلى حالة من التفكك والضياع.
النمط الرمزي المكرر في القصيدة هو تكرار /المحفظة/ و/بطاقة الباص/، مما يعطي شعورًا مستمرًا بفقدان الهوية أو تكرار الحياة الروتينية التي يرفضها الشاعر في هذه اللحظة، بالإضافة إلى أن /المحفظة/ قد تكون رمزًا للقيمة والمكانة الاجتماعية المفقودة في هذا الواقع المربك.
المرجعية الثقافية والسياسية:
الشاعر يدمج إشارات إلى الأزمات السياسية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع العربي، من خلال تطرقه لمفردات مثل /دَرَاهِمُ مَرْبُوطَةٌ بمقصلةِ الْقَاضِي السَّمِينِ/ و/المناجلُ لِلضَحَايَا/. هنا لا يُبدي الشاعر فقط صورة واقعية للألم، بل يوجه نقدًا حادًا للظلم الاجتماعي والفقر والتفاوت الطبقي، حيث تبرز الهياكل السياسية والاقتصادية القاسية التي تتحكم في مصير الأفراد.
العلاقة بين الفرد والمجتمع:
القصيدة تركز على تناقضات الحياة في المجتمع وتُظهر كيف أن الأفراد، بما فيهم الأطفال والنساء، يُسحبون في دوامة من الألم والمعاناة. يظهر هنا انتقاد حاد للمجتمع الذي يعاني من اللامبالاة والتهميش، فيما يضيع الأمل في ظل الظروف الصعبة. يتم تقديم صورة المجتمع كمكان بائس مليء بالحروب النفسية والجسدية، حيث يتم تحويل الحياة إلى معركة يومية للبقاء.
التوجه التجريدي والرمزية:
القصيدة مليئة بالرمزية الغامضة التي تتجاوز حدود المعنى المباشر لتصل إلى عوالم فنية مجازية. من بين هذه الرموز، تظهر الفكرة القوية /العوانس صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ/، والتي تُعيد تشكيل صور المجتمع المتهالك بتلك اللغة الرقيقة التي تبدو كأنها تأملات عميقة حول قضية العنوسة والمجتمع المغلق. هذا المزج بين الرمزية المفرطة والسياقات الاجتماعية يجعل القصيدة أشبه بلوحة فنية قاسية تثير الأسئلة وتفتح أبواب التأمل في العديد من القضايا.
التوتر بين الواقع والخيال:
القصيدة تتنقل بين الواقع والخيال بمهارة لافتة، حيث يبدو أحيانًا أن القصيدة تمثل حلمًا مرعبًا، وأحيانًا أخرى تشبه كابوسًا مستمرًا. الصور الشعرية الممتزجة بالخيال المتطرف - مثل /الطواويس البيضاء/، /الفمُ مقهىً عريضٌ/، /العوانس صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ/ - تخلق إحساسًا بتنافر وخلل داخلي، يضع الشاعر نفسه على شفا الهاوية بين المعاناة والهروب. تتعدد صور الموت والانفصال والفراغ النفسي لتُظهر تناقضات الإنسان أمام الواقع الصعب.
النهاية والتفاعل مع العالم الخارجي:
النهاية التي يقدمها الشاعر هي بمثابة توجيه للقارئ لمواصلة التساؤل حول مصير الإنسانية في ظل الفوضى المتنامية: /النوافيرُ تموءُ بِبُطْء/، /الشَّوَارِعُ خَرْسَاءُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ/. تُختتم القصيدة بجو من التشاؤم العميق، حيث لا يوجد أفق للنجاة أو الخلاص. تشعر وكأن الشاعر يسلط الضوء على العجز المطلق أمام ما يواجهه الفرد من معاناة.
الخلاصة:
في قصيدته، يستخدم فراس جمعة كاظم أسلوبًا غير تقليدي يعكس تشوهات الواقع من خلال الصور الرمزية القوية واللغة المربكة، مما يجعل القارئ يدخل في عالم من اللامعقول، بينما يشير إلى معاناة الفرد والمجتمع في أوقات الأزمات. تشكل القصيدة مرآة معكوسة لحالة المجتمع الممزق بين الماضي الحزين والمستقبل المجهول، حيث تمثل الانفصال بين الجسد والعقل، والروح والواقع.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق