قراءات نقدية

طارق الحلفي: قناديل برائحة الندى..

"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء" (2)

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته".. بالتفصيل.."

واليوم نستكمل قراءتنا بالمقاطع الخمس الاخرى.. 

القسم الثاني: قناديل برائحة الندى..

الحيرة والبحث عن الهوية

(6)

"قافانِ

في (قَلَقِ) الوجودْ

والّلامُ بينهما أسيرةْ

اللّامُ أنتَ فيا تُرى

ما أنتَ بالقافَيْنِ فاعِلْ؟

....................

حَسَناً أُشَيِّدُ بُرْجَ بابِلْ"

يستند هذا المقطع إلى رؤية فلسفية عميقة تستدعي أبعادًا لغوية ورمزية ودينية، حيث تتجسد الكلمات ككيانات حية تنبض بالقلق الوجودي، وتصبح الحروف أداةً لاستكشاف المعاني الكبرى للوجود والصراع بين الثبات والتحول.

"قافانِ / في (قَلَقِ) الوجودْ / والّلامُ بينهما أسيرةْ"

يبدأ الشاعر بلعبة لغوية ذكية، حيث يربط بين حرفي "القاف" وحالة "القلق"، وكأن الوجود نفسه قائم على ثنائية الحرفين، في تلميح إلى تكرار الدوائر الوجودية وحتمية الدوران بين حالتين متناقضتين أو متكاملتين. أما "اللام"، فتصبح أسيرة بين هاتين القافين، وكأنها تمثل عنصرًا وسطًا أو ضائعًا بين قوتين متصارعتين. هذه الصورة الرمزية قد تُحيل إلى الإنسان نفسه، العالق بين تناقضات الحياة، بين القدر والحرية، بين الحتمية والاختيار.

"اللّامُ أنتَ فيا تُرى / ما أنتَ بالقافَيْنِ فاعِلْ؟"

يستدعي هذا التساؤل بعدًا وجوديًا حادًا، حيث يتحول المخاطَب إلى "اللام"، أي إلى الكائن الذي يقف بين الثنائيات، عاجزًا عن تحديد موقعه أو قدره. إنه استفهام ميتافيزيقي يفتح أفق التأويل: هل الإنسان مجرد حرف في منظومة كبرى لا يتحكم فيها، أم هو فاعل قادر على إعادة تشكيل المعنى؟

"حَسَناً أُشَيِّدُ بُرْجَ بابِلْ"

يصل النص إلى ذروته الرمزية باستدعاء "برج بابل"، الأيقونة التاريخية التي ارتبطت بالتمرد الإنساني ومحاولة بلوغ المطلق، لكنها أيضًا كانت سبب التشتت والضياع اللغوي. هنا قد يكون "بابل" رمزًا للمحاولة المستمرة لإعادة بناء المعنى وسط الفوضى، لكنه قد يكون أيضًا إشارة إلى عبثية المسعى البشري أمام القدر المحتوم.

هذا المقطع القصير يفيض بالدلالات، حيث تمتزج الفلسفة بالرمزية، ويصبح الحرف لبنةً في صرح المعنى، فيما يتحول القلق الوجودي إلى مادة للبناء والهدم في آنٍ واحد. إنها رؤية تطرح التساؤل دون أن تمنح إجابة، لكنها تمنح القارئ تجربة تأملية عميقة حول اللغة والوجود والمصير.

قدسية الرموز وجلال حضورها

(7)

"إنَّ المداخِلَ سَبْعةٌ

زوجٌ مِن الثيرانِ كانَ مُجَنَّحاً

في كُلِّ مَدْخَلْ

لو جاءَ

تَعلو كالمصاعِدِ بالمُبَجَّلْ"

يتجلى في هذا المقطع بعدٌ رمزي عميق يمتزج فيه الأسطوري بالديني، والمادي بالميتافيزيقي، ليشكّل رؤية فلسفية حول العبور، والترقي، والمهابة المرتبطة بالمكان والرمز. فالنص يقتبس عناصر من التاريخ والأسطورة، ليعيد تشكيلها في بناء لغوي محكم ذي دلالات مفتوحة.

"إنَّ المداخِلَ سَبْعةٌ"

يبدأ النص بتحديد العدد "سبعة"، وهو رقم ذو دلالات رمزية عميقة في الأديان والأساطير، فهو عدد السماوات السبع، وعدد أبواب الجحيم في بعض المعتقدات، كما أنه يحيل إلى مفهوم الكمال والدورة الكونية المغلقة. اختيار العدد هنا ليس عبثيًا، بل يُلمّح إلى مكان مهيب، ربما معبد أو قصر أو فضاء يتجاوز المادي إلى الغيبي.

"زوجٌ مِن الثيرانِ كانَ مُجَنَّحاً / في كُلِّ مَدْخَلْ"

هنا نلحظ استدعاءً واضحًا للثيران المجنحة (اللاماسو) التي زينت مداخل المعابد والقصور الآشورية والبابلية، والتي كانت تمثل الحماية والقوة الإلهية. وجودها في كل مدخل يعزز فكرة المهابة والقدسية، وكأنّ الداخل إلى هذا المكان يخضع لطقس عبور تحت أنظار هذه الكائنات الحارسة، التي تمثل مزيجًا بين القوة الأرضية (الثور) والسمو الروحي (الأجنحة).

"لو جاءَ / تَعلو كالمصاعِدِ بالمُبَجَّلْ"

هنا يتحول المكان إلى كيان حيّ يستجيب لقدوم "المبجّل"، في إشارة إلى شخصية مقدسة أو استثنائية. صعوده لا يكون سيرًا طبيعيًا، بل أشبه بالارتقاء الآلي، وكأنّه يحظى بقوة غير مرئية ترفعه نحو العظمة. هذه الصورة تعزز البعد الميتافيزيقي للنص، حيث يصبح العبور إلى المكان ارتقاءً روحانيًا، لا مجرد حركة جسدية.

البنية الإبداعية والرمزية

يعتمد الشاعر على لغة مكثفة، تتكئ على الرمز والاستدعاء التاريخي، مما يمنح النص عمقًا فلسفيًا ودينيًا. فالمداخل ليست مجرد أبواب، بل بوابات إلى مستوى آخر من الوجود، والثيران المجنحة ليست مجرد منحوتات، بل كائنات حارسة تمثل سلطة عليا، والمبجّل ليس فردًا عاديًا، بل كيان يمتلك امتياز العبور والارتقاء.

هذا المقطع يفتح أبواب التأويل على مصراعيها، فهو قد يكون استعارة عن السلطة الإلهية، أو عن الطقوس الدينية، أو حتى عن فكرة التفاضل البشري، حيث لا يحظى الجميع بالصعود، بل أولئك الذين يستحقون "التبجيل".

التكرار بين البداية والنهاية

(8)

"إنَّ المَخارِجَ سبعةٌ أيضاً

ولكِنْ لا امتِيازْ

فيها سوى أنَّ الحقيقةَ كالمَجازْ

ويُقالُ:

عندَ الفجْر تَكْتظُّ المَخارِجُ بالسُكارىَ

خَرجوا كما دخَلوا حَيارى"

يواصل هذا المقطع استناده إلى البناء العددي الرمزي، إذ يقابل بين "المداخل السبعة" التي وردت في المقطع السابق و"المخارج السبعة" هنا، ليؤكد فكرة الدورات الوجودية المتكررة، حيث الدخول والخروج ليسا سوى صورتين لحركة الإنسان في العالم، وكأنّ الحياة ليست إلا دائرة مغلقة، يتوهم فيها الإنسان الفارق بين البداية والنهاية.

"إنَّ المَخارِجَ سبعةٌ أيضاً / ولكِنْ لا امتِيازْ"

يكشف الشاعر منذ البداية عن مفارقة عميقة؛ فبينما كانت المداخل موضع تميّز وسمو، تبدو المخارج بلا امتياز، وكأن العظمة تكمن فقط في لحظة العبور الأولى، فيما يصبح الخروج مجرد تكرار بلا معنى. هذا يلمح إلى جدلية الأمل والخيبة، حيث يظن الإنسان أنّ دخوله إلى تجربة ما سيمنحه التميز، لكنه حين يغادرها يكتشف أن لا فرق بينه وبين غيره، وكأن النهاية تُسقط كل أوهام التفاضل.

"فيها سوى أنَّ الحقيقةَ كالمَجازْ"

هنا يصل النص إلى تأمل فلسفي عميق، إذ يذوّب الحدود بين الحقيقة والمجاز، وكأنّ الحياة نفسها ليست سوى استعارة، أو أن المجاز يمتلك من الحقيقة أكثر مما نظن. هذا التشكيك في الفواصل بين الواقع والخيال يفتح أفقًا تأويليًا واسعًا، حيث لا شيء يقيني، وكل إدراك هو مجرد تفسير مؤقت لعالم متحول.

"ويُقالُ: / عندَ الفجْر تَكْتظُّ المَخارِجُ بالسُكارىَ / خَرجوا كما دخَلوا حَيارى"

يأتي هذا المشهد ليؤكد عبثية الرحلة الإنسانية، إذ يرمز "السُكارى" هنا إلى أولئك الذين ظنّوا أنّهم وجدوا في الداخل ما يروي عطشهم الروحي، لكنهم عند الخروج لم يزدادوا إلا حيرة. الفجر هنا قد يكون رمزًا لانكشاف الحقيقة، لكن المفارقة تكمن في أنّ الخروج لا يمنح اليقين، بل يعيد الإنسان إلى حيرته الأولى، ليصبح الخروج مجرد تكرار للدخول، لا تحوّلًا جوهريًا.

البعد الفلسفي والرمزي

يُعيد النص طرح الأسئلة الكبرى حول جدوى التجربة الإنسانية، وحول وهم التميّز، وحول العلاقة بين الحقيقة والوهم. فالحركة الدائرية (سبعة مداخل وسبعة مخارج) تلمّح إلى قدر الإنسان في إعادة الأخطاء نفسها، بينما الإشارة إلى "السُكارى" تمنح النص بعدًا دنيويًا، حيث يكون السكر هنا رمزًا للبحث عن معنى، لكنّ النهاية تبقى دائمًا ضائعة.

هذا المقطع يفيض بالحكمة والعمق، ويؤسس لحالة تأملية تتجاوز الشعر إلى الفلسفة، حيث تتلاشى الحدود بين البداية والنهاية، وبين اليقين والشك، في لغة مكثفة تحمل أبعادًا صوفية وإنسانية عميقة.

التاريخ والتراتب الطبقي

(9)

"إنْ كانَ سينُ هوَ الإلهْ

أو كان مَرْدوخُ الإلهْ

أو كانَ جَدُّهُما

النتيجةُ واحِدةْ:

نحْنُ العبيدُ، نَظلُّ في الوادي

وهُمْ أعلى الجَبَلْ

.....................

البرجُ حَلْ"

يتكئ هذا المقطع على بعد فلسفي ورمزي عميق، مستحضرًا الأسطورة والتاريخ والدين ليعيد تشكيل رؤيته للسلطة والوجود الإنساني. إنه نص يفيض بالتأملات حول علاقة الإنسان بالقداسة، سواء أكانت دينية أم دنيوية، في محاولة لكشف طبيعة الفارق بين القابعين في "الوادي" والساكنين "أعلى الجبل".

البنية الفكرية والفلسفية

"إنْ كانَ سينُ هوَ الإلهْ / أو كان مَرْدوخُ الإلهْ / أو كانَ جَدُّهُما / النتيجةُ واحِدةْ"

يفتح الشاعر النص بتعداد أسماء آلهة قديمة؛ "سين" إله القمر عند السومريين، و "مردوخ" الإله البابلي الذي تبوأ الصدارة بعد صراعات طويلة، و "جدّهما" الذي قد يكون إشارة إلى إله أسبق، ربما "إنليل" أو "أنو". هذا الاستدعاء التاريخي لا يأتي عبثًا، بل ليؤكد فكرة الحتمية: مهما تغيّرت الأسماء، فإن النتيجة تظل واحدة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولا فرق بين أشكال السلطة المختلفة.

الجدلية الاجتماعية والسياسية

"نحْنُ العبيدُ، نَظلُّ في الوادي / وهُمْ أعلى الجَبَلْ"

هنا تكثيف واضح للعلاقة الجدلية بين الحاكم والمحكوم، بين المقدس والدنيوي، بين من يقطن المرتفعات ومن يظل في المنخفضات. فالجبل رمز للقوة والهيمنة، والوادي رمز للخضوع والمحدودية. هذا التوصيف يحمل دلالة طبقية واجتماعية عميقة، حيث السلطة تحتكر العلو، بينما يبقى الإنسان العادي أسير القاع. إنها إشارة إلى ثبات البنى الاجتماعية، حيث يظل "العبيد" في موضعهم، بينما يسكن "الآلهة" قمة الهرم، وكأن الارتقاء أمر محظور على العامة.

البعد الرمزي والديني

"البرجُ حَلْ"

تأتي هذه الجملة كنهاية مكثفة وعميقة للمقطع، حيث يتم تقديم "البرج" كحلّ. لكنه حل يحمل معاني مزدوجة؛ فإما أنه يمثل وسيلة للعبور من الوادي إلى الجبل، أي محاولة الإنسان لاختراق السلطة والقداسة، أو أنه يمثل الفخ ذاته، حيث كان برج بابل، على سبيل المثال، رمزًا للتحدي الذي انتهى إلى التشتت والانقسام.

اللغة والإبداع الفني

جمالية النص تكمن في تكثيفه للمعاني ضمن تراكيب موجزة لكنها مفتوحة التأويل. فالتكرار في الأسماء يمنح الإحساس بالدائرة المغلقة، بينما التناقض بين "الوادي" و"الجبل" يخلق توترًا دراميًا يعكس طبيعة الصراع الإنساني المستمر. أما الخاتمة "البرجُ حَلْ"، فهي ذروة النص، حيث تفتح باب التساؤلات أكثر مما تمنح إجابات، لتترك القارئ في تأمل طويل حول ماهية الحل الحقيقي.

الخاتمة

هذا المقطع الشعري ينجح في تقديم رؤية فلسفية واجتماعية عميقة حول العلاقة بين الإنسان والسلطة، مستخدمًا رموزًا تاريخية وأسطورية لتجسيد ثنائية القهر والتطلع، والاستكانة والتمرد. إنه نص يطرح الأسئلة الكبرى حول المصير الإنساني، ويُجبر القارئ على التأمل في موقعه بين "الوادي" و"الجبل"، وبين القداسة والاستعباد، وبين السكون والرغبة في الصعود.

المعرفة وسموها لحماية الحقيقة

(10)

"ها أنتَ تَصعدُ،

ها هِيَ الثيرانُ

جَنّحَها على الجُدْرانِ ناحِتُها

لِتَنْفَتِحَ السقوفُ

..............

البرجُ مكتبةٌ طوابِقُهُ رفوفُ"

يأخذنا هذا المقطع في رحلة تأملية تمزج بين الحسية والرمزية، حيث يعبر الشاعر عن فكرة الصعود والتسامي عبر صور ديناميكية ترتبط بالمكان والفكر. يبدأ النص بصوت مباشر مخاطبًا المتلقي: "ها أنتَ تَصعدُ"، وهي دعوة للارتقاء سواء على المستوى الذهني أو الروحي.

"ها هِيَ الثيرانُ / جَنّحَها على الجُدْرانِ ناحِتُها"

تستحضر الصورة هنا الثيران المجنحة، التي ليست مجرد كائنات مادية، بل تمثل قوة متصاعدة، قادرة على تخطي حدود المكان (الجُدْران) وفتح أفق جديد من الاحتمالات. هذه الثيران المجنحة هي رمز للطموح والإبداع، ولها دلالة أسطورية تتمثل في كونها حارسًا يحمي الحقيقة والمعرفة.

"لِتَنْفَتِحَ السقوفُ"

في هذه الجملة، يصبح الصعود عملية تحرر من القيود، حيث تتسع الأفق ويتساقط الحواجز المادية، ليغدو الفضاء رحبًا ومتسعًا للمعرفة والتفكير. السقوف هنا قد تشير إلى القيود التي تمنع الفكر من الانطلاق، وحين تفتح، يصبح العقل قادرًا على التوسع والانتقال إلى آفاق جديدة.

"البرجُ مكتبةٌ طوابِقُهُ رفوفُ"

البرج، الذي كان رمزًا للهيمنة والسلطة في العديد من الأساطير، يتحول هنا إلى مكتبة، مما يعكس تحولًا رمزيًا كبيرًا. فالمكتبة، برفوفها المليئة بالكتب والمعرفة، تمثل الارتقاء الروحي والفكري. الطوابق هنا تشير إلى مستويات من المعرفة، وكل رف يمثل فكرة أو نصًا يتراكم فوق الآخر في بناء فكري لا نهائي.

البعد الفلسفي والرمزي

المقطع يعكس علاقة الإنسان بالمكان والفكر، ويستخدم الرمزية لتعكس تطلعاته. الصعود، الثيران المجنحة، السقوف المفتوحة، والمكتبة كلها علامات على البحث المستمر عن الحقيقة والمعرفة، وفتح الأفق نحو آفاق جديدة من الإبداع.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

.............

* رابط القصيدة

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول

https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

في المثقف اليوم