قراءات نقدية
زهير ياسين شليبه: قراءة في رواية "نينا بتروفنا" (2)
"نينا بتروفنا كوكب درّي لا يُلمس بل تلتهب الأصابع قبل أن تلمسه.." ص 389
القسم الثاني: اللغة:٢-٤
حسب الشيخ جعفر شاعر عَلَم معروف ومترجم قبل أن يكون روائياً، يتميز بأسلوبه الخاص وطريقته في التعامل مع اللغة واختيار المفردات بحذر مما أثر كثيرا على أسلوب روايته "نينا بتروفنا" التي نحن بصددها في هذا المقال.
واللغة هنا عامل شد مهم بالنسبة للقارئ، لأنها رصينة وغنية بالأفكار ومتقنة ومحكمة وبعيدة عن الإنشاء، والصنعة المفتعلة والانطباعات السطحية، والتقريرية، وهنا شغلتني بمحاولة ترجمة حواراتها الى اللغة الروسية لأنها بالأصل دارت مع مواطنين روس، وتحولت القراءة إلى نوع من التفاعل بيني وبين الراوي.
لغة فيها مفردات مترجمة بشكل حرفي ودقيق من الروسية قد لا تتناسب مع الحوارات العربية المتداولة بين الناس العاديين، مثل "لنمتطِ المركبة" ص 123، "لا تتساخَ يا صاح" ص 128، "لا اتصال ولا انفصال" ص 129، اعتقد بالروسية (ني أتفيتا ني بريفيتا) لا جواب ولا تحية، او لا جواب ولا خطاب، "لا تتفاصح" ص147 "لا تتفكّه" ص 155، " أنا وحيدة... متشوقة وشائقة" ص 121، "تنتظر أضيافاً" ص 223، "منحة سخية" ص 164، "قل متعالمة" ص 183، "أباق بالشذى" ص 218 ، "عكاز عزوبته" ص 188، "لا أريد منك وشلاً" ص323، "اصطراع" ص 96، "جثوم الليل" ص101، "المخدع" ص 113، "لا تكن متخاشناً" ص 123، وأمثلة أخرى كثيرة تعكس رغبة الكاتب في التجريب والبحث عن الدقة وحث القارئ على التفكير بها. ليست اللغة هنا أمراً مفتعلاً أو متكلفاً، بل لها علاقة بموقف البطل من الحياة، وتأكيد على أليغوريته في البحث والتأني.
بل إن الراوي يشير في حواره مع نينا بتروفنا، إلى مشكلة الترجمة من الروسية الى اللغات الأخرى "روسياً أنتم لا تقولون: شيطان يأخذك. كما يترجم عنكم العالم أجمع بل تقولون حرفيا: شيطان خذ أنت..." فتنصحه "فترجمها أنت كما تقولها"، يرد عليها "سأتَّهم بالخراقة اللغوية". ص 181 أو: لتأخذ الشيطان، أو ليأخذك الشيطان، لكنها قد تعني: أيها الشيطان، خذه!
وهذا ما يؤكد اهتمام الروائي باختيار المفردة في مشغله الأدبي بشكل خاص، لاسيما وأنه درس أساليب الكتابة الإبداعية في معهد غوركي، التي يمكن ملاحظتها بسهولة في هذه الرواية. أسوق هنا كمثال على ذلك عدم وجود Taoutology اي تكرار المفردة في الجملة الواحدة إلا ما ندر، والتي تعاني منها الكثير من الروايات العربية. قد يكون هذا بسبب طبيعة اللغة العربية والفرق الشاسع بين المحكية والفصيحة.
وييدو حرصه اللغوي واضحًا في ترجمته لمفردة "سكن عام"، فيستخدم الكاتب عدة مصطلحات مثل "المنزل الطلابي الجماعي" ص 17 أو المنزل الجماعي الطلابي" ص 193، والقسم الداخلي، لكنه ينتهي باستخدام المفردة الروسية كما هي في الأصل "أوبشيجيت". ص279
أما كلمة "داتجا" تُلفظ بالتشيم العراقية (جنينة، بيت ريفي، خارج المدينة، صيفي، ز. ش) فإنه يفضل أن يستخدمها كما هي بالروسية، و"يتحايل سردياً" كي يشرح معناها في حواره مع صديقته نينا بتروفنا. ص 367، ويقول "البريوزكا" ص 173 وهي اسم محلات السوق الحرة المعروفة في الاتحاد السوفييتي السابق، ومعناها شجرة الباتولا.
يبحث البطل هنا عن تحديات لإشباع رغباته الثقافية من خلال الدايالوجيا/ الحوارية عن الأدب الإنساني، لهذا فإن الكاتب يبين أن صديقة الراوي الشابة المهندسة ناديا تتقن الإنجليزية "فقد علمتها نينا بتروفنا هذه اللغة منذ صغرها. وهي تجيدها إجادة تامةً". ص 239
وتقرأ ناديا النتاجات العربية، التي يحب الراوي أن يناقشها معها، مترجَمَةً إلى الإنجليزية إذا لم تكن متوفرة بالروسية. "سأعيرك روايته عودة الروح" تسأله: "مترجمة الى الإنجليزية؟" فيجيبها "لدي ترجمتها الروسية". ص 77
ثم يقترح عليها قراءة (البخلاء) ص 239، بل إنها تناقشه فيما بعد في أمور أصعب "اسمع. صاحبنا.. صاحب (البخلاء) ما اسمه؟ دعني اتذكر. هو الجاحظ فيما أظن. ما الذي أقعده عن كتابة الرواية أو القصة القصيرة مثلاً؟ لماذا اكتفاؤهم بالحكاية الصغيرة المليحة أو الخبر السار... حكايات إيسوب...ليست قصصا قصيرة...". ص 293
وفي مكان آخر من الرواية فوجئ البطل بأنَ إيرينا صديقةَ لووسا (ليوسا)، التي يتعرف إليها، مُستعربةٌ، بل يمكنها أن تُعينَه في الترجمة من الروسية إلى العربية! ص 382
هل هو تعبير عن الشوق والحنين الثقافي والرغبة في التزود به، لكن ليس مع "رهطه" كما عبرت "أمّه" وخليلته نينا بتروفنا بل مع الآخر!
وقد يتعين على القارئ في بعض الأحيان، أن يبذل المزيد من التركيز لفهم الحوارات بسبب انتقالات الأحداث السريعة، يقول الراوي لجارته لووسا: "وداعا لراحة الكرى كما يقول المغربي"، فترد عليه " بل قال، فيما أظن، وداعاً للألوية والأشرعة. وكما قلتَ أنتَ: أشرعتي، الليلة مرتفعة حتى الضحى". ص 148 ويقول في مكان آخر من الرواية "– قبل أن يستيقظ (المغاربة) ... لا تعكسي الحقائق. أنت (المغربية) البليغة. ص 239 وهي اقتباسات من شكسبير. والأمر نفسه في "اسخَ بمنحة على لحية المشجب البيضاء النحيلة الآن" ص 265، و"... لامتلأت الشقة دخان شك!". ص 136
ولا أعتقد أني ابالغ إذا ما قلت إن رواية " نينا بتروفنا" من الروايات العراقية الأكثر جدية وأهمية من حيث إدارة الحوارات وحماسة أو ما يسمى (Pathos باثَس) السرد المتواصل والديناميكي المكرس لفكرة معينة أراد أن يقدمها لنا الكاتب ليس بأسلوب الروايات الواقعية كما قلت سابقاً، بل على طريقة المزج بين (دايالوجيا) حوارية دوستويفسكي وأساليب فوكنر. ولهذا فإن النقاد المولعين بالطرق البنيوية وتحليل الخطاب الروائي إلى أنواع قد يجدون ضالتهم في البحث هنا عن تداخل نصوص متنوعة أو "تناصات" وميتاسرديات. وتصبح اللغة هجيناً من الرومانسية لتعكس حالة الوجد والهيام والإحباط والانتقالات السريعة تعبيرا عن الكاثارسيس (جلد الذات) ونهاية حالات التشرد، بالذات في الصفحات الأخيرة. " لا اريد أن أتزوج إلا نينا بتروفنا. ولا أحب إلا نينا بتروفنا. ومن المعتوه، كما قلت أنا مراراً، الذي يتخلى عن امرأة مثل نينا بتروفنا؟". ص 387 "...
إلا أن نينا بتروفنا كوكب درّي لا يلمس بل تلتهب الأصابع قبل أن تلمسه..". ص 389
***
د. زهير ياسين شليبه