قراءات نقدية
زهير ياسين شليبه: قراءة في رواية "نينا بتروفنا"
للشاعر والروائي العراقي حسب الشيخ جعفر
أسمعُ بيانات ثورة الرابع عشر من تموز... بدأ العنف الدموي الذي لم ينته إلى اليوم بين القوى النيرة والقوى الظلامية
حسب الشيخ جعفر علم من أعلام العراق، درس الأدب ومناهجه في معهد غوركي الروسي، تميز بالتواضع والهدوء بعيدا عن الأضواء والأصوات العالية. من حسن حظه أنه لم ينشغل بالسياسة كثيراً ولم ينقطع عن التعامل مع الكلمة في الأدب شعراً ونثراً والترجمة والصحافة واتجه في السنوات الأخيرة نحو الرواية فبرزت قدرته اللغوية وعرف كيف يتعامل مع المفردة بعناية وتأن.
عرف بديوانه البِكر "نخلة الله" الذي انتظر تسعة أعوام قبل أن يصدره عام 1969، ودواوينه الأخرى مثل: الطائر الخشبي 1972 - زيارة السيدة السومرية وغيرها وترجم الشعر الروسي الى العربيه. وأصدر "رماد الدرويش" وروايته الرائعة "نينا بتروفنا" التي نحن بصددها في مقالنا الحالي.
هذه السردية واقعية لكنها غير تقليدية، تركز بالذات على سلوك الإنسان الخاص غير العادي في حياته اليومية ووجوده، إنه بطل العصر والزمان مغرم ولهان، لكن بدون معاناة "ليرمانتوفية"، يقارن نفسَه بالشاعر بايرون، "ماذا يتبقى من (ساعات فراغ) بايرون لنينا بتروفنا"حسب الشيخ جعفر. نينا بتروفنا. مَن أيقظ الحسناء النائمة؟ بغداد، دار المدى 2014، ص 249
القسم الأول: شغف الرواية
كانت بالنسبة لي متعة شخصية بالذات أن اقرأ رواية "نينا بتروفنا" للشاعر والروائي حسب الشيخ جعفر، (394 صفحة) المكرسة ظاهريا للعلاقات "الغرامية" بين روسيات و"ذكر" عراقي قادم من أعماق الجنوب يعمل مترجماً في موسكو، لكنها تطرح تساؤلات مصيرية كثيرة، وسيكون لها أهمية خاصة في السرد العراقي.
تركز هذه السردية بالذات على سلوك الإنسان الخاص غير العادي في حياته اليومية ووجوده وأزمته العميقة ومشاعره الداخلية في البحث عن الأنا والهوية، إنه بطل العصر والزمان مغرم ولهان، لكن بدون معاناة "ليرمانتوفية" ظاهرة كثيرا في تجلياته، يقارن نفسَه بالشاعر بايرون، "ماذا يتبقى من (ساعات فراغ) بايرون لنينا بتروفنا". حسب الشيخ جعفر. نينا بتروفنا. مَن أيقظ الحسناء النائمة؟ بغداد، دار المدى 2014، ص 249
إنها رواية مفعمة بالشغف Passionبمتع الحياة العاطفية والثقافية والحماسة Pathos الشديدة لها، فالبطل عاشق لنينا بتروفنا وربيبتها وغيرهما من النساء الجميلات، لكنه منتم ٍللثقافة والتراث الإنسانيين شغوف بهما، ينهل منهما يوميا مستشهداً بالمفكرين الغربيين والشرقيين. ويبرر الكاتب حجم هذه الرواية، "لماذا أكتب هذا، لماذا الإطالة؟ أليس التلخيص هو الأجدى؟ ... سألتْ سيدةٌ الكونتَ تولستوي: ألم يكن بمقدورك تلخيص روايتك؟ إنها طويلة، فلم يمكنني أن أقرأها. قال الكونت: صدقيني يا سيدتي.. هذا أقل تلخيص استطعت التوصل إليه". ص 251
من المعلوم أن ليو تولستوي أعاد صياغة روايته "الحرب والسلام" إحدى عشرة مرة وفي روايات أخرى ست عشرة مرة.
تدور أحداث رواية "نينا بتروفنا" في عاصمة مهمة، درس فيها آلاف الشباب من كل العالم، بينهم العديد من العراقيين، إلا انهم ليسوا بالضرورة تجولوا فيها وجابوا شوارعها مفتونين بها وبفتياتها كثيرا كما هو الحال عند الراوي، الذي تنقّل في أغلب أماكن موسكو وارتادَ مطاعمها ومقاهيها الشهيرة منذ الستينات. إنها حالة من التشرد والتجوال وحركة دائبة ومتواصلة ومستمرة تكاد أن تكون يومية في مدينة هائلة مثل موسكو، تحتاج الى الوقت والطاقة والإمكانية المادية، فهي إذن ذات أبعاد ودلالات رمزية وأليغوريا Aligori البحث عن شيء مفقود.
لكن عمَّ يبحث البطل في تنقلاته المكوكية الزمكانية المستمرة مكوناً "هرونوتوبات" Chronotope خاصة به؟ هل يبحث عن شغفه وحريته او عالمه الخاص به؟ هل هي تعويض عن ناستولجيا الحضارة السومرية وجنوب العراق الذي قدم أو "هربَ" منه؟ أم هي البحث عن الذات والأصالة ومقاومة شعور التهميش، الآفة التي تفترس المبدعين في الغربة، "لا بد من أنني (أجنبي) عاثر الطالع...في هذه المدينة الهائلة". ص155
وعندما تقول له نينا بتروفنا في نهاية الرواية "إن لك عالمين: الريف والمدينة" يصحح لها مؤكدا "بل القرية وموسكو" ص 367، ويردد "أعيتنا المواعيد، أنا الغريب، وأوكاري المناطيد..." ص 215، أو أنه هروب أو "تهرب" من علاقة متأزمة مع ماض ٍقاس ٍ اجتماعياً وسياسياً. تسأله صديقته الروسية فيما إذا كان هناك سيارات في قريتهم فيجيبها "لا وجود لها في أريافنا الجنوبية، ص 157.. أبي رجل دين.." ص 158، أم أنه مجرد إشباع الغرائز وتعويض عن الحرمان، كما حدثته فيما بعد، صديقتُه الشابةُ ناديا عن أول لقاء لها بالطلبة الأجانب قبل أن تتعرف إليه، "ما أحلى الجلوس معك في المقهى.. بين الأنظار المستغربة!... ملأى بالمتوحدين ... المقهى الصغير في الطابق الأرضي من فندق موسكو.. ما أكثر الطلبة الأجانب الوحيدين هناك! ... أخذوا يفترسوننا بنظراتهم الكاسرة، الجائعة افتراساً. من غير أن يجرؤ أحد منهم على الدنو منا. فانهزمنا لا خوفا منهم بل سخرية. يلوح لي أنني رأيتك جالساً بينهم". ص96 ونقرأ في الرواية" في ريفنا... كنت أرى اللقالق ... أما الطيور المهاجرة الأخرى القادمة من سيبيريا ... لم أرها إلا جثثا مقطوعة الأعناق تباع ..." ص 365، ويقول " كنت أذهب صباحا مرتجفا برداً، في ثوبي الهزيل إلى مدرسة القرية...كتبي ممزقة ...ويوقفني المعلم ...كأول تلميذ فاشل.." ص 166...وفصلت من الثانوية بعد (تزعمي) تظاهرة طلابية ثورية ... لم يبق من أحد يقود التظاهرة غيري وطالب كردي منفي من السليمانية إلى العمارة .... فإذا بي أسمع بيانات ثورة الرابع عشر من تموز... بدأ العنف الدموي الذي لم ينته إلى اليوم بين القوى النيرة والقوى الظلامية". ص 168
قد يكون هذا هو سبب "قطيعته" مع "مواطنيه ورموز" الوطن كما لاحظتْ صديقتُه نينا بتروفنا، التي "تقرعه" كما تقوم الأم بذلك مع طفلها " لماذا أنت (متعال) على (رهطك) و (متناء) عنهم؟" فيجيبها "لا صاحب لي بينهم.. إلا واحد أو اثنين" ص303، لكنه يحب "النخيل والبتولا" قبل الأشجار الأخرى. ص 182، وتعترف نينا بتروفنا في مكان آخر من الرواية بأنه مشرد فتقول له " أنت أصبتني بعدوى التشرد والسكر ...". ص 328
حتى عمله كمترجم ليس بلا متاعب نفسية وإحباطات " و(طفقتُ) أترجمُ. هي رواية من (القصص الروتيني) تصطنع من الإنجازات الصناعية ملهما لها. وما عليّ، أنا أترجم وأنا أعمل كأي (مستأجر).." ص 179 ويتحدث ايضا عن رفض عرض مسرحيات سارتر في موسكو لمجرد أنه انتقد النظام السوفييتي. ص 202
أم إن كل هذه الأسباب نتيجة حتمية لهذا الإحباط والتشرد وكأنه صرخة من أجل طلب المساعدة بحثا عن الانتماء في هذا الزحام!
ورغم إن هناك موقفاً أخلاقياً سلبياً من هؤلاء الأجانب المنشغلين دوما بالعلاقات المتعددة مع النساء، ومع ذلك أعتقد أن القارئ يقرأها بشغف كونها ليست إيروتيكية مبتذلة، ولقدرة الكاتب الكبيرة على إدارة الحوارات وقوة اللغة والأسلوب وتنوّع الشخصيات من خلال وصفها من الداخل كما سنرى في الأقسام الأخرى من مقالنا المكرّس لها.
أنا بالذات قرأتها مستمتعا محاولا تذكر هذه المدينة العريقة التي عشت فيها مكانا تلو الآخر.
***
الدكتور زهير ياسين شليبه