قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: دراسة في رواية (دقات الساعة) لغابرييل غارسيا ماركيز
بنية العلاقات الزمنية وخطية المواقف والمواقع
توطئة: لعل من أوجه دخوﻻت الزمن في البنية السردية تتابعا من خلال العمل الروائي الذي يخلق عالما خياليا يرتبط وحدود واصلة الواقع بدرجة أو أخرى ويقدم صور وافرة لتمفصلات الحياة السردية عن طريق عامليات متعددة من العناصر الشخوصية المقرونة بظهور تلك الأحداث التي تقع في وجهات متعاضدة من (المواقف - المواقع)بلوغا بها نحو تعدد الأمكنة وإشكاليات ظروف زمن القراءة. أقول بادىء ذي بدء إن حاﻻت التنوع في توظيف دور المحور الشخوصي الفردي (المساعد = الضد) يأتي مشتملا لصدى الأسباب والعلل في مشروع موضوعة النص الروائية، لذا فإن اثبات (الرؤية - الثيمة) تتطلب جهدا كبيرا من القارىء والناقد معا، وعلى هذا الأساس قد نختلف أو نتفق مع فهم الأفعال الروائية التي تعبر عن بعض من الحاﻻت الداخلية خصوصا عندما تكون مخصوصة بوظيفة الإشارات والعلامات الضمنية. من خلال دﻻﻻت ووحدات رواية (دقات الساعة) للكاتب الكولمبي الكبير (غابرييل غارسيا ماركيز) تواجهنا انعكاسات الظروف الخارجية ضمن مواقف ومواقع التكوين النفسي، حيث كادت مجموع الوحدات الصغرى والكبرى في الرواية من أن تشكل بذاتها منظورا شخوصيا ذات ملامح محورية داخل مستويات الهيمنة الفعلية في شريط الأفعال والمواقف والمواقع في الجسد الروائي.
- التبئير الوصفي للمنظور الداخلي المتزامن مع الخارج.
تتميز رواية (دقات الساعة) بتقنية التزامن نظرا لكونها تقوم على موضعي (المواقف = المواقع) ففي حالة المواقف تتزامن الأحداث (الخارجية - الداخلية) مع قوامية المشهد الشخوصي، لذا بدا الزمن مساويا لمهام واقع الحكي، بل إنه غالبا ما يبدو اختلاطا في نزوع الحوادث نحو الأمكنة المتعددة، لذا يكاد ان يكون الزمن ايقاعا بطيئا من شأنه ترميم زمن المكان في حدود موصلات متزامنة من السرعة والأبطاء معا.
١- الطابع المتضاعف في المشهد الروائي:
من الممكن للروائي أن يتلاعب بالقارىء، ولكن ليس من الممكن إخفاء اواصر دﻻﻻته على ملكية الناقد المتفحص. تتوافر في شروط الحكي الروائي (وجهة نظر ؟) المقيدة بطرائق أسلوبية وآليات تزداد وحدة وترابط، لذا فإن إمساك خيوط السرد ﻻ تخضع دائما إلى عملية متذرعة من حكاية الحكي، اللهم إلا في حدود توظيف العلامات والرموز الإظهارية في حيثيات النص. بدءا نتعرف على شخصية الأب (آنجيل) وهو القس الوحيد في القرية: (انتصب الأب آنجيل وازاح الناموسية الدانتيل بعد أن فرك جفنيه بأصابع يديه، ثم جلس على الحصيرة ساهما لفترة تحقق في خلالها أنه حي، وتذكر تاريخ عيد القديس اليوم الثلاثاء ٤ تشرين الأول - اكتوبر - هكذا تذكر ثم أضاف بصوت خافت: القديس فرانسوا داييز. /ص5الرواية) ولعل مثل هكذا وحدات تشيء بين - دخول المؤلف وعدم دخوله - إذ نكتشف بأن وقائع القس آنجيل تتبنى حدودا زمنية مباشرة راحت تتشكل بواسطة نهج حياتي نمطي مقيدا بحدود (الموت - الحياة - رؤية الاشياء عن قرب) كنماذج للتمسك بحسن السريرة والفطرة.
٢- المنظور المكاني وإستعادة العلائق الصفاتية:
لعل شخصية الأب (آنجيل)محفوفة بسمات النوع الشعبي من الحاﻻت الطبقية، لذا فهو حالة استبطانية لمظاهر الوعي الشخوصي المشحون بصحة الشخصية الدينية السلمية فهو طيب القلب من جهة خفيف الظل، مرح الطبع، يحب الناس ويحبونه، وﻻ مصلحة خاصة لديه سوى ما تعكسه نشأته التربوية الأصلية في القرية. وما يسوغ تحققات (المنظور المكاني) في مقاربات الوحدات، هو ذلك البلوغ الوصفي النادر والجوهري، إذ جعلت مخيلة المكان بمثابة دﻻلة الفضاء المعبر عن حيوات الشخصية: (كانت الحجرة متصلة بالكنيسة بواسطة دهليز داخلي تزينه على الجانبين أصص الزهور، وكان الدهليز مغطى ببلاط متباعد قد بدأت تظهر من بينه أعشاب تشرين الأول. / ص5 الرواية) بهذا المعنى كانت تتوضح معالم حياة القس آنجيل بوصفها ضمن رؤية تتصل بالتلاقي مع ذكرى ميلاد القديس فرانسوا داسيز، وهذا الأمر بذاته ما جعل من موقعية الكنيسة ثم موقف القديس آنجيل كمقاربة تصل العلاقة والنهج ما بين ميلاد وذكر القديس فرانسوا وبين الصورة البوهيمية لحياة آنجيل قديسا في صياغة الوقائع داخل كنيسة القرية وما حولها من تفصيلات وإشكاليات مريرة.
٣- نزيف الأجراس وفخاخ الفئران الميتة:
ما يجذب الانتباه في سرد رواية (دقات الساعة) كونها مجموعة أزمنة تعاقدية جعلت تشخص ماهية الأشياء في حدود زمن العلامات أو المرموزات المضمرة، لذا كانت علاقة القس آنجيل بتلك الراهبة التي تدعى ترينيدا ثم افتقاد ذلك الموسيقي باستور فضلا عن هيام ترينيدا بنصب الفخاخ للفئران في زوايا معبد الكنيسة، ناهيك عن ذلك الفيض من الناموس الذي يخترق وجود وجيوب القرية من كل جهة ومكان، كل هذه الأدوار تتغيا في حيازة دﻻﻻت علاماتية من قبل المؤلف، إذن الأسلوب الاستعاري يتناسج ضمن رغبة ينفلت منها موضوعها باستمرار لذا نقول: ما دﻻلة السعادة الداخلية لدى القس بأقتراب ذكرى قديمة للقديس فرانسوا، هل هو محض الأستلذاذ اللاهوتي مثلا ؟ ولو إننا تتبعنا حياة ذلك الموسيقي لما وجدنا سوى المستوى العبوري على نحو قابلية حدوث أفعال بدت أكثر ملاءمة للتحول إلى فضاء جريمة قتل ؟ وإذا شئنا العودة إلى أحداث تلك الأمواج من الناموس الملتصقة بباطن صوان الأجراس وصوﻻ إلى حشود الفئران المتواجدة في كل مكان من الكنيسة هل لنا أن نعلم بأن الانزياح المعادلي في توالد خطاب دﻻلي أكثر سرية وكبتا مما نعتقد ؟. وعلى هذا النحو وجدنا الأحداث الروائية تمنحنا إحساسا ودليلا بأن هناك من يقف خلف الأبواب ويديم الانصات في خلوة لا تخلو من الزمن المفقود، أي ذلك السياق الامتدادي وتدرجاته في ممارسة حياة موفقة ببديلها الصوري: (: - نعم هكذا أبدت ترينيدا قوله، ثم اقتربت حاملة صندوق الفئران الميتة. إنهم ضاربو قيثارات. قال الأسقف: لقد مكثو ما يقارب من الساعتين وهم يرددون أغنية غبية: البحر سيفيض من دموعي. ألم يكن هذا ؟ إنها أغنية باستور الجديدة. وقف الأسقف أمام الباب وقد شملته حالة إعجاب شديد عجز عن مقاومته، كان طوال سنوات وسنوات قد استمع الى كلارينت باستور الذي كان يجلس على بعد شارعين من هذا المكان يومياً في الخامسة صباحاً. /ص6 الرواية) هكذا يتبين لنا من خلال الأحداث الشخوصية بأن العناصر العاملية في الأدوار المحورية تتشاطر في تجسيد مؤهلات (زمن الحكاية) امتدادا نحو الوحدات الفرعية من مواقف ومواقع السرد، لذا تبقى محفزات زمن الخطاب مقصودا في نسج علاقات وتواصلات ذات قيمة (فاصلة = واصلة) لنتوقف قليلا حول شخصية ذلك العمدة ونشاركه وجع أحد اضراسه، فهو من ذلك النوع من الشخصيات المتنفذة في اواصر الحكاية الروائية: (في لحظة إطلاق النار كان العمدة قد بدأ ينعس، لأنه كان قد قضى ثلاث ليال لم يغمض له جفن في خلالها بسبب آلام أسنانه، وفي صباح ذلك اليوم بينما كانت الكنيسة تعلن نداءها للصلاة كان قد تناول قرص المسكن الثامن حيث هدأ الالم نسبيا وساعده صوت تساقط المطر - على السطح المصنوع من الزنك - على النعاس./ص9 الرواية) لعل الخطاب السردي لدى (غابرييل غارسيا ماركيز)ذات تقابلات زمنية راحت تشكل بذاتها مستويين من أداة الزمن (الزمن الفيزيائي - زمن الأحداث)إذ يشكل الزمن الأول وهو ذلك المستوى الخطي الذي يكون بذاته قابلا للتقسيم والتجزئة، وهذا الزمن هو بذاته الفسحة اللاثابتة، حيث تقاس وفق احاسيس وانفعالات الدواخل الشخوصية، كحال احاسيس الاسقف إزاء ذكرى ميلاد القس فرانسوا كما ومشاعر العمدة حيال تساقط قطرات المطر على السقف مما دفعه للنعاس. اما الزمن الإحداثي، فهو ذلك المقابل النفسي الذي يطغى على متتاليات الافعال والأحداث، فهو كذلك يجري بلا توقف وﻻ نهاية وﻻ رجوع إلى الوراء، فهو يشكل استمرارا في صيرورة من المتتاليات المترابطة، تتجلى من خلال ما يعرف بالاحداث، وهذه الاحداث بطبيعتها ليست هي الزمن، بل إنها تتحقق فيه، شأنها في ذلك شأن الزمن نفسه، لذا بدت التقابلات الثنائية للزمن في الرواية وكأنها تراكيب صورية متقاطعة في حدود دخوﻻت مظهرية للمواقف الشخوصية بطريقة مباغته غالبا، إذ نلاحظ بدورنا من أن ماركيز ﻻ يقيم أية وساطة ما في نمو شخصياته وظهورها الأولي، بل هو يقدمها بصورة اعتباطية وكأن الأحداث تجري على شريط عارضة سينمائية، فهو يباغتنا بأسماء شخوصه دون أية دﻻلة من شأنها إخضاع الشخصية ذاتها إلى عدة مشخصات تقديمية ما. فالزمن حقيقة مؤشرة في حسابات السرد تتكاثر فيه العلامات والتوقيتات التفصيلية في أكثر من مكان ومقام من الرواية.
- التبئير من منظور المتكلم
تتراءى لنا الرؤية السردية لجريمة مقتل الموسيقي باستور على يد سيزار مونتير بواسطة اطلاق عيار ناري من بندقيته. ولكن لو نظرنا للحادثة ذاتها لوجدناها خالية من الاسباب الكفيلة بهذا الفعل. عموما الحالة السردية تنتقل بنا عبر الناظم الخارجي إلى فضاء تجسيد جريمة القتل، ويتم تقديم هذه الممارسة الفعلية من ناحية المنظور المتكلم إلى خارجي من (برانية الحكي؟) امتدادا إلى تدخل العمدة في تفاصيل هذه الواقعة المضطربة.
- تعليق القراءة:
تشتمل رواية (دقات الساعة) على تفاصيل متكونة من ثنائية (المواقف - المواقع) أي ان لكل شخصية في حقيقتها ثمة موقعية خاصة سواء كانت هذه الموقعية إيديولوجية أو اجتماعية، لذا فالامر يتطلب بحضور الموقع مقابلا موقفيا من التفاصيل والمنطلقات الفعلية في زمن الأحداث. طبعا من الأكيد أن صراع الذوات في رواية (دقات الساعة) تحتل في ذاتها جغرافيا متلونة من الملامح والجهات فمنها من كان يساند الجهة الحكومية بما يتمثل به العمدة من الطغيان والجبروت، ومنها الآخر من يجسد موقعية وموقفية رجل الكنيسة، ومنها ما هو منخرط في حركات سياسية معارضة. أقول أن متواليات الأحداث الروائية محيطة بجوانب إيهامية مفرطة تشاطرها قوة الأنساق الشخوصية السجالية، لذا بدت من جهة ما الرواية محفوفة بشفافية الواقعية السحرية وكثافة صناعة الادوات التخييلية في حدود منطلقة من بنية العلاقات الزمنية التي تؤشرها خطيات الخطاب الموقعي الموقفي.
***
حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد