قراءات نقدية

محمد جري النداوي: قراءة في كتاب للأستاذ د. رحيم الغرباوي

مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد

صدر حديثا عن دار "المتن" للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد، كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" للأستاذ الدكتور "رحيم الغرباوي" حاول فيه الغرباوي أن يسلط الضوء بقوة على موضوع شديد الاتساع والأهمية في الأوساط الأكاديمية والأدبية معا، كونه يتعلق بالتقنيات الفنية الحديثة والفنون البلاغية التي بدأت توظَّف على وفق مسارات جديدة في نصوصها الإبداعية، أطلق عليها الغرباوي مسارات ما بعد الحداثة.. على الرغم من أن مفهوم "ما بعد الحداثة" جاء كردِّ فعل على طروحات ومناهج الحداثة ونظرياتها الكبرى، بعد التبدل الذي طرأ على نظم الحياة في أوروبا والعالم ككل، لاسيما عقب مرحلة الخروج عن سلطة الكنيسة ومركزيتها، ونتيجة للإخفاقات التي خلفتها هذه المرحلة، مما أسهم في ظهور تيارات تنادي بضرب المركزيات الكبرى وتفتيتها، والثورة عليها، وما رافق ذلك من نهوض الهامش على اختلاف أشكاله وأنواعه.. ساعد في ذلك التطور الكبير الحاصل في عالم التكنولوجيا والإعلام، وتيارات العولمة التي غيرت الكثير من المفاهيم، وأعادت إنتاج منظومة فكرية جديدة قد تختلف عن السابق تماماً، مما أَحدَثَ تحولاً فكرياً في العقلية والمفهوم، والإبداع أيضاً.

ولما كان للنقد الفني اتجاهاته المختلفة، فإن حتما سيكون لتلك الاتجاهات الأدوات القادرة على فك تشفيرات النصوص الأدبية في محاولة للوصول إلى أعماق تلك النصوص، وتشخيص جمالياتها، وهذا العمل قد يستثمر المرئي من البنى النصية من أجل الوصول إلى ما ورائياتها من دلالات ومعانٍ، لذلك حاول الغرباوي، في تناوله لنصوص الشاعر موفق محمد، أن يسلط الضوء على فنون بلاغية هي ليست بجديدة ولا مبتدعة من قبل الشاعر، كالموتيف والتناص والمفارقة، إلا إن الجدَّة قد تحددت في قدرة الناقد الدكتور رحيم الغرباوي على تحديد مسارات ما بعد الحداثة في توظيف الشاعر لتلك الفنون البلاغية، وما تتضمنه من حمولات معرفية وظاهراتية قد منحت نصوصها عمقها واتساعها وتشظيها.. لذلك كان العنوان متوافقا تماما مع المتن، فالجديد في الكتاب الذي جاء به الغرباوي هو طريقة تحليل النصوص والبحث في ما ورائيات اللفظة والعبارة والسياق ككل، من أجل تشخيص جمالية غير واضحة علناً في النصوص، وكشف مسارات جديدة لشريح النص ونقده وإبراز قيمته الفنية بدقة ومهارة، وذلك باللعب بقوانين البلاغة وقواعدها وفنونها ومزاوجتها مع مناهج ما بعد الحداثة، للخروج بتشظي دلالي للفظة مثلا، فنراه يقول في لفظتي المأذنة والقباب الزرق: ((الشاعر موفق يمازج بين المئذنة والقباب الزرق، فكلاهما تومئان إلى المقدس، بينما العباءات السود تحمل مقدساً من وجهة نظر أخرى، إذ أوردها مجازاً مرسلاً علاقته المجاورة، وما يجاور العباءة هي الأم، وما لها من مكانة عند الله سبحانه وتعالى، فالعباءة تتطاير هامسة، وهي تطلب بعض مراد النفس والمقصود هنا الدعاء عساه أن يفتح هذا الباب المسدود، ويبدو أن الانغلاقة في عام ١٩٩٠م التي قيلت فيها القصيدة هي القرارات الصارمة التي وضعتها الأمم المتحدة بعد دخول العراق الكويت؛ ما جعل الحياة تغلق بوجه أبناء الوطن ومن الأسباب الرئيسة لذلك الحصار الاقتصادي الجائر))[ص22]

فقد زاوج في هذا النص التحليلي بين البعد الظاهراتي للفظة، والبعد البلاغي أيضاً، وليس ذلك فحسب، بل إنه جاء بتلك الحمولات الدلالية ليرمي بثقلها على الواقع المعيش للنص والشاعر، وبذلك نكون إزاء نص نقدي يمتزج فيه الفني والإيديولوجي معا، فيخرج عن امتزاجهما تحليلاً نقدياً يحمل سمة الدقة والاتساع الدلالي، والبعد عن النمطية، بشكل أسهم في حيوية النص وتشظي دلالاته.. وهذا التشظي مردَّه أن (اللفظة) في منظور الغرباوي لا تعطي دلالة واحدة، بل عدّة دلالات، ليس اعتباطية ولا تكهنية، بل هو ما يبوح به السياق النصي، فلفظة "الناي" مثلاً لها حمولاتها الدلالية التي تمكَّن السياق الشعري من تحقيقها، والتي تم رصدها من قبل الغرباوي بدِّقة، فكان للناي خمس دلالات تقريبا، ولكل منها سياقها ومسارها الدلالي، حتى أن بعض تلك المسارات متضادة تماماً، فالناي هو "الحزن والألم والحسرة، ونيران الجحيم"، وهو أيضاً "رمز فيوضات العطاء النافع"، كما أنه في نصوص أخرى " مصدر العلم والعطاء "، وهو في معنى آخر ونص آخر " وسيلة من وسائل النصح والإرشاد وصوت الحق والبراءة "، وأخيراً هو " وسيلة انبعاث الحياة".. لذلك فقد تم تسليط الضوء من قبل الغرباوي على تعدد دلالات اللفظة الواحدة، وبما يضفي على السياق الشعري أبعاد دلالية بعضها ظاهر، وأكثرها خفي غير مُعلن، لذلك يقول: (إن موتيف اللفظة يمثل الينبوع " الذي تسترسل منه القصيدة وتستمد وحدتها "؛ لما يضفيه من امتداد معنوي مشكلاً مع تشكيلات النص شبكة معرفية جمالية تستبين منها مضمراته لدى المتلقي الحاذق والقادر على قراءته قراءة استبصارية تحقق تقارباً لرؤية الشاعر التي تحمل رسالته، وهو يسعى بإبلاغها لمتلقيه، كما يحقق الموتيف له إفراغ ما يطاله من ضغوط نفسية تجعله يركز على ألفاظه في أكثر من سياق، وفي قصائد متعددة من تجربته الشعرية). [ص30]

من أجل ذلك يُعد كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" دراسة جادة وفاعلة في تشخيص المسارات الجديدة للتوظيف الفني لبعض التقنيات الشعرية والفنون البلاغية التي جاءت متماهية مع الاتساع والتشظي الذي نعيشه اليوم في ظل التطور السريع في الميادين الحياتية ككل، فكان التشكيل الشعري مواكباً، على إثر ذلك، لطبيعة العصر، وللذهنية الجماهيرية أيضاً..

***

أ. م. د. محمد جري جاسم النداوي

في المثقف اليوم