قراءات نقدية

نور الدين حنيف: قراءة في مقطعٍ سيريّ (كنتُ مُعلّما) للمبدع عبد الرحمن بوطيب

مؤاخذة منهجية: أحملُ بعض جرأتي في كفّي وأخرى في حرفي لأهجم على صديقي عبدالرحمن بوطيب في بيانه الموجز والشاهر في وجوهنا إشارة تتعقّبُ العنوان وتقول (استرجاعات من ذاكرة رجل تربية وتعليم: 1972 / 2024).

وقد كان يكفيهِ من ذلك عنوان النص (كنتُ معلّما) لنفهم أن الأمر يتعلّق ببعض السيرة الذاتية. وقد يقول قائلٌ إنه لا ضيرَ في ذلك البيان المُصغّر. وأقول إنه الضيرُ كلّهُ عندما يوجّهنا المؤلّفُ توجيهاً مثل هذا، ويذكّرنا في كل محطة بعام التدبيج وسنَةِ التحبير، ويضعنا في الحدث وكأنه يخشى علينا انفلاتَ أزِمّتِهِ من بين أيدينا. فهو يرسم لنا ممراتٍ في القراءة كأنها المعالمُ من حيثُ لا نحتاجُ إلى معالمَ إلا ما اتّفق من شفْراتٍ ضمنيةٍ نستخلصُها من غضون اللغة وفي غضُونها.

القارئُ أو المتلقي كائنٌ أدبيٌّ زئبقيٌّ ومحتال، يمتلكُ من ممكنات التأويل ما يغنيهِ عن بيان أو شيئاً يشبه البيان. وأظنّ هذه المؤاخذة المنهجية لا تفسدُ للودّ قضية بين قارئٍ يُقدّرُ مقروءه...

1- شيءٌ يشبهُ التوطئة:

لا يهمّنا ما قال القاصّ في هذه الإضمامة القصصية المنسابة في مكر الحكي والتخييل، فذاكَ موكولٌ لأول قراءة عابرة تبحث في غير جهدٍ عن مادةٍ متْنيةٍ تفرح وتُسرّ لما وقع وتهشُّ له، بقدر ما يهمنا كيف قال. إن القول في ذاتهِ ممكنٌ أدبيٌّ مُتاح لأن المؤلّف كفانا شر قتال ذلكم المتن، وإنما يشغلنا تنظيم القول وكيف تمّ القول، وآليات اشتغال القول...

2- علبةُ الزمن:

قد يصحّح لي أحدٌ بأنني كنت أروم القول باللعبة فانفلت من أصابعي زرٌّ فرسم العلبة بدل اللعبة. أنا واعٍ كل الوعيِ بأنها العلبة التي أريدها. والزمن في منظوري علبة كونية كبيرة تختزن تفاصيلها الفيزيائية، ولكنها لا تختزن تفاصيلها الميتافيزيائية، حيث يتحوّل القاص إلى حاوٍ ماهرٍ في إدارة مخيالِ العلبة وما فيه من أنماط الزمن وأضربه.

و أول مثالٍ على ذلك: صوغُ القاص ثنائيةَ الزمن في كثافةٍ سردية تلقي بالقارئ في تاريخ الذاتِ. وهو التاريخُ الّذي يقتضي منّا متابعةً مطوّلة قاضية بالتتبع الكرونولوجي لمجريات الأحداث. وهذا أمرٌ متجاوزٌ في أدبيات السرد الحداثي. من هنا امتطاء القاص علبة الزمن ليختار منها ثنائيةً مصوغةً في إبداعٍ سرديٍّ يحترم القارئ وذكاءه.

قال السارد: (و هو في طفولته)

ثمّ أردفَ بعدَ سبعةِ أسطرٍ هي التاريخُ الممتد قائلا: (اليومَ وقد شاب منه الرأس)

مقطعان سرديانِ في غاية البساطة المتنية، ولكنهما في غاية المكر السرديّ. ووسمناهُ بالمكر لأن السارد يعي كل الوعيِ أن المتلقي نوعان: مستمتعٌ قشوريٌّ ومتعمّق نبّاش. وكلاهما يطلبُ اختزالاً في مقام التأريخ للذات. ولو كان الأمر متعلقاً برواية في لبوسٍ شامل لكان الأمر مختلفا...

ملحوظة: (طرحتُ مقولة الشامل وقصدتُ المطوّل نظرا لأن هذا المعيار المرتبط بالحجم أصبح متجاوزا)

السردُ هنا مدركٌ لعتمة العلبة الزمنية، من هنا قفز القاصّ على مرحلتين متباعدتين أشد التباعد، استطاع أن يقرّبهما أشدّ القرب. من الطفولة إلى الشيب. حتّى لكأن المتلقي يدرك تقلّص العلبة الكبيرة في لحظتيْنِ مفارِقتيْن. والمقولةُ المُقلّصة لشساعة العلبة وعتماتها كانت هي السؤال. في مرحلة الطفولة كان السؤالُ تلقياً وفي مرحلة الشيب أصبح وجوديا. وبين القطبيْنِ انسابتِ القصةُ والتأريخُ لها انسيابَ تنسيبٍ لا انسيابَ تحقيب، إذ الهيمنةُ في العلبة هيَ لمسارٍ وليس لصيرورة. وهنا نفهم لمَ تقلّصت أزمنة الشيب فيما استطالت أزمنة الطفولة وطالتْ. أنظر معي في المقطع الأول والمطلعيِّ: سطرانِ من الحكي في مقابل سبعةِ أسطر. ولعلّ قارئاً ناقداً موضوعياً لا يبخس هذا المستوى المورفولوجي والطباعي حقّه في الحضور وتشكيل الدلالة، والتحكم في عمليات السرد...

3- سيمياء الإرادة:

يخدع السرد في هذا النص الحكائي القارئ عبر إيهامه بصيرورة تمرحل الأحداث وتفاعل القوى الفاعلة معها في توجّهٍ خطّيٍّ يُهديكَ رأسَ الخيط كما يهديكَ ذيله. والأمر هنا أعمق من هذه الخطيّة المباشرة، وفيها يتبدى الساردُ مُنْهِياً قولهُ لنبدأ قولَنا في تنظيمِ المقول. وما يحوّل السردَ من مباشرتِهِ إلى ذكاء انسيابه هو توسّل الساردِ بمقولة الإرادة، يطرحُها كبؤرة حكيٍ تلمّ شتاتَ التأريخ السّيريّ لتبتعد الكتابة من عمليات الرصد الزمني لأحداث معيّنة إلى كتابة تبئّرُ المعنى في عمق الدلالة اجتِناءً لحكيٍ يتجاوزُ دغدغة عواطف القارئ ومداعبة منطقة الإعجاب فيه.

يُمسك الساردُ بفعل الإرادة عبر بوّابتيْنِ:

- التماهِي بمقولة الأب:

و فيها يمارسُ الساردُ صناعةَ الظلّ في مفهومِه المرجعيّ المفسّر لنسق الابن العاطفي والنفسي والاجتماعي. الفرعُ لا يأتي من فراغ، والأب أصلٌ. ونحلّلها في جدولة مصغّرة تحكي مصداقيةَ أو بعض مصداقيةِ الحضور:

الابن\ الظل - مرجعُها - الأب\ الجسد.

الابن\ الفرع – مرجعها - الأب\ الأصل

الابن\ الامتداد – مرجعها –الأب\ النواة أو البذرة

الابن\ الراهن – مرجعها – الأب\ التاريخ

التاريخ بالمعنى السيري الفردي هنا لا يتكرر، ولا يفيد التبعية أو الإلغاء، كما سيعتقد بعض القراء، بقدر ما يذهبُ فيه السارد مذهب تأكيد القيمة،  ونقصد قيمة الصبر والنضال والعصامية في كلا البؤرتيْن، سواء تعلّق الأمر بالاب أم بالابن. القيمة ولو تكررت فإنها تتعالى على فكرة الكساد وانتهاء الصلاحية لأنها تدخل في مقولات المطلق الحامل للقدرة على تجاوز الزمن.

و في الصورة المحكية الآتية دليل على ذلك، وهي صورة محكيةٌ مشبعةٌ بقيم القوة والإرادة... قال السارد على لسان الأب (الولد المريض يشفى ويشتغل. الأبواب كلها مفتوحة أمامه بما ملكت يمينه من مفاتيح، لقد حاز الابتدائية الساحرة، وحتى تلك الإعدادية، وزاد فوقها ثلاث سنوات ثانوية، أكيد أنه عندما يبل سيصير مديراً كبيراً، سيصير رئيس مصلحة محترماً، سيصير قائداً، سيصير كوميسيراً، ويصير ضابطاً، أو يصير محامياً مشهوراً يمكن أن يصبح قاضياً مهيب الجناح بعد بضع من سنين.)

- المفارَقة لمقولة الأب:

لا يسقط السارد في عملية النسخ، وهو يسرد حكيهُ السيري. بقدر ما يحاول طبع صيرورة الابن بالأصالة في الوجود وبالدينامية الماتحة قوّتها من عصاميةٍ متفردةٍ تعالتْ على مقولات الفشل والمرض والتحبيط الاجتماعي. واستعاضت ذلك بقوة نادرةٍ في التحدي. عبّر عنها هيدغر في قوله (حيثُما ثمّة حياة، ثمّة إرادة اقتدار)1 باعتبار هذه الإرادة في مجال حكْيِ السارد هنا هي ماهية الوجود الأكثر عمقا.

الابن متصل ومفارق في نفس الآن لمقولة الأب الذي يرفض بنعومة حريريةٍ أن يقيم في جبّتِه. هو لا يكرر صورةً سبقته في الوجود وأمدّتْه ببعض أسباب الحياة. له حياة خاصّة يطبعها مزاج خاص جدّا وأحلام أكثر خصوصية في صمت... (حتى تلك المباريات الداخلية للترقي في الأسلاك التعليمية لم يُحَضّر لأي منها حرفاً، وكان يترقى بالمباريات والتكوين، لم يترقَّ بأقدميةٍ طوال مساره.) والكلام هنا، ولو استشهد بطروحات هيدغر ونيتشه إلا أنه لا ينزع كما نزعا إلى الاقتدار الذاهب مذاهب الاكتمال والكمال. الاقتدار المرجو في غضون المحكي في هذا الخطاب السيري هو فطريٌّ أكثر من أي اعتبار آخر، ويقيمُ متجذّراً في نسغِ الإنسان المغربي الذي اكتوى بأقدار المرض المتجاوز للعطب الجسدي إلى العطب في التنشئة.

4- تركيب:

لا نريد القول في المحكي بقدر ما نريد القول في تنظيم القول، واقتصرنا على مبدأيْن لا يُفهمُ من إدراجهما أننا أحطنا بالمقروء السيري في هذا المقام الخاطف. وهما مبدأ الزمن في بعض تجلّيه ومبدأ الإرادة في بعض إشراقها. وكان تركيزنا على قوّتين فاعلتينِ في سياق هذا المبحث المتواضع، هما الأب بالدرجة الثانية والابن بالدرجة الأولى نظرا لتبئيره لا كشخصية تمتص السرد من نواحيه المختلفة، ولكن كخيط فنّي يشد لحمات هذا المقطع السيري الذي يحمل في طيّاته جينات الجنس الروائي باقتدار.

المتن الحكائي:

كنت معلماً

استرجاعات من ذاكرة رجل تربية وتعليم: 1972 / 2024.

عبد الرحمن بوطيب / المغرب.

استرجاع بدايات: 1972.

وهو في طفولته لم يكن جوابه على سؤال معلماته ومعلميه عن طموحاته العملية في المستقبل واضحةً في ذهنه، لم يُطرح التساؤل بينه وبين أفراد أسرته من قبل ولا من بعد، الكبار كانوا مشغولين بقوت الصغار زمن شدة وفقر، وهو كان يدرس وينجح فقط.

تجنباً لأي إحراج بين الأصدقاء، واتقاءً لنظرات الاستفهام المحتملة من المعلمات والمعلمين كان يرمي الإجابةَ بما يعن له على طرف من لسانه دون سابق تخطيط أو استعداد...

طبيب، مدير، مهندس... ويرتفع سقف أحلام لم تكن أحلاماً، لم تكن أهدافاً، لم تكن مشاريع بناء إنسان، كانت مجرد هروب من إحراج عدم الإجابة على سؤال.

اليوم وقد شاب منه الرأس وتقوس الظهر وتلف النظر، اليوم يقشعر بدنه كلما تذكر مواقف السؤال، ماذا كان سيحصل لو جاء بعد الجواب سؤال آخر من نار:

لماذا هذا الاختيار؟

من حسن حظه، أو من سوء طالعه، لم تتناسل الأسئلة كما كان ينبغي أن يكون عليه المقام التواصلي.

هل كانت المعلمات، وهل كان المعلمون يطرحون سؤالاً من باب تمرير حوار مصنوع خارج أدمغتهم ينقلونه من كتاب المعلم في ديداكتيكية التمهير على المحادثة دون تمحيص، ومن غير تصرف ممكن؟

أهي سلطة المفتش الذي كان يفتش عن كل هفوة أو نقيصة أحسن تفتيش؟

رحم الله سادتنا المفتشين لأنهم لم يطرحوا في دروسهم المعدة سلفاً للمعلمات والمعلمين سؤالَ...

لماذا؟

وقد صار معلماً، وما كانت له مهنةً منتظَرة يوماً في جواب على سؤال.

كان تلميذاً وكفى، وذات مرض قاهر ما بقي تلميذاً، أضحى عاطلاً عن دراسة وعمل.

حدث ذلك وهو مقبل على اجتياز امتحانات البكالوريا، وما ترشح لاجتيازها، صار زبونَ طبيب وصيدلي وهو في السابعة عشرة من عمره.

المرحوم والده ما عاد يفكر إلا في صحة ولد ضاعت منه الصحة، الأرزاق بيد الله، والترقي الاجتماعي يسير السُّلّم، الشهادة الابتدائية مفتاح صالح لفتح أبواب كثيرة، كَمْ مديرٍ كبير سَيَّرَ مصلحات عديدة بكفاءة وإدارة رشيدة وهو يفخر بأنه حاصل على تلك الشهادة السحرية، وحتى المرحوم الوالد بقليل حظ من بركة مسيد في الدوار صار مستخدماً محترماً في البنك.

الولد المريض يشفى ويشتغل. الأبواب كلها مفتوحة أمامه بما ملكت يمينه من مفاتيح، لقد حاز الابتدائية الساحرة، وحتى تلك الإعدادية، وزاد فوقها ثلاث سنوات ثانوية، أكيد أنه عندما يبل سيصير مديراً كبيراً، سيصير رئيس مصلحة محترماً، سيصير قائداً، سيصير كوميسيراً، ويصير ضابطاً، أو يصير محامياً مشهوراً يمكن أن يصبح قاضياً مهيب الجناح بعد بضع من سنين.

قالت الوالدة، وليس لها رأي ينفذ، يمكن أن يصير أستاذاً أو معلماً للصغار، هي أسهل وأحسن، الولد صغير، وصحته لا تحتمل مقاعد القيادة، حتى العذراوات من بنات الدرب يختطفن المعلمين، يفتخرن بأن رب بيتهن معلم، والجيران سيحبونه يحترمونه ويشاورونه في الصغيرة والكبيرة، خصوصاً إذا كان معلماً للعربية، هي درجة تجعل منه بين الناس مكانةَ الفقيه، ليس كصاحبه معلم الفرنسية، ذاك المسيو المغربي الناطق دوماً بلغة مستعمر رحل وترك لسانه يرطن بين الناس.

المريض لا يقرر، لا يشاور، لا يخطط، لا ينتظر إلا ساعة طلاق بائن بينونة كبرى مع طبيب وصيدلي.

هي ثلاث سنوات عجاف، لم تمطر السماء فيها بحرف ولا كلمة ولا جملة ولا شهادة جديدة تفتح أبواب كلية من كليات جامعة العاصمة.

الحال مستمر على حالته، لا جديد تحت قبة السماء.

لا زال الحال على حالته،

ثلاث سنوات لم تأكل أيامَها ولياليها هنيئة مريئة.

الثواني، الدقائق، الساعات، الأيام، الشهور، السنوات الثلاث تزحف على بطنها في متاهات فراغ، متاهات مشارف ضياع،

النهارات قد تنام، الليالي تفتح عيونَها واسعةً لا تسبل جفناً على جفن إلا والناس تصحو من رقادها للرحلة المتبعة في يوم جديد،

"شلة" أصدقاء الدرب تصغر وتكبر، تلهو وترجع ذات صحو إلى جِدٍّ ليس من ورائه طائل، ليلهم ليال تلتهم الليالي، المنحدرات في طريقهم تعلو سقف المرتفعات، والمزالق كثيرات تتربص بهم،

الأسر مشغولة بتعب نهار يرقد مع الدجاج عشية كل يوم طويل،

البيت السعيد الذي قد تتأخر نومته إلى جناح مكسور من ليل هو البيت الذي مَنَّ الله على صاحبه بفائض من مال حلال متحصل من عمل ببنك، اقتنى به مذياعاً يملأ الدرب بأصوات ما تجود به محطات لا يستهوي الوالدَ منها إلا محطة القاهرة ومحطة لندن،

لاقط موجات الراديو الهوائية له تصميمٌ فريدُ نوعِه، كهربائي الحي أعد اللوازم تحت طلب صديقه البنكي يمكن أن ينفعه عند رغبته في توفير قليل من مال في البنك،

هوائي المذياع عمودان خشبيان رفيعان متينان تم تثبيت كل منهما على جدار مقابل للجدار الآخر، المسافة بين الجدارين تمتد على جسد طول المنزل العاري من سقف، الأسلاك النحاسية تمتد مشدودة إلى العمودين بأحجار عازلة عجيبة النوع والشكل، خيط الوصل مع المذياع ينام على ظهر الحائط المجاور لغرفة الوالد، يسير إلى أن يصل فتحة التوصيل بظهر المذياع الخشبي الرفيع من صنع ألماني ممتاز، تحفة فنية مذهلة،

يسافر الوالد كل ليلة بعد عرق نهار مع أخبار يحملها المذياع العجيب ترصد توترات إقليمية ودولية، كان البنكي قد عاش ويلات حربين كونيتين اكتوى بنار حارقة منهما في عز شبابه،

"لندن" تأتي بأخبار لا تناقش، هي الحقيقة، هكذا كان يقول... وتأتي سهرات السيدة من صوت العرب بالقاهرة، وتطول السهرة، وفي الفجر ذاك الفقيه العالم يفسر ما تيسرت تلاوتُه للمقرئ الأصيل من ذكر حكيم،

لا نوم مع الدجاج، والولد المريض لا ينام إلا وصاحب المذياع يتوضأ لصلاة فجر جديد.

هل كان يحلم وقتها أن يكون معلماً تغمزه جميلات الدرب وتبتسمن في وجهه؟

لا يتذكر اليوم أنه حلم بأن يصير معلماً... هو الآن عجوز لا يعتقد أنه كانت له أحلام،

كان يأكل وينام... ينام نهاراً، ويأكل ليلاً، ويتسكع مع "الشلة" إلى مطلع فجر،

كان يحفظ أنغاماً من العندليب الأسمر المعذب، وآهات من فيروز الهامسة بسحر لا ينضب، وكثير من أغنيات جادت بها أشرطة أفلام هندية في قاعات سينما شعبية لا تمنع التدخين، ولا تحرم شباباً مسافراً وراء أوهام حب هندي تتراقص على شاشة ليست ناصعة البياض من ترديد غناء لا تُفهم منه حروف ولا كلمات.

وتزحف الثواني والسنوات العجاف.

صدفة وجد نفسه معلماً.

لم يكن يحلم... ها قد صار معلماً.

كانت "الشلة" الليلية تبدأ السهرة داخل مقهى كان لا يستقبل الزبائن نهاراً، لم تكن له رخصة، كان يفتح الباب في وجههم مساء بعد انتهاء وقت العمل الرسمي، لم يكن أغلب رواد مقهى الدرب يهتمون لأمر الرخصة، المقاهي المرخصة بعيدة نوعاً ما، والسهرة قد تطول إلى جوف الليل، ساهمت التلفزة التي بدأ بثها الأول في الستينات على مَدِّ زمن الغرق بين لعبة ورق ولعبة بليار التباري على بطولات لا بطولة فيها، دوامة من كرات بيضاء تتسابق نحو الشباك، الريالات تنزلق إلى جوف الصندوق، الحماس لا ينقطع، الجيوب تفرغ، وكثيراً ما كانت تجرى بطولات أخرى في السر والعلن، رهان على مشروبات، رهان على تذاكر سينما، رهان على... نقود.

لم يكن من المراهنين على نقود لا يملك منها فائضاً عن واجب قهوة ساخنة أو مشروب بارد، وكان لاعباً ماهراً يتسابق الأصدقاء للعب جنبه في مباريات الثنائيات... كيف أصبح ماهراً؟ هو لا يعرف، ولم يحلم يوماً أو ليلة بأن يصبح لاعباً ماهراً... أو معلماً.

وهو اليوم عجوز، لا زال يحن إلى تلك اللعبة، لا زال يتقنها كأنه يلعبها الآن في مقهى ليست له رخصة، هي مهارات لا تشيخ، وعشق لا يرتفع.

لا يرغب اليوم في التعريف بأفراد "الشلة"، منهم من قضى نحبه مرحوماً، منهم من كان على ملة ثوريين وانتقل خلسة إلى ضفة أخرى يرهبها كل من كان يفكر في أمر محظور، ومنهم من فشل وراكم المشاكل، ومنهم من نجح وراكم الأموال، ومنهم من صار مثقفاً ولو خارج الديار،

ومنهم من صار... معلماً،

وما كان قد اختار.

كيف حدث ما حدث؟

حكاية كان لا يخفيها عن محيطه من أهل وأصدقاء وغرباء كلما دعا إلى تذكرها داع.

تلك الليلة من شهر أكتوبر من سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وألف، ليلة خريفية جمعت الشلة في مقهى بلا رخصة، ورق اللعب لا يستقر له حال، القهوة السوداء الرخيصة، ربما كانت هي أيضاً بلا رخصة، تجري من الشفاه إلى بطون فارغة، دخان يتصاعد ويهبط، نشرة أخبار بالعربية، نشرة أخبار بالفرنسية...

دشن، ترأس، زار، استقبل...

ركن المفتي،

كارتون،

وقليل من فرجة درامية.

اقترب منه صديقه المفضل "ع"... ألصق الشفة بالأذن:

"- هذا الأسبوع ستنظم مباراة للمعلمين المؤقتين.

- تمزح؟

- الإعلان منشور على جدار المدرسة الابتدائية.

- أعانهم الله.

- نجتازها.

- اضحك على نفسك.

- نتسلى.

- الليلة ورق وقهوة رخيصة، وغداً قهوة رخيصة وورق.

- لن أترشح وحدي.

- لا تهمني مباراتك، وزّع الورق يا معلم".

صدقاً، لم يكن يحب خلط الأمور كما يخلط أوراق اللعب بمهارة، لكل حادث حديث، لا يتذكر من عَلّمَهُ الفصلَ بين الأمور.

لم يعر اهتماماً لطلب صديقه "ع" وهو يلعب، وفي عمقه لم يكن رافضاً.

ما كان هدفه أن يصبح معلماً، أو أستاذاً، أو مديراً، أو مفتشاً، هو لا يعرف عن هذه المهن بأنها ليست مهنة، ليست مصدر رزق، ليست عملاً، ليست وظيفة، ليست رقم تأجير...

لم يؤمن بأنها أسمى من ذلك إلا يوم أدرك الفرق بين المهنة و... الرسالة.

تغاضى عن عرض صديقه، وفي عمقه أحب أن يكسر الروتين، الوالد يريد له مهنة أرقى مستوى من زاوية نظره إلى واقع الحال، كم مرة حدثه عبر الوالدة عن منصب محترم يريده له في أسلاك وزارة المالية، قطاع الجمارك.

لا يدري إلى اليوم، وقد رحل الوالد بسره، ما الذي كان يحكم رغبة ذاك الرجل البنكي الذي راكم في أعماقه وجع تجارب فقر ونضال ومقاومة استعمار... رجل صلب قوي خبر الحياة في زمن صعب ووقف على رجلين ثابتتين في أرض غير مستوية... هل كان الرجل البنكي معجباً بأحد أصدقائه في أسلاك الدولة؟ هل كان معجباً بلباس رسمي يحترمه الناس، وقد يخافون صرامته؟ هل كان يرى في الأمر ما لا يراه العجوز الآن من لا استعداد لديه ليكون من رجال السلطة على مكانتهم المحترمة؟

قبل أخيراً دعوة صديقه المفضل لاجتياز مباراة التعليم... أحبَّ أن يخوض تجربة تكسير الروتين، وبينه وبين نفسه، لو طرح عليه سؤال معلماته ومعلميه الآن لأجاب بأنه يفضل التعليم على غيره من الوظائف الكبيرة وكانت متاحة مشرعة الأبواب في وجهه... ربما كان يهوى العطل الصغرى والعطلة الصيفية الكبرى التي كان يتمتع بها زمن التمدرس،

هل كان يحن إلى طاولة وسبورة؟

- ما الوثائق المطلوبة؟

- شهادة مدرسية بمستوى الثانوي، شهادة ميلاد، وبطاقة.

- كلها متوفرة، نتوكل على الله، نقضي نصف نهار دون نوم نحن في حاجة إليه... متى المباراة؟

- بداية الأسبوع القادم.

- وعليه.

علاقة غريبة له مع الامتحانات، لا يتذكر يوماً منذ طفولته جلس فيه إلى أوراق يراجع استعداداً لامتحان،

كان يذهب إلى قاعة امتحان...، يتلقى الاختبارات... يجيب دون سابق إعداد... وينجح.

حتى تلك المباريات الداخلية للترقي في الأسلاك التعليمية لم يُحَضّر لأي منها حرفاً، وكان يترقى بالمباريات والتكوين، لم يترقَّ بأقدميةٍ طوال مساره.

أجمل ما فيه أنه ما سأل يوماً عن نتيجة امتحان أو مباراة خاض غمارها، كان دوماً آخر من يعلم، وكان يُرَتَّبُ في المراتب الأولى،

حتى تلك الشهادة السحرية الابتدائية ما سمع بنشر نتائجها إلا بعد يومين من إعلانها وهو يلعب مقابلة كرة قدم.

كثيرة هي الامتحانات والمباريات، اجتاز منها العديد وهو يترقى من معلم إلى أستاذ السلك الأول الإعدادي، إلى أستاذ السلك الثاني الثانوي.

نهل تكوينه في مركز تكوين المعلمين والمعلمات، والمركز التربوي الجهوي، والمدرسة العليا للأساتذة... هكذا بانسيابية لم يخطط لها يوماً.

عرف امتحانات قبول، امتحانات مرور، امتحانات تخرج، وكثيراً من محطات تقويم، ومباريات ترقية داخلية... كلها مرت بنجاح، دون تحضير مسبق.

وكانت مباراة المعلمين المؤقتين أولَ محطة، تَرشّحَ بتحريض من صديقه "ع" المفضل لتخصص اللغة العربية... صديقه المفضل "ع"، كان صاحبَ الفكرة، وكان صاحب الفضل عليه في ولوج عالم صار به وله إنساناً آخر لم يحلم بأن يكونه، ولم يخطط ليصيره.

اجتازا المباراة في ظرف ثلاث ساعات،

نص للشكل، أسئلة فهم، أسئلة لغة، وإنشاء.

لا يتذكر اليوم الموضوع، ما يتذكره هو...

أنه كان من الناجحين،

وكان صديقه من الراسبين...

وها قد صار معلماً.

لعبة قدر؟

ربما...

(للاسترجاعات امتدادات)

***

نور الدين حنيف

......................

1-Heidegger-Le mot de Nietzsche- Gallimard-1962- p281

 

في المثقف اليوم