قراءات نقدية

علاء حمد: الأبعاد التأويلية في لغة الاختلاف.. الشاعرة السورية لجينة نبهان

عندما تكون المعاني مترسّخة في الذات الحقيقية، تخرج من الذات بتلقائية، تحمل معها كلّ تفكّرات المنظور الشعري، كأن يكون للاختلاف اللغوي الذروة في الأبعاد التأويلية، وكما تتجه التأويلية وتستعمر النصّ المكتوب، نلاحظ أنّ الاتجاه النصّي كجامع للغة من خلال علاقاته اللغوية قبل كلّ شيء؛ وهذا يحدث عندما تكون بؤرة النصّ الشعري، ينفتح فيها النصّ على عدّة اتجاهات تأويلية، لذلك تتعدّد المعاني أيضاً؛ انطلاقاً من تجربة المتلقي الخاصّة، ومدى ثقافته الشعرية من جهةٍ، وثقافته الفردية في القصدية المنظورة من خلال أيّ نصّ يواجهه من جهةٍ أخرى. ومن هنا يكون واقع تفسير النصّ وتقويله، فاللغة ومنها الطبيعية والرمزية والسريالية، تلبس ثياب التأويل وهي تتنشط مع أهداف النصّ الشعري وتكوّن علاقاتها الدلالية بينها وبين الأشياء الخارجية وبينها وبين المنظور الحسّي، فيكون للمحسوس النصيب الجزئي بإطلاق الإشارات، وتدخلات الذات في الحسّية الإدراكية وكذلك تجمع الأفكار المبعثرة والتي تؤدّي إلى تجربة الشاعر ليطرحها بلغة جديدة في المنظور النصّي.

الشاعرة السورية لجينة نبهان ومن خلال بعض نصوصها، نصل إلى ما رسمته من تفكّر شعري بلغة مختلفة، وهي ليست كأيّ لغة يتمّ توظيفها في المنظور النصّي، بل اعتمدت خصوصية الكتابة الفعلية؛ ومنها الخصوصية الإدراكية، وخصوصية فعل المتخيّل، وخصوصية الإبحار في التأويل، وهي تدمج اللغتين، السريالية بالرمزية، لكي تحصل على منطقةٍ من التأويلات وتستقرّ فيها الاتجاهات المتعدّدة.

لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك

إنّها تسبح في داخلكَ الآن

لا تأكلُ بعضها

بل أحشاءك

سينقلب البحر عليك يوماً

ولن تلقى قشّة!

هكذا قال الصوت

 **

من قصيدة: قيد وملح أو...

توظّف الشاعرة السورية لجينة نبهان، دلالة اللفظ ليس على مسمّاه، وإن اعتنت بالمسمّى فسيسقط النصّ بالمباشرة (المسمّى هنا ما يخص الدَلالة في حدّ ذاتها). فهي تعيش في واقع غير الواقع الطبيعي، أو السائد كما جرى تسميته، بل أنّ هناك واقعا آخر تنحاز له من خلال الذات الحقيقية. إنّ الحركة الذاتية مع الأفعال الحركية تُعتبر تشكّلات لغة عابرة للأشياء المباشرة (كان السرياليون يثمّنون القيمة الكامنة للأشياء، أكثر من محتواها الظاهر. في اللغة السريالية، الفارق بين المحتوى الكامن أو المستتر والمحتوى الجلي هو هام جداً. الكامن مرتبط بحرّية المتخيل بينما الجليّ ينذر بالنتائج المحبطة للمبدأ المنفعي المضاد تماماً لمبدأ المتعة الذي يحكم نشاط المخيلة").

لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك + إنّها تسبحُ في داخلكَ الآن + لا تأكلُ بعضها + بل أحشاءك + سينقلب البحرُ عليك يوماً + ولن تلقى قشّة! + هكذا قال الصوت

لنضع سؤالاً ضمن النصّ، ماذا قال الصوت؟

قال الصوت = لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك... تقويل البحر ضمن المنظور الشعري، هو الانتقال إلى عالم آخر، فالذي رسمته الشاعرة لجينة، هو الانتقال بشكل تشبيهي من المنظور الواقعي إلى منظور فعل المتخيل، معتمدة على لغة اعتمدت الرمزية، حيث أنّ المعاني مختبئة خلف ذلك، وعلى ما يبدو وبعيداً عن قبيلة القرش، فقد اعتمدت البحر وما يحويه دون مسمّيات ظاهرة، وهذه هي الشعرية بالذات عندما تكون اللغة الدلالية قد سيطرت بواسطة أفعال الحركة بتأمّل تأويلي.

نستطيع أن نجعل بعض المسمّيات الدلالية من خلال النصّ والنصّية، اتجاه وكلّ اتجاه يحوي على خصوصيّةٍ حركيّةٍ وانتقاليةٍ أو تموضعيةٍ والتي يكون البحر خصوصيتها الأخيرة، بينما انتقال الأسماك (تسبح في داخلك) متعلقة بمسمّى آخر أكثر سيطرة، وفي المنعرج التأويلي دائماً ترمز الأسماك إلى حالة البراءة ودليل ابتلاعها (ضعفها)، حيث تدلّنا على حالة حِجاجية في المنظور النصّي.

في ماراتون الرغيف

حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة

على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا..

سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع

حيث الإجهاض ممنوع

والولادة شبه مستحيلة

والحمل مديد

حينها

حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء

 سيشحذ أشواكه

ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

**

من قصيدة: قيد وملح أو...

هي ليست المكرّرات التي نسعى إلى ظهورها، بقدر ما هو الخيط التواصلي الاضطراري، قد يعترض بعضهم وقد يوافق بعض ممّا قرأ أو سمع أو خاض تجربة حياتية مماثلة، وفي جميع الأحوال إن المشهد المندفع نحو الطبقة المعدمة جعلت الشاعرة في المشهد الحياتي من خلال تجربتها الشعرية، وأهم تلك المواقف هي البيئة التي تحيط بالشاعرة السورية لجينة نبهان.

يسعف النصّ بعض المؤشرات التركيبية أو الأشياء المنظورة التي تدخل ضمن دائرة المحسوس، فالبحث عن رغيف الخبز أو الالتفاتة نحوه، يعتبر من المؤشرات النصّية (فالمؤشرات التركيبية تتشكّل جرّاء ربط الملفوظ الخاضع للقراءة بملفوظات أخرى موجودة داخل النصّ ذاته. ولربّما يكون "التناقض" و "التكرار" و "التقطّع" هم أكثر هذه المؤشرات شهرة وانتشاراً. – الرمزية والتأويل – ص 10 – تزفيتان تودوروف – ترجمة وتقديم: د. إسماعيل الكفري).

في ماراتون الرغيف + حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة + على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا.. + سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع + حيث الإجهاض ممنوع + والولادة شبه مستحيلة + والحمل مديد + حينها + حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء + سيشحذ أشواكه + ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

تمكين النصّ ليس خطاباً عابراً، بقدر ما هو واقعٌ متعلّقٌ في الذات الحقيقية، ومن خلال اللاوعي الكتابي تخرج هذه المتعلّقات كدروس نصّية تحمل الصيغة الشعرية بين المنظور التأسيسي والمنظور الكتابي، لذلك نؤكد دائماً على ما هو الأبقى، والأبقى هو المنظور الكتابي، ليكون بؤرة تجميعية مع جامع النصّ، ومن هنا فإذا تحدّثت الشاعرة لجينة نبهان عن الخبز، فهو أبسط صيغة للمعنى تنتمي له، طبعاً إنّها الصيغة الحياتية التي تدور بفلك الأمعاء الخاوية، وهناك الكثير قد تحدّث عن الجوع وأسبابه ونتائجه، وخصوصاً في مجتمع كان يزهر بالأقداح والياسمين.

إن تقويل النصّ ليس فقط بما يتعلّق بالذات الحقيقيّة، بل أنّ هناك المنظور التخييلي وتقويله، وهو من الأمور المهمّة في كتابة النصّ الشعري، حيث أن الذهاب إلى الثقل الشعري والاعتناء بوحدات اللغة المختلفة هما من مميزات التخييل، ومن هنا يكون للشاعرة لجينة نبهان عنوانات تسير في البنية المنطقية للعوالم التخييلية (حيث أنّ هذه العوالم يختلف الواحد عن الآخر، وكلّ عالم منطقة توجيهية وتحريضية نحو الكتابة) وكذلك بنية المناطق التي تدور حول الذات الحقيقية وكيفية تجسيدها والعمل على تسخيرها في الواقع النصّي.

للفكرة شهوة الولادة

وأمّا العقل فله خيار المزاج

 بتحديد النسل!

حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد

الثقيلة، والخفيفة

يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف)

أو ملاذٍ آمن للانتماء

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

نكون عادة في وسط نصوص من التخييل والتخييل الجزئي؛ فالنصّ التخييلي يقودنا إلى أبعاد مرئية وأخرى غير مرئية، ويكون للحسّية الجمالية مساحتها في الكتابة النصّية، ومن هنا فإنّ قصدية السلطة التأليفية تؤدّي إلى مقاصد تجميعية؛ ومنها فلسفة العقل والدلالة بوجهيها العام والخاص، ويكون المعنى القصدي بدلالته مثيراً للعلامات والرموز النصّية، وهي خصوصية فنّ الإجادة للقول الشعري باتجاهاته الماثلة في النصّ المكتوب.

للفكرة شهوة الولادة + وأمّا العقل فله خيار المزاج + بتحديد النسل! + حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد + الثقيلة، والخفيفة + يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف) + أو ملاذٍ آمن للانتماء

موضوع الشاعرة السورية لجينة نبهان ليس داخلياً فقط، وإنما ذو ارتباط نصّي توجيهي خارجي، وتنقلنا من الوحدات الصغرى إلى الوحدة النصّية الكبرى، ولكن لو نظرنا إلى الإشارات الدالة فإنّها تربطنا بموضوع الحرب، الثقيلة منها والخفيفة، وهي حالة من التشبيه تستعيره من الواقع المنظور، ومن هنا توضّح الشاعرة الصلة النصّية بالمعنى التفكري الذي شغل الكثير من الناس.

حين تنام أصابعك جائعة

لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية

راجع قلبك قبل عقلك،

ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ

فكأسك الفارغ منك الآن

ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس

وأنا الممتلئة بحزني

 كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

إنّ المطلب اللغوي، من ناحية التأويل أو ظهور الرمزية، هو مطلب تركيبي بالدرجة الأولى، ومن هنا يكون لتداخل الأنساق في النصّ المكتوب، وللطبيعة اللغوية المساحة الواسعة؛ إمّا بالتواصل النصّي وتأويله، وإمّا أن تكون اللغة عاملا بنائياً تؤدّي إلى علاقات ذاتية خارجية، وعلاقات نصّية، وهي الأهمّ عندما نكون في منطقة المفاهيم النصّية وتعابيرها المتقنة.

حين تنام أصابعك جائعة + لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية + راجع قلبك قبل عقلك، + ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ + فكأسك الفارغ منك الآن + ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس + وأنا الممتلئة بحزني + كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

إنّ من طبيعة النصّ أن يكون محكم المعنى، وذلك لأنّ المعاني القصدية الدالة، قد أفرغها الباث (الشاعرة)، وتكون معاني تأسيسيّة بالدرجة الأولى، في حين تكون تراكيب الجمل مساحة كافية لاستقبال تلك المعاني والمفاهيم التي تشغل الذات الحقيقـيّة والمنظور الكتابي.

نلاحظ من خلال التعبير النصّي لدى الشاعرة السورية لجينة نبهان، بأنّها؛ تارة تنتمي إلى الأفعال الحركيّة وتارة أخرى لتوظيف أفعال الكلام، ومن خلال هذا التنوع تبدأ بجملةٍ وتطلقها عندما تأمر القارئ بتبنّي خطوات فكرية هي بالذات قد فكّرت بذلك.

تبدأ الشاعرة لجينة بجملة: حين تنام أصابعك جائعة.. وتحوي على أحد الأفعال الحركية، ومن ثمّ تنتقل إلى أفعال الكلام، ومن خلال المعنى المرسوم، فإنّها تتغنّى بتوظيف اللغة المختلفة، (الأصابع لا تجوع)، ولكنّها وضمن الترابط اللغوي بين المختلف واللا مختلف، فقد أشارت ضمن الحركة الدلاليّة على معنى الجوع من خلال (الأمعاء). ومن خلال القلب، تشير إلى الحزن، وهما مفردتان ملائمتان وما طرحته الشاعرة من توقيت نصّي وما يجري على الأراضي السورية. بينما عندما يهدأ الليل فإنّها تربّت أكتافه (تطبطب على أكتافه)، فقد جعلت منه كائنا حركيّاً يظهر لساعات معيّنة ومن ثمّ يختفي.

ويبقى البريق المنداح من عينيك

شهوتي للدفء

كلما خلعته على غيري

هطل الصقيع بقلبي

فتهتك ثوب الوجد.

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

عندما نتكلّم عن السياق، يحضر السياق اللغوي، وهو نفسه سياق النصّ، وعندما يكون الباث في جزئيات نصّية، فهو في السياق المصغر (السياق الجزئي)، ومن هنا نحصل على السياق الأكبر كهيئة منظورة من خلال الانسجام الكتابي، حيث أنّ الأنساق تندمج مع بعضها لتوليد المكتوب النهائي.

ويبقى البريق المنداح من عينيك + شهوتي للدفء + كلما خلعته على غيري + هطل الصقيع بقلبي +

فتهتك ثوب الوجد.

نبقى مع القيمة الموضوعية، كما هي الشاعرة لجينة عندما طرحت بقاء البريق؛ فالتدفق الذي يحدث، تدفق معرفي من خلال النصّ، وذلك لأن البناء النصّي نبعَ من فلسفة العقل، وهذا يقودنا إلى ما جاء به (جان بياجيه) عندما أخذ يبحث عن المعرفة كمفهوم.

من خلال المعرفة والمعرفة الذاتية استطاعت الشاعرة أن تضعنا بين مكتسبات اللغة، فاللغة لديها كتابية معرفيّة – انزياحيّة، معتمدة على السياق التركيبي لكلّ جملة شعريّة، مع توظيفها للأفعال الحركية والانتقالية والتي شكّلت مركزية دلالية في كلّ مقطع نصّي.

***

قيد وملح أو...

لجينة علي نبهان – سورية

لقد التهمت الكثير من الأسماك

إنّها تسبح في داخلك الآن

لا تأكل بعضها

بل أحشاءك

سينقلب البحر عليك يوما

ولن تلقى قشة!

هكذا قال الصوت

*

في ماراتون الرغيف

حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة

على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا..

سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع

حيث الإجهاض ممنوع

والولادة شبه مستحيلة

والحمل مديد

حينها

حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء

 سيشحذ أشواكه

ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

***

حين أقرأ قلادتكَ

للفكرة شهوة الولادة

وأمّا العقل فله خيار المزاج

 بتحديد النسل!

حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد

الثقيلة، والخفيفة

يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف)

أو ملاذٍ آمن للانتماء

حين تدور حول كعبتك

لا تحمل كل خطاياك

فبعض (آثامك) مباركة

لا ترجم كل شياطينك

عد بالقليل لتنجُ من إيمان ضلّ طريقه

ليسقط فيك!

حين تنام أصابعك جائعة

لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية

راجع قلبك قبل عقلك،

ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ

فكأسك الفارغ منك الآن

ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس

وأنا الممتلئة بحزني

 كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

تهرب واحدة يأساً

 وتسقط أخرى سهواً من كُمّ السّر

لأعود بكيس يتضاءل

 أحشره في ثقب العمر المتهالك

 قبل أوان الموت بحبّ ضيّع أحرفه.

ويبقى

.

.

ويبقى البريق المنداح من عينيك

شهوتي للدفء

كلما خلعته على غيري

هطل الصقيع بقلبي

فتهتك ثوب الوجد

..

ذاكرة

 

في المثقف اليوم