قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: قراءة رمزية، أسلوبية، ونفسية في قصيدة "هوية معلقة"

للشاعرة لبنى خناتي

بين الحرف والهاوية، تقف لبنى خناتي على تخوم الذات واللغة، لتعلن في قصيدتها «هوية معلقة» ميلاداً جديداً للوعي المأزوم، ذلك الوعي الذي يتلمّس ملامحه في مرايا الكتابة ليكتشف أن الصورة قد انطفأت في العمق. فهذه القصيدة ليست مجرد تأمل في ضياع الهوية، بل هي سفرٌ تأويلي في اغتراب الذات الأنثوية والإنسانية معًا، في مواجهة واقعٍ مضطربٍ تتنازع فيه اللغة والوجود والذاكرة.

إنها قصيدة تُخاطب اللاوعي قبل الوعي، وتتحرك بين طبقات الرمز والتصوير والوجع، كأنها مرثيةٌ للكينونة، أو نشيدٌ صامتٌ لروحٍ تبحث عن خلاصها. ومن هنا تأتي قراءتنا لهذه التجربة عبر مناهج متعددة تتقاطع في رؤيتها للقصيدة: المنهج الرمزي الذي ينفذ إلى عمق العلامة الشعرية، والمنهج الأسلوبي الذي يرصد البنية اللغوية والإيقاعية، والمنهج النفسي الذي يكشف التوترات الداخلية، وأخيراً المنهج الهيرمينوطيقي (التأويلي) الذي يسعى إلى فهم النص بوصفه دائرة دلالية مفتوحة على تعدد القراءات.

أولًا: البنية الدلالية والرمزية:

تقوم قصيدة «هوية معلقة» على جدلية الذات والبحث عن المعنى، إذ تقول الشاعرة لبنى خناتي:

 «أُعلّق الحرف فوق الوقت أسئلة

وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي»

يبدو الحرف هنا رمزاً للوجود، والوقت رمزاً للفناء، أما الأسئلة فهي جسر الوعي الذي لا يجد أرضاً يقف عليها. فالشاعرة لا تكتب من أجل الإجابة، بل لتؤكد أن الأسئلة نفسها فعل مقاومة ضد العدم.

- الرمزية المركزية تتجسد في الهوية المعلقة — تلك الهوية التي لا تستقر على انتماء محدد، ولا تجد في اللغة سوى مرآة مشروخة. في قولها:

 «أدلّ نفسي على نفسي فتخطئها

ويختفي الوصف في لبس الإشارات»

يتجلى الضياع الوجودي بأبهى صوره: الذات تبحث عن ذاتها ولا تعثر عليها إلا في الضياع. وكأننا أمام إعادة إنتاجٍ لثيمة «الاغتراب الهايدغري» حيث يصبح الكائن منفيًا في العالم، غريبًا حتى عن كينونته.

ثانيًا: التحليل النفسي – الهوية كجرحٍ وجودي:

من المنظور النفسي، يمكن قراءة القصيدة بوصفها رحلة داخل اللاوعي الممزق بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان. إن قولها:

 «كأن عمري مصلوب على غده

والأمس يجلد ما أبقته خيباتي»

يُحيل إلى صورة الصلب الرمزية التي تعبّر عن ألمٍ داخليٍّ ممتد، وعن شعورٍ بالذنب أو العجز أمام الزمن. إنها الذات التي تعاقب نفسها، لأن الماضي لم يكن على قدر التوق، ولأن المستقبل ما زال مؤجّلًا.

وفقًا لمدرسة كارل يونغ، فإن هذا الصراع يعكس مواجهة «الأنا» لظلّها — ذلك الجزء المكبوت من الذات الذي يرفض الخضوع للوعي. فالشاعرة هنا لا تواجه العالم الخارجي فقط، بل تواجه ذاتها بوصفها سؤالًا غير محسوم، وكأنها تقول: «أنا مرآةٌ تبحث عمّن يعكسها».

ثالثًا: المنهج الأسلوبي – بين الإيقاع والتوتر:

من الناحية الأسلوبية، تهيمن على القصيدة نغمة موسيقية متوترة، لا تستقر على نسقٍ واحد، بل تتراوح بين الانسياب والحدّة.

نلحظ هذا في التوازي الإيقاعي بين الجمل:

 «أُعلّق الحرف فوق الوقت أسئلة»

«وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي»

هنا يتكرر الفعل بصيغة المضارع («أعلّق»، «أرتق») ليعكس استمرارية الفعل الداخلي — فعل الكتابة بوصفها محاولة دائمة لترميم الذات.

تستثمر الشاعرة كذلك أسلوب التضاد في ثنائيات مثل:

الريح / الأزمان، الليل / الصبح، الغد / الأمس — وهي ثنائيات تكشف عن توترٍ دائمٍ بين القوى الداخلية والخارجية التي تشدّ الذات إلى جهتين متناقضتين.

أما الصور الشعرية، فهي لا تُرسم لتصف، بل لتكشف. فقولها:

 «فلم أقابل بها وجهًا أُعَرفه

سوى خرابٍ علا فوضى هوياتي»

يقدّم صورة مركّبة تجمع بين الخراب والفوضى بوصفهما حالتين نفسيتين ودلاليتين في آن، مما يجعل الصورة الشعرية انعكاسًا لبنية الانكسار الداخلي.

رابعًا: القراءة الهيرمينوطيقية – تعدد المعنى وتأويل الوجود:

من منظور التأويل، تنفتح القصيدة على قراءات لا نهائية، لأنّها لا تُقدّم حقيقة، بل تخلقها. فالشاعرة لا تُعرّف الهوية تعريفًا ماهويًّا، بل تجعلها فعلًا مستمرًا من البحث والتوليد.

«كم خنتها لغتي كي تستقيم لهم

لكن حرفي أبى تنكيس راياتي»

هذا المقطع يُفكّك العلاقة بين اللغة والسلطة. إن خيانة اللغة هنا ليست ضعفًا، بل مقاومة؛ إذ ترفض الشاعرة أن تكون لغتها مرآة للامتثال الاجتماعي أو الإيديولوجي. إنّها لغةُ تمرّدٍ نقيّ، لا تُنكس راياتها حتى في الهزيمة.

في ضوء بول ريكور وهرمينوطيقاه الرمزية، يمكن القول إن النص يمارس «فعل التأويل الذاتي»، إذ يتأوّل الشاعر ذاته عبر القصيدة، ويتحوّل النص إلى مجالٍ للوعي الذاتي ولإعادة تكوين المعنى الإنساني.

خاتمة:

إن قصيدة «هوية معلقة» ليست مجرد بوح شعري، بل بناءٌ فلسفي للذات في زمن التبعثر. إنها مرآة الروح وهي تحاول أن ترى وجهها وسط غبار الأسئلة، وأن تتصالح مع هشاشتها لا عبر الإنكار، بل عبر الاعتراف والبحث الدائم.

تكتب لبنى خناتي من المسافة الفاصلة بين اللغة والوجود، لتجعل من الحرف كائنًا حسيًّا يتنفس، ومن الإيقاع نَفَسًا للوجع الجميل.

إنها تضعنا أمام نصٍّ لا يصف الهوية بل يؤوّلها، ولا يكتب الذات بل يخلقها من جديد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

هوية معلقة

أعلق الحرف فوق الوقت أسئلة

وأرتق الصمت كي تغفو حكاياتي

تلهو بيَ الريح لا الأزمان تشرحني

ولا الخرائط تهدي درب رحلاتي

أدل نفسي على نفسي فتخطئها

ويختفي الوصف في لبس الإشارات

وأشعل الصبح بحثا عن ملامحه

فلا أرى غير وجهي في انطفاءاتي

كأن عمريَ مصلوب على غده

والامس يجلد ما أبقته خيباتي

كل الذي كنته قد زال من أثري

فمن أنا الآن؟ ما شكل انتماءاتي؟

تاريخنا اليوم قد أضحى صدى طلل

يرتد محض أسىً تبكيه ناياتي

كم خنتها لغتي كي تستقيم لهم

لكن حرفي أبى تنكيس راياتي

ما جئت أطلب من دنياي غير هدىً

للروح حتى ترى ما خلف مرآتي

فلم أقابل بها وجها أُعَرفه

سوى خراب علا فوضى هوياتي

كان ارتجافا خفيا لست أفهمه لكنه مثل وحي

للنبوءات

***

لبنى خناتي

 

في المثقف اليوم