قراءات نقدية
حبيب ظاهر حبيب: جماليات المسرح الشعبي في عرض مسرحية (وين رايحين؟)
قدم عرض مسرحية (وين رايحين؟) سينوغرافيا وإخراج حيدر منعثر، على مسرح الرشيد في بغداد، يوم الخميس ٤/ ٧/ ٢٠٢٤ ولمدة أربعة أيام، زمن العرض ساعة وخمس وأربعين دقيقة تقريبا.
تضمن عنوان العرض (وين رايحين؟) سؤال عصف في ذهن المتلقي، وأن عليه -أي المتلقي- الإجابة عن هذا السؤال، انه ليس سؤال شخصي بقدر ما هو سؤال جمعي، يمكن صياغته بالاتي: انتم الذين قرأتم عنوان العرض جميعا: إلى أين تتجه بكم الأمور؟ إنه سؤال/عنوان يزرع الشغف بمشاهدة العرض، ويثير توقعا بأن العرض سيكون شعبيا وباللهجة المحلية التي تجعل الشخصيات ومجمل مفردات العرض قريبة من روح ومدركات الجمهور وذائقته الفنية.
يفتتح العرض بتوزيع ظروف مغلقة على الجمهور، ويطلب أحد القائمين على العرض من الجمهور عدم فتح الظرف إلا بإيعاز منهم، وفي هذا اثارة للتوقعات ودفع للمتلقي باتجاه الانتظار والترقب. ومن هنا برز الخيط الأول في نسيج التواصل بين العرض والجمهور.
تفتح اضاءة الخشبة على منظر متكون من مجموعة كراسي موزعة بشكل منتظم، يجلس عليها نساء ورجال، يكتشف الجمهور بعد حين أن بعض الجالسين شخصيات حية، والبعض الآخر تماثيل تعود لشخصية (حامل التماثيل).
عُرِضَ فيديو عن بدايات العمل في العرض، التغييرات التي طالت الحياة الشخصية لبعض الممثلين وشيء عن سيرتهم الشخصية، إنهم جزء من هذا المجتمع ونالوا نصيبهم من الأحداث التي جرت في البلاد. بعد هذا التقديم تبدأ وحدات الفعل الدرامي:
الوحدة الاولى: يقدم العرض ثلاث شخصيات الرجل (حامل التماثيل) والمرأة الشابة، والمرأة الكبيرة (الأم) ينتظرون بملل على الكراسي، يسأل الرجلُ (حامل التماثيل) المرأة الشابة عن الوقت، أنها لا تعلم الوقت رغم امتلاكها ساعة في يدها، وتتهمه بالتحرش رغم أنه لم يفعل ذلك، تتدخل (الأم) لفض النزاع بطريقة تبسيط الأمر والتسامح مع شيء من المفارقات والكلمات الكوميدية، ومن خلال الحوار وردت معلومات الجمهور: أن الثلاثة موجودون منذ زمن طويل في هذه سيارة، يبدو أنها توقفت، يجهلون أسباب توقفها، بل انهم يجهلون الى اين هم ذاهبون. تبقى مسألة التعرف على الوقت محور حواراتهم، فلا أحد منهم يعرف الوقت الآن، ولا متى يصلون الى وجهتهم التي لا يعرفونها.
يدخل السائق بمظهر وسلوك يشبه إلى حد ما سائقي سيارات النقل الجماعي المحليين، الذين يلتقيهم الجمهور في الشوارع، يخبرهم السائق بوجود ثقب في خزان الوقود دلالة تسريب الطاقة والثروة وفقدانها، يبوحون بمعلومة فيها شيء من التورية: (السيارة لا تشبه أي سيارة أخرى، لقد سارت سبعة الآلاف سنة) إنها ليست سيارة، انها ارض حضارة موغلة بالقدم.
الوحدة الثانية: يطلبون من السائق تشغيل راديو السيارة، تتقاطع الآراء حول ماذا يسمعون أغاني أم قرآن ام اخبار؟ وبعد جدال تحدث المفارقة الكوميدية عندما يخبرهم السائق بأن الراديو عاطل، ولكنه بعد حين يخرج ويشغل الراديو لإذاعة أخبار تشير إلى حقب من تاريخ العراق بداية من تأسيس الجمهورية في ١٤ تموز وتواريخ اخرى تشكل تحولات في تاريخ العراق.
الوحدة الثالثة: يمنح السائق نفسه شرعية السلطة على الثلاثة (الرجل والمرأة الشابة والمرأة الكبيرة) بقوله: (أنا من يقودكم) وهو في الحقيقة لا يقود الناس، إنما يقود السيارة. ولكن هذا الفهم الخاطئ للقيادة واستسلام الشخصيات الثلاثة له، جعلته يشترط عليهم العمل على تسليته، بأن يسرد حكاية كل منهم حكاية تؤنسه، لكي يتمكن من اصلاح السيارة.
حكاية المرأة (الأم): فقدت الولد والزوج بالحرب وبقيت وحيدة حتى انها صرخت: (يمه … شوكت نوصل لبر الأمان) وكان لصرختها صدى قوي لدى الجمهور الحاضر.
حكاية الرجل (حامل التماثيل): تضمنت رمزية عالية، لقد فقد جميع ذويه واستبدلهم بتماثيل بلا حياة، حتى ان حبيبته تركته لأنه مصاب بمرض السرطان نتيجة الإشعاع الذي طاله من الحرب.
حكاية المرأة الشابة: تتذكر أغاني الطفولة، وما يكتب في الصف المدرسي خلال الثمانينات من القرن الماضي، وما يحمله من ترميزات وإيحاءات عميقة تنأى به عن المباشرة، يكشف ذلك من خلال عودة المرأة الشابة إلى طفولتها بإجراء تحولات أدائيّة بالصوت والإلقاء والسلوك، ووقوفها أمام السبورة، وتتداخل الحقب في عقلها، تكتب بالطباشير (٢١) و (دا) لتقدم معادلة الواحد وعشرون سنة الماضية والدار التي هَجّرَها منها إرهاب داعش، انها شابة من الطائفة الايزيدية تعرضت لاعتداءات جسدية وعنف خلف لديها عقدة من الرجال، مما يبرر اتهامها للرجل (حامل التماثيل) بالتحرش.
من خلال سرد الحكايات أفصحت شخصيات (المرأة الأم وحامل التماثيل والمرأة الشابة) وجسدت ماضيها وجوهر انتمائها، لقد عمل المخرج على بناء شخصيات الثلاثة بالتوجهات نفسها من حيث كونهم ضحايا الأزمات والحروب والحصار التي تعرض لها المجتمع.
الوحدة الرابعة: يستمر السائق سادرا في غيه، لدرجة انه يرغب بمشاهدة امرأة ترقص، المرأة الأم تصدمه عندما تعلن أنها لا تعرف الرقص، انها تعرف اللطم، يُفّعِل المخرج ومصمم الديكور (الداتا شو) و يؤثث المشهد بالصورة الحاضرة في وجدان المتلقي للأبد بظهور (وثيقة) لوحة شهداء قاعدة (سبايكر) التي تثير مشاعر الحزن العميق والغضب العارم على الإرهاب وقواه الظلامية.
الوحدة الخامسة: السائق يظهر في تسجيل فيديو، يخبرهم بكل ود وبساطة وكأنه يقدم خطابا لشعبه الحاضر في قاعة العرض: (أن الطريق لن ينتهي) ثم يدخل السائق إلى المسرح ليعلن أن السيارة مغطاة بالظلام لتبدأ المرحلة الاقسى (دخول داعش)
لقد سعى المخرج والمصمم على تقديم وثائق واضحة عبر عرض الصور والفيديوهات لغرض اختزال الزمن، والتقليل من الحوار والسرد، وبقصد الحصول على وقع أقوى على الجمهور وكسر الاندماج بالاحداث، وفي هذا مقاربات من المسرح الوثائقي الذي اسس له (ارفين بسكاتور) الذي يعتقد بعدم الاكتفاء " بعرض الاحداث الفردية بل يتخطى ذلك إلى تحليل انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية، والى تقرير كافة الوقائع التاريخية المتصلة بها بشكل ينقل الصورة (الدرامية) إلى الحدود والافاق الملحمية، وذلك من خلال اكساب العرض المسرحي الطابع القصصي الوصفي مع اللجوء إلى الوسائل التوضيحية (كالمعلقات واليفط، والبيانات، والشرائح الزجاجية، والأفلام التسجيلية) لربط الأحداث التي يجري عرضها بأحداث التاريخ القريب والبعيد "(١) وتأكيدا لهذا النهج بدأ العرض بكتابة على الشاشة، وعرض صور وافلام تمثل حقبة النظام الدكتاتوري والحصار على الشعب وسقوط بغداد بيد الاحتلال ٢٠٠٣، والتهجيرات وكابوس الطائفية وتفجيرات الإرهاب الدامية وعملية الانتخابات الديمقراطية، وانتهى العرض بكتابة على الشاشة.
من السمات الجمالية للعرض المسرحي الملحمي هو الحكي المباشر مع الجمهور، والمشاهد القصيرة الكثيرة والحكاية داخل حكاية، وعدم جعل الموسيقى عنصر مساعد على اندماج الجمهور مع العرض، وجميعها توفرت في هذا العرض بوضوح، حتى أن منفذ المؤثرات الموسيقية جلس على الخشبة، واصبح محاورا حينما جعل الآلات الإيقاعية تنطق بوضوح بالرفض والقبول والتأكيد والنفي، يضاف إلى عزف الايقاعات الحي
الإطار العام لحكاية المسرحية: ثلاثة مسافرين في سيارة يصيبها عطل يؤدي إلى توقفها في طريق لا تعرف له بداية ولا نهاية، تنبثق من هذه الحكاية حكايات لكل شخصية من الشخصيات الثلاثة، يجمعها قاسم مشترك هو: أن الثلاثة يتعرضون لظروف قاسية عمت المجتمع، ويتصدى كل منهم لهذه الظروف للمحافظة على حياته وحياة من يحب، أنهم ضحايا الحرب والحصار الاقتصادي والاحتلال وغزو (داعش) ثلاثتهم فقدوا أحبتهم.
وقد استند الممثلون في أدائهم إلى مقولة (برتولد بريخت): " يجب أن تكون علاقة الممثل بالجمهور حرة ومباشرة تماما، انه يريد فقط أن يعلن عن شيء ما ويقدمه إليه، عليه فموقف إنسان مجرد ان معلن ومقدم يجب أن يصبح اليوم أساس كل أفعاله "(٢) واقتربت الشخصيات/المؤدون من روحية الجمهور كثيرا بتوجيه الحوار المباشر، وطرح الاسئلة، وحتى في لحظات التوتر وتصاعد الصراع حافظ المؤدون على طريقة الأداء التقديمية، حتى أن حدة انفعالات الشخصيات التي برزت في المشهد الأخير (دخول الأمير الداعشي ومساعده والتهديد بالقتل بالسيف وما رافقه من خوف وفزع، حتى هروب أمير داعش بثياب النساء) كان الأداء خارجيا ولم يصل إلى حد تشنج المؤدي وإطلاق الصياح والصراخ، انه اشارة واضحة على تمكن جميع المؤدين من ادواتهم، وإظهار قدرتهم على تقديم الشخصيات. علما ان الممثلون ( لؤي احمد، زهرة بدن، طلال هادي، لمياء بدن، اياد الطائي، امير احسان) قدموا أكثر من شخصية، وتنقلوا بالشخصية الواحدة عبر الحقب الزمنية، مما يستدعي تحولات في عمر الشخصيات وأبعادها الجسدية والنفسية يتناسب مع الحقب المختلفة.
أضيفت مفردات متحركة للمنظر ذات بعد دلالي رغم بساطتها وانسيابية دخولها وخروجها، انتقل المشهد إلى صف مدرسي، وسيارة نقل عام نوع (تاتا)، وواجهة بيت المرأة الشابة وقد أسهم الفعل الدرامي في نقل أجواء التحولات المكانية.
الصراع في عرض (وين رايحين؟) متغير المحاور، يدور الصراع في بداية الغرض بين قطبين الشخصيات الثلاثة (حامل التماثيل، المرأة، الأم) من جهة، ومن جهة اخرى السائق المتلون الذي تسلط عليهم بقيادات الرعناء للسيارة الخربة، ويظهر ميله بلا خجل ولا وجل مع المتغيرات السياسية ويستمر الحروب، حتى انه يشي بالثلاثة عندما تغزو قوى الظلم والظلام البلد تملقا. ثم يتحول الصراع بين الثلاثة وهذه القوى الظلامية لينكشف معدن الثلاثة النقي من تضامنهم وتضحيتهم لبعضهم ووقوفهم إلى جانب بعضهم حتى لو دفع أحدهم حياته مقابل حماية الآخر/ين، يثير حماسة المتلقي ويعزز انتمائه للمجتمع واعتزازه بالوطن. ذلك أننا "عندما نحلل الصراع في احدى المسرحيات نكشف اولا اي جانب من الواقع قد عكسه ذلك الصراع، سنبحث عنه في نضالات وأفعال الابطال القوية بعد أن نعود ثانية إلى العموميات لكي نثمن: في اية مشكلة من هذه المشاكل يكمن ثراؤه وعمقه الفلسفي"(٣) وعليه يكون صراع الثلاثة ضد السائق وكل من انتهكهم ليس حالة خاصة، بل إنهم يمثلون حال العموم الاجتماعي في صراعهم ضد كل من يوقف ويعطل عجلة الحياة.
بعد مرور أقل من ساعة من زمن العرض (ظهور داعش) ادرك المتلقي ما ستؤول إليه الأحداث، ولكن الشغف بالمتابعة والتشويق للآتي ظل حاضر بفعل الأواصر التي نسجها الإخراج والتمثيل مع المتلقي لمعرفة مآلات الاحداث على وفق الصورة الدرامية الجمالية.
ظهرت كتابة على الشاشة توعز للمتلقي بفتح الظرف الذي تم توزيعه في بداية العرض وقراءة المكتوب في الورقة، ليكتشف أنها تتضمن شيئا من العرض اسماه المخرج بالمشهد المفقود، وهو حوار بين اثنين من الملثمين والأم، وقد عرفها احدهما بانها الخالة فطم، وكانوا يسكنون في نفس الزقاق (المحلة) مما دعا الملثم لتركهم يستمرون في رحلة البحث عن وطن داخل وطنهم، بحسب التعبير الوارد في الورقة. وقد ترك المخرج لخيال الجمهور بتصور هذا المشهد، الذي ربما سمع او شهد الكثيرون أحداثا مشابهة له. وفي هذا حرض على مشاركة المتلقي في رسم صورة جزء من أحداث العرض.
لم يقدم العرض اجابة محددة لسؤال: (وين رايحين؟) بل عمل المخرج على عرض الأسباب التي أدت إلى فقدان بوصلة تحديد الاتجاه، وأفضت إلى حالة التيهان الذي يحاصر الشخصيات، ومن ثم الانطلاق لمعرفة (إلى أين تتجه الأمور؟) بفعل درامي انتظم خلاله الممثلون بخط واحد واتجهوا إلى مقدمة خشبة المسرح ليقولوا بصوت واحد: (نحن من نختار طريقنا لنعرف وين رايحين …) يرفعون الكراسي للأعلى، دلالة على رفض للبقاء في كراسي الحافلة، كسر الكراسي المهيمنة، عدم الركون للجلوس والصمت بعد اليوم … ترك المخرج (حيدر منعثر) تأويلها للجمهور، بدعوة تحريضية مفتوحة على فعل التغيير الذي يجب أن يبدأ من تعليم الأطفال أن يكونوا احرار.
رفع العرض شعار (تعالوا نحب من جديد … مسرحنا) وقدم المخرج (حيدر منعثر) وفريق العرض الممثلون لؤي احمد، زهرة بدن، طلال هادي، لمياء بدن، اياد الطائي، امير احسان، مصمم الديكور عقيل عبد علي ومصمم الإضاءة عباس قاسم والتقنيون ضربوا مثلا طيبا بالحرص الفني على تقديم عرض مسرحي يتوافق مع/ ويعمل على تنمية ذائقة الجمهور بمختلف شرائحه، فكانت النتيجة تحية جميلة وتصفيق استمر طويلا.
***
ا. د. حبيب ظاهر حبيب
......................
1. سعد اردش: المخرج في المسرح المعاصر، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، مطابع الرسالة، 1979، ص 197.
2. برتولد بريخت: نظرية المسرح الملحمي، ترجمة جميل نصيف، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1973، ص 193.
3. سينيثيا يانوفا: نظرية الدراما، ترجمة: نور الدين فارس، بغداد، وزارة الثقافة، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة، ٢٠٠٩، ص٢١٠.