قراءات نقدية
زهير ياسين شليبه: ما بين روايتَي: "الصخب والعنف" و"ظلال على النافذة"
أنا وغائب طعمه فرمان، من ذكرياتي الشخصية عنه!
بالنسبة لرواية "الصخب والعنف" للأميركي وليم فوكنر، فقد استعرتها من غائب ط. فرمان، وتحدثت معه بعد قراءتها، فإنه أكّد عدم إعجابه بأعماله لكنه لم ينكر رغبتَه في الاطلاع على أسلوبه، وتأثرَه (ليس بالضرورة المباشر) بتكنيكه كما يبدو ذلك واضحًا من الشكل البوليفوني الذي حاولَ اعتمادَه لبناء روايته الثانية “خمسه أصوات”. ويُعد الروائي المصري فتحي غانم (في حدود معلوماتنا القديمة المنتشرة في صحافة الثمانينات) أول من استخدم هذا الشكل في روايته “الرجل الذي فقد ظله”(1)، ثم حذا حذوه فرمان، ومن بعدهما ظهرت رواية “شرق المتوسط”(2) لعبد الرحمن منيف، و”البحث عن وليد مسعود” و”السفينه”(3) لجبرا إبراهيم جبرا، و”أصوات”(4) سليمان فياض، و”الرجع البعيد” لفؤاد التكرلي. ولا يعني هذا أن كل هذه الروايات متشابهة في بنيتها وشكلها الروائي مع “الصخب والعنف”(5) تشابهًا كبيرًا أو متأثرة بها تأثرًا مباشرًا، علمًا أن هذه الفكرة كانت متداولةً في صحافة السبعينات الأدبية العربية قبل ان يقولها اي ناقد عراقي بحد اته.
أما من ناحية "الأجواء" والأسلوب فنلاحظ أن روايات جبرا إبراهيم جبرا و(فؤاد التكرلي إلى حدما) أكثر "التقاءًا" مع عالم فوكنر بسبب توجهاتهما الأدبية واهتماماتهما باللغة والعالم الداخلي للإنسان.
إنّ كلَّ ما يقرأه المبدع يبقى في عقله الباطني وإدراكه الداخلي ويمكن أن يستوحيه في أعماله بدون وعيه. وإني أعرف أن غائبًا لم يكن يميل إلى هذا النوع من الروايات المعقدة، أما قراءتها بالإنجليزية فلا بد أنها ستكون أصعب. وأعلم أيضاً أنه كان يبحث عن مضامينَ عراقية جديدة "لنضوب" ذاكرته بعد إصداره أربع روايات مكرسة لتجاربه الشخصية، وسمعتُ أنه اعتمد في ذلك على بعض أصدقائه المقربين، وسألته عن هذا الأمر، فأجابني مبتسمًا كعادته بأنه يستمع، لكنه يدقق كل شيء.
"ظلال على النافذة" مكرّسة لموضوعة اجتماعية: مشكلة عائلة عراقية صغيرة بأسلوب واقعي ممزوج بأليغوريا "بسيطة" وعظية كما يبدو من أسماء أبطالها التي تدل على حالها وطبيعتها ومكانها في المنظومة الروائية، أما "الصخب والعنف" فإنها لا تصور تفكك أسرة عادية فحسب، بل انهيار سلالة عريقة تمثل شرف الجنوب، أضطر الكاتب فيما بعد إلى شرحها بالتفصيل لصعوبتها، في ملحق خاص مهم لطبعة جديدة للرواية.
وهذا وحده كافٍ لتوضيح الفرق الكبير بين الروايتين! ولنفترض أنه يمكن ملاحظة بعض التشابه الطفيف بين شخصيات هاتين الروايتين مثل كوينتن وبنجي وجاسون وكادي وماجد وفاضل وشامل وأختهم فضيلة وحسيبة زوجة فاضل، التي هربت من العائلة بسبب سوء معاملة أفرادها لها باعتبارها بلا حسب (لاحظ أن اسمها حسيبه)، فهي لا تشبه كادي، التي فقدت بكارتها بدون زواج وتهرب من عائلتها(6).
يتميز فوكنر بغموض سرده عن شخصياته وتقديمها من خلال لغاتها المتعددة المستويات وبتكنيك معقد يصعب فهمه، ولغة مثقلة بجمل وعبارات تصور انتقالات الزمان والمكان والهرونوتوب يجعلها عصية الفهم، ولهذا يصعب تقبل فكرة مقارنتها بروايات غائب فرمان الواقعية والصريحة والبعيدة عن التعقيدات. إنهما من مدرستين مختلفتين تمامًا. يكفي أن نذكر أن فوكنر شُهر بكتابة أطول جمله روائيه 1200 كلمة!
لنأخذ مثلاً بنجي المتخلف عقليًا، فهو غريب الأطوار يتواصل مع الآخرين من خلال الشكوى، يقدّمه فوكنر في فصله الأول المكرّس له بلغةٍ تعكس مستوى عائقِه الكبير، حيث لا يستطيع تمييز الحاضر عن الماضي، فهو يروي كلَّ أحداث الماضي قبل 30 سنة كما لو أنها تحدث حاليًا، بحيث يحصل الانتقال الزمني دومًا، فيبدو ذلك واضحًا حتى في الجملة الواحدة.
إنه معتوه غير قادر على أي شيء، لذلك لا يمكن مقارنته بفاضل الشاب النجار الطيب لمجرد أنه بسيط وأن زوجته تركته لسوء معاملة أهله لها، ولم يحدث مثل هذا التعامل مع الزمان في "ظلال على النافذة".
والأب عبد الواحد ليس بمستوى كومبسن فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا ولا حتى مجتمعيًا، ولا يائسا أومدمنًا، بل هو إنسان يعاني من الناستولجيا يبحث عن حبه القديم وكنّته حسيبة (المجهولة الحسب عكس كادي العريقة)، والتي لم تهرب لتبيع الهوى مثل كادي.
كونتن أراد أن "يسترَ" أخته كادي لفقدها عذريتها بلا زواج، ولهذا يدّعي أنه هو من قام بذلك ليحفظ شرف العائلة كلها قبل أن ينتحر، وطبعًا لم يصدقه والدُه. كونتن رمز أليغوري يجسد أصالةَ العائلةِ وسلالتَها العريقة، لهذا تسمي اختُه كادي طفلتَها (اللقيطة) التي تحملها خارج العلاقة الزوجية، باسمه (كونتن) الذي يتكرر في العائلة.
فالجنس هنا ليس رمزًا عاديًا فحسب، بل أليغوريا عميقة للغاية تُجسّدُ صراعَ الشمال والجنوب، تم تصويره بلغة لا يمكن مقارنتها ب "ظلال على النافذة" لعدم وجود هذه الفكرة رغم بعض الإيحاءات.
أما ماجد فإنه اسم على مسمى، بطل إيجابي (وعظي إلى حد ما) عكس أخيه شامل، غير محبط ولم يفكر بالانتحار مثل كونتن ولم يمارس "سفاح المحارم" ولم يقل ذلك ولم يطرح هذه الفكرة او حتى الرمز العادي، بل تعاطفَ مع زوجة أخيه حسيبه رغم تلميحاته عنها في مونولوجاته متذكرًا صديقته القديمة زهره.
إنه الأخ الثاني، شامل (اسمه يدل على سلوكه الوصولي) هو الذي حاول أن يختلق علاقةً جنسيةً بين الأخ الكبير ماجد وزوجة أخيهما الأصغر فاضل في مسرحيته الفاشلة ويعيد فلسفة العلاقة العائلية.
وهناك من رأى أن شخصية شامل مفتعلة أو دخيلة وأن الروائي أدخلها بإيحاء من أحد المقربين منه، أو مُستوحى من شخصيةِ كاتب. وبالتأكيد لو طُرحتْ هذه الفكرة أو المعلومة على غائب، لاكتفى بابتسامته المعهودة، أو لأنكرها قائلاً: "لا تصدق"، ولهذا لا أتذكر أني استفسرتُ منه عن هذا الأمر، ولأنه أيضًا غير مهم.
أما جاسِن الذي يعكس التغيرات الاقتصادية والرأسمالية والمجتمعية الهائلة في الشمال والجنوب، فلم يصل شامل إلى مستواه من الانحطاط رغم سلبيته، إذ إن المجتمع العراقي لم يُوصف وهو ينحدر إلى مثل هذه الهاوية في "ظلال على النافذة" كما هو الحال في "الصخب والعنف"، وأن غائبًا لم يستطع تصويره على هذه الشاكله لأسبابه الخاصة ولكونه أسيرَ الحنين والناستولجيا، ولهذا نلاحظ أن بطل الرواية ماجد إيجابي رفض كلمة "إحباط" التي يكررها أخوه الصغير شامل.
وقد رددَّ بعض معارف غائب ط. فرمان وقرائه فكرةَ أنه لم يحالفه الحظ في انتقاد المجتمع العراقي و"فضح" قوى الشرّ فيه، ونقل لي الكاتب نفسُه هذا الرأي به منزعجًا، كذلك تضايق من وصف جبرا إبراهيم جبرا لأسلوبه "بالأسود والأبيض".
وليست فضيله مثل دلزي الخادمة الزنجية المؤمنة القوية الشكيمة، والأم كارولينا المعتدّة بنسبها وعِرقها والمؤمنة القدرية، رغم مرضها وإحباطها، لكنها حاضرة، فهي أيضًا لا يمكن مقارنتها بوالدة ماجد الغائبة.
لهذا السبب، أنا قلتُ عنها: إنها تشابهات طفيفة ولم أتعمق بالفكره ولم آخذ بها أصلاً على عكس ما أساء بعضُهم الفهم، وشخصنَ الأمر مع الأسف الشديد. أما إذا أردنا المقارنة من أجل المقارنة بأي ثمن فيمكن تناول العديد من الروايات من هذا المنطلق، بخاصة تلك المكرّسة للعائلات. أنظر: كتابي: غائب طعمه فرمان. دراسة نقدية مقارنه، دار الكنوز الأدبية 1996 بيروت ص 268
يمكن مثلا، ومن هذا المنطلق التبسيطي "مقارنة" شخصيات "ظلال على النافذه" ب"مذلّون مهانون1861" لدوستوييفسكي1821-1881 بطريقة قد تبدو "ساذجة": ماجد بالراوي الكاتب الطيب إيفان بتروفيتش (فانيا)، شامل الوصولي بالأمير المحتال الأب فولكوفسكي، فاضل بأليوشا، حسيبه بناتاشا، وعبدالواحد بوالد ناتاشا نيكولاي أخمينيف، أم ناتاشا بزوجة عبدالواحد، وفضيله بالخادمه مارفا!
ويمكن أيضًا عمل الأمر نفسه مع "الصخب والعنف" بطريقة معقولة أكثر، لا سيما وأن فوكنر أعجب بدوستوييفسكي كثيرًا: كونتِن بالراوي إيفان رغم أن الثاني غير محبط، والمصرفي سيدني هربرت هيد وجاسِن بالأمير الوالد فولكوفسكي، عشيق كادي الأول دالتون أميس الذي فقدت معه عذريتها بالأمير ألكسييه (أليوشا)، وكادي بناتاشا وببنت سميث (أم نيللي) التي هربت إلى باريس مع فولكوفسكي سارق أموال والدها، ونيللي المتسولة، حفيدة سميث بالبنت الإيطالية الفقيرة المتسيبه في الطرق التي يلاقيها كونتن صدفةً في الشارع ويساعدها فيتصورونه يتحرش بها، وكوبسن الأب بوالد ناتاشا رغم الفارق الشاسع بينهما، والسيده كارولينا بوالدة ناتاشا والخادمه الزنجية دلسي بنظيرتها الروسية مارفه.
كذلك، يمكن مقارنة "مذلّون مهانون" ب"بائعة الخبز" 1889 للفرنسي كزافييه دي مونتابين 1823-1902 إذ إنهما تنتهيان بحبكة متشابهة حيث تنجلي الحقيقة صدفةً: في (مذلون مهانون) من خلال رسالة لدى حفيدة سميث (نيللي) تتضمن اعتراف والدتها بأبيها الحقيقي الأمير فولكوفسكي، الذي ينكر أبوّتَه لها، وفي (بائعة الخبز) الرسالة مخبأة في لعبة طفلها القديمه.
ونلمس تشابهًا بسيطًا في شخصية ويلي لومان عند آرثر ميلر وعبد الواحد من حيث رغبتهما في حماية البيت والحفاظ على وحدة العائلة وتماسكها، بل إن “النخلة والجيران” يتجسد فيها أيضا هذا المضمون، لكنها أوضح بكثير في "المخاض" وتصل إلى درجة تأثّر حقيقيٍّ لم ينكره غائب ط. فرمان، كما أشرتُ في كتابي عنه.
أخيراً، نشير هنا إلى أن الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني أقرَّ بإعجابه برواية "الصخب والعنف" وتأثيرها الإيجابي في أدبه. كان ذلك في نهاية الستينات، قبل اغتياله. وأشارت الدكتورة رضوى عاشور إلى هذا الأمر في الصحافة قبل إصدار كتابها عن الراحل غسان كنفاني. أنظر:
- د. رضوى عاشور. الطريق إلى الخيمة الأخرى. دراسة في أعمال غسان كنفاني. بيروت، دار الآداب 1981، ص85-86
- الدكتور حبيب بولس. نقاط الالتقاء والابتعاد/ التشابه والاختلاف بين رواية: "الصخب والعنف" لفوكنر ورواية "ما تبقى لكم" لكنفاني. الحوار المتمدن. وهناك دراسات أكاديمية باللغة الروسية للباحثين ن. يو. مُرادوف و أ. ل. سافتشينكو مكرسة لهذه المقارنة سنتوقف عندها في مقال آخر.
***
د. زهير ياسين شليبه
.................................
(1)- فتحي غانم. الرجل الذي فقد ظله. القاهرة. 1961. أربعة أجزاء.
(2)- عبد الرحمن منيف. شرق المتوسط. بيروت. 1979.
(3)- جبرا إبراهيم جبرا. البحث عن وليد مسعود. بيروت. 1978، وانظر السفينة. بيروت. 1979. ط2 الطبعة الأول 1970.
(4)- سليمان فياض. أصوات. بيروت (تاريخ الإصدار غير موجود لدينا).
(5)- وليم فوكنر. الصخب والعنف. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بغداد 1961.
(6)- غائب طعمه فرمان. ظلال على النافذة. بيروت. 1979.