قراءات نقدية
صالح الرزوق: الكولاج في روايات قصي الشيخ عسكر
قدم لنا قصي الشيخ عسكر في الآونة الأخيرة مجموعة أعمال أطلق عليها 3 صفات.
أولا: أنها رواية قصيرة أو رواية جيب (بمعنى أنها مضغوطة، ويذكرنا ذلك بالخلاف المستمر حول معنى وشكل القصة القصيرة جدا والضمانات التي يجب أن تقدمها لتدخل تحت مظلة هذا النوع).
ثانيا: أنها مهجرية. وهو تقريبا لا يكتب إلا عن شخصيات تتحرك وراء حدود بلدها الأم، وتتوزع على مجال واسع يبدأ من لبنان في شرق المتوسط وحتى المغرب في شرق الأطلنطي، وينتهي أو أنه يصل إلى الدانمارك وإنكلترا - في شمال القارة العجوز. (ولا يخلو ذلك أيضا من مشكلة يفرضها الأسلوب. فالمهاجر يحتاج لبنية اغترابية، لكن في كثير من الأحيان يبدو عمل الشيخ عسكر وكأنه رواية أوروبية يتخللها دور بسيط لشخص عربي. وإذا كان لا يوجد عيب فني تبقى مسألة العواطف والهوية الوطنية بحالة التباس. حتى أنه يصعب عليك أن تعزل المعاني التي تتداخل مع تطور المعايشة وشبكة العلاقات). ويزيد من غموضها أن الشخصيات في معظم الأحوال ثنائية أو ثلاثية الجنسية. أو أن أبناء الجيل الثاني من زواج مختلط وتجري في عروقهم دماء هجينة. ويضاف لذلك طبيعة البلد المضيف (هل هو عربي أم أنه أوروبي). ولكن غالبا ما يكتب الشيخ عسكر عن السفر الطويل إلى بلد عربي من أجل الدراسة بنفس الطريقة التي يتناول بها مسألة اللجوء إلى أوروبا والدخول في وحل الواقع (ويكفي أن تقارن روايته "الرباط" مع رواية "علاء الدين"). حتى أن شخصيات الأولى تبدو مستهترة وعدمية أكثر من أبطال "ضياع في سوهو" لكولن ولسون. وينطبق نفس الشيء على "المقصف الملكي" (وهي عن مهاجر عراقي يضيع في شوارع وفنادق بيروت). وفي مجمل أعمال الشيخ عسكر أخلاق انفصالية، يكاد ينفرد بها عن كل أبناء جيله. وينسحب ذلك على روايات الواقع المحلي مثل "نهر جاسم"، فهي وإن كانت عن قرية تتبع قضاء البصرة، لكن شخصياتها نصف أسطورية، وتتعايش مع واقع تخلف سحري يعيد إنتاج قرى ومدن جنوب أمريكا. وكأن الرأس الذي تحمله هذه الشخصيات في عالم، وبقية جسمها في عالم آخر. وتقدم "قصة عائلة" تفسيرا واضحا لهذا الاغتراب القسري حينما تجعل الحياة النفسية للشخصيات في خلاف مع تاريخ المرحلة، مثل حكم الأقلية للأغلبية، والصراع على الأرض، والحرب بين الأجيال وسوى ذلك.
أما الصفة الثالثة: فهي الرواية الكولاج. ومن أهم أمثلتها روايته "أنا والشبيه" وتدور حول سيرة ومعاناة صديقه الدكتور صدام فهد الأسدي، ومؤخرا روايته "هو الذي منحني يدا" وهي عن سيرة أخيه الخطاط أسعد. ومنذ البداية تلاحظ الهم الاجتماع سياسي على الروايتين. فكلتاهما تصور شخصية اغترابية ليست منسجمة مع فروض الولاء والطاعة التي يضع النظام شروطها الأمر الذي يؤدي لانطواء بطل الرواية على نفسه، وقد تفرع من هذه النقطة أيضا أمران.
الأول التركيز على الحياة السرية والداخلية بسبب الارتياب والخوف وتحويل نشاط الشخصيات من الفعل والحركة إلى التراكم والصمت. بمعنى تنشيط الحياة النفسية على حساب النشاط الاجتماعي العادي.
الثاني اختلاء المكان بالشخصيات. وهذه هي إحدى أهم اختراقات الرواية الجديدة التي انتشرت في فرنسا بعد نهاية ثاني حرب عالمية. وأقصد أن المكان يستوعب شخصياته وليس العكس. فالشخصيات لا يكون لها أي دور حقيقي في ترتيب البيئة الحاضنة لها، لا البيت ولا الشارع ولا حتى مكان العمل ونوعه. وهذا تحصيل حاصل بسبب الترتيب الهرمي والمتناوب للبنية. فالعقل المدبر يشبه إلها كلي القدرة - وهو الطاغية المتواري عن أنظار العامة. ثم يأتي مسرح الأحداث، وكل شيء فيه يكون تحت رقابة صارمة لا تختلف عن الأجواء البوليسية في رواية "نحن" لزامياتين. وأخيرا أبطال العمل، وهؤلاء مسموح لهم بالنشاط السلبي الذي يتلخص بتلقي الأوامر وتنفيذها بدون أي نقاش أو تفكير. ومثل هذه البنية أوديبية بامتياز، لكن أفرادها من بين العاقل وغير العاقل، وهم: أب/ إله، وأم /مكان (مدينة أو بيت)، وشخصيات / أبناء. وربما يزيد من ضراوة الجانب الدرامي تعدد هؤلاء الأبناء - الشخصيات لأن ذلك يهيء الجو للتناحر على الأم فيما بينهم، علاوة على الكيد للأب.
وأعتقد أن قصي الشيخ عسكر قد أجاد في إدارة خيوط الأزمة، فقد ضمن لشخصياته مساحة من الوعي والحرية، وبذلك ساعدهم على إدراك واقعهم الاجتماعي المحكوم بظرف سياسة قهرية. وإذا خلت الرواية الجديدة من هذا الهم - محاربة الإدارة السياسية لشؤون المجتمع - فهي لا تخلو من مشكلة أصعب تتمثل بالاختلاف مع القيود الدينية - ضمنا الدين الاجتماعي وليس الأرواحي فقط. وهو مبدأ أساسي لدى مارغريت دوراس في روايتها المتميزة "العاشق". بتعبير آخر لم تجد الرواية الأوروبية مفرا من احتجاز تاريخها السابق وراء العازل الوجودي من أجل تحقيق هدفها المستدام، وهو تحرير طاقات الواقع وكائناته كلها.
نعود لموضوع الكولاج
ويفهمه الشيخ عسكر على أساس أنه لوحات متوالية ومتجاورة تغطي حياة بطل روايته. ففي "أنا والشبيه" لجأ إلى أسلوب مركب أو بنية تكوينية استعمل بها ضمير المتكلم و طريقة الإنشاد، ولذلك كانت قريبة جدا من المونولوج الدرامي كما فعل هاملت في مخاطبة روح والده المتوفى. بتعبير آخر عكس الأدوار، وجعل الشخصية تتكلم والراوي يستمع، ومع ذلك لم يقلل أو يستخف بدور الراوي، وحوله إلى ملقن أو لجهة تملي على المتكلم أقواله، وذلك من خلال الانتقائية التي اتبعها.
وفي "هو الذي منحني يدا" يعيد تركيب سقوط بغداد وانهيارها من خلال المقارنة بين حياة ابن مقلة من القرن العاشر ومخترع خط الثلث، مع حياة أخيه الخطاط أسعد. ويلاحظ نوع من التوازي العجيب بين الاثنين، فكلاهما يتعرض لضغط سياسي، وكلاهما لديه شخصية نرجسية وذات متورمة، أو فائض صوفي من الليبيدو الأخلاقي، ويتحول ذلك بالتصعيد الفرويدي إلى إجادة لفن الخط والشعر بنفس الوقت. وكأن الاثنين طوران من حياة شخصية مستمرة وواحدة. وكي لا تختلط الأوراق يساعدنا الشيخ عسكر بلعبة فنية بسيطة، فيختار لابن مقلة صيغة المخاطب مع عنوان متكرر وهو "رقعة"، ولكن يختار لأسعد صيغة المتكلم. وباعتقادي أن هذا الاختلاف يعود أيضا لبعد زمن الشخصيات عن زمن الكتابة. ومهما كان السبب الموجب لا يدعم نصه بوثائق خارجية - أو إضافات وماكياجات من خارج السرد كما هو حال روايات صنع الله إبراهيم والتي يصل أسلوبها لدرجة ترتيب أوراق وبيانات مبعثرة. ويدفع هذا التكنيك إلى الدرجة الحرجة في رواية "ذات". وجدير بالذكر أنها مرثية لمصير ومستقبل مصر التحرري، مع هجاء مر ومؤلم لمساوئ وانحرافات سياسة الانفتاح. وأهم إنجاز لهذا العمل أنه يتخلى عن مفهوم البنية structure ويستبدله بالخطة plan كما يجب أن نتوقع من أي كولاج نموذجي. بتعبير آخر إنه تعمد أن يكون انتقائيا في كل شيء، ولا سيما في أخبار آخر ثلاث رؤساء توالوا على الحكم في طور الجمهورية الأولى، ودراما سقوط الطبقة المتوسطة التي أسسها ناصر وضربها السادات وألغاها مبارك. وهو ما تختصره حادثة ولادة ذات بطلة الرواية التي تنزلق إلى عالمنا ملوثة بالدم، ثم ترفع في الهواء مقلوبة رأسا على عقب، قبل أن تتلقى صفعة مؤلمة على إليتها (كما ورد في أول سطر من العمل).
وإذا كانت روايات الشيخ عسكر لا تخلو أحيانا من رسوم وأخبار وصور فهي ليست جزءا عضويا من العمل. بتعبير آخر هي بيانات وتوضيحات تأتي من فوق الحبكة. ولذلك لا تؤثر على تطور الأحداث ولكن تؤثر على طريقة إدراكنا لها. وهي مثل الخط الأسود أو المائل الذي تلجأ له روايات تيار الشعور للفصل بين المراحل والأزمنة.
وأفضل قراءة روايات الشيخ عسكر بالمقلوب. فهي من وجهة نظري رواية معربة. وينطبق ذلك على أعمال الداخل العراقي، فالنكهة المحلية خفيفة جدا. وفي "ربيع التنومة" على سبيل المثال، وهي رواية تسجيلية عن انتفاضة رمضان، تحتل ظلمات السجن السياسي وأساليب التحقيق الوحشية 90 بالمائة من حجم الأحداث، ويتوزع الباقي على شوارع وبساتين المدينة. وهكذا تبدو وكأنها حلقة من سلسلة طويلة عن السجن السياسي في الأدب العربي (مثل "الساحات" لسالم النحاس و"شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف). ولكنها تبتعد كثيرا عن ظاهرة "روايات بغداد" التي افتتح موسمها الثلاثي المعروف طعمة فرمان والتكرلي وغالب هلسا.
تبقى نقطة أخيرة تتعلق بمعنى الكولاج. حتى الآن لا يوجد حوله إجماع. ويمكن أن يشمل الرواية التسجيلية (ومنها أعمال صلاح عيسى) أو روايات السيرة (وهي نوع سردي نصف تحليلي والنصف الآخر صور ووثائق - من أمثلته "خريف الغضب" لهيكل). ويضاف لها مجموعة غير واضحة من المؤلفات التفاعلية والتي يتشارك في إنتاجها رسام وكاتب، أو كاتب وقارئ، وكلها لا تزال في طور التبلور والتحديث. ولا أرى أي مكان بينها لقصي الشيخ عسكر، اللهم إلا إذا نظرنا لكولاجاته على أنها خطوة للانفصال عن الحداثة التقليدية ودمج الأنواع وتأسيس نوع فني مستجد له جوه وشروطه، وقد استطاع أن يحقق ذلك وعن جدارة.
***
د. صالح الرزوق - حلب / سوريا