قراءات نقدية
يوسف علوان: النصوص الموازية في رواية بثينة العيسى
ارتطام لم يسمع له دوي
اهتمت الدراسات السيميائية، بدراسة العتبات التي تحيط بالنص وتسمى "النصوص الموازية" وهي: العنوان الرئيس والعناوين الداخلية، والإهداء، والرسومات التوضيحية، وافتتاحيات ومقاطع الفصول، وهذا الأمر قد عدته الدراسات النقدية الحديثة مفتاحًا مهمًا في دراسة النصوص الأدبية.
وكان لعنوان الرواية أهمية كبيرة في هذه الدراسات، فهو المفتاح الضروري لسبر أغوار النص، والتعمق في معانيه، والخوض في اسراره الخفية. وهو الأداة التي يتحقق بها اتساق النص وانسجامه، وبه تتكشف مقاصده المباشرة وغير المباشرة ايضا. وبالتالي، فالعنوان والنص، أحدهما مكمل للآخر، وبينهما علاقات جدلية وانعكاسية، وعلاقات إيحائية، أوعلاقات كلية أو جزئية. ولا يمكن مقاربة العنوان مقاربة علمية موضوعية إلا بتمثل المقاربة السيميوطيقية التي تتعامل مع إشارات العناوين، وذلك بوصفها علامات، أو أيقونات واستعارات ورموز . ومن ثم، فلابد من دراسة هذه العناوين تحليلا وتأويلا، لان العنوان يعتبر مفتاحا إجرائيا في التعامل مع النص في بعديه : الدلالي والرمزي.
من خلال هذين البعدين سوف نحاول قراءة رواية: "ارتطام لم يسمع له دوي" للكاتبة بثينة العيسى، والارتطام هو النتيجة الطبيعية لفعل "السقوط"، الذي ارادت ان تشير له الكاتبة في روايتها التي صدرت لها اكثر من طبعة منذ العام 2004.
العنوان يحمل حالة تناقض في مقطعيه الذين يتكون منهما: "ارتطام - لكن هذا الارتطام – لم يسمع له دوي" وهذا التناقض الذي يرمز له العنوان؛ يعني سقوطاً آخر - لان السقوط العادي يستوجب ارتطاماً مع حدوث دوي نتيجة السقوط - بينما هذا الذي رمزت له الكاتبة هو أكثر وقعاً وإيلاماً، ولكن لا نسمع له صوت! فنحن في بلداننا العربية، التي تخلفت عن بقية بلدان العالم. اصبح مواطنها الذي يسافر إلى بلدان العالم الاخرى لا يستطيع ان يجري – ولو بينه وبين نفسه – مقارنة بين حال تلك البلدان التي سعت ووفرت كل ما يحتاجه مواطنوها، وبين ما نعيشه نحن، لاننا مثل الذي يقارن الليل بالنهار، فكل منهم يجري في فلك! بينما غيرنا شملته نعمة التقدم وإن بنسب مختلفة!
ثيمة الرواية تتحدث عن مشاركة طالبة كويتية، في مسابقة علمية للطلبة لمعرفة آخر الاكتشافات العلمية، التي يدرسها الطلبة في جميع مدارسهم، وهذه الطالبة تعلم ان اختيارها في هذه المسابقة هو ليس لتفوقها على بقية زملائها، ولكن لنوايا استاذها البعيدة عن هدف هذه المسابقة، لذلك عند حضورها ومشاركتها في اعمال هذه المسابقة، تكتشف مدى تخلف التعليم في بلدها وبلدان المنطقة العربية على العموم، عما يدرسه الطلبة في بلدان العالم الأخرى، فتصاب بالذهول لفقر معلوماتها التي درستها! "وكأن أصواتهم تتلاقح، تتمخضُ ضجيجاً، وفد الصين، وفد فرنسا، وفد المكسيك، وفد فنلندا، ودولٌ لم أسمع بوجودها من قبل، أبدو بينهم كعشبة ضارة، الجميع - ربما- لا يراني إلا برميل نفطٍ وبلادة!.
هذا الاحساس بالدونية لم يأت من فراغ، فإهمال مسؤولينا في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية، جعلتنا نفغر أفواهنا دهشة لكل ما نشاهده عند هذه الدول، التي - اكثرها - لا تمتلك ما في بلداننا من ثروات وأموال مكدسة، لم تستغل في اسعاد مواطنيها، بل اصبحت سبباً للعذاب، وبقيت جوانب حياتنا؛ الصحية والتعليمية والعمرانية، في ذيل القوائم التي تصدرها بعض المنظمات العالمية، للمقارنة بين شعوب المعمورة، التي صرنا نحسب عليها عبئاً، ما الذي نتعلمه في مدارسنا، لم نزل نعيش في اوهام ماضينا الذي لا نرضى ان نودعه، حتى معارفنا هي لنا وحدنا، فقد هجرها الآخرون وباتوا يلاحقون التطورات العلمية التي تتجدد كل يوم: "الجميع ينصتون الى المحاضرة ويهزون رؤوسهم، يبدون كأنهم يتلقون معلومات يألفونها، وحدي اضيع في اللا أدري، يتضمخ وجهي عرقاً أحاول – عبثا – أن أهز رأسي مثلهم".
الرواية بدأت بإهداء صارخ:"الى جميع "ضواري هذا العالم"، وهو تعزيز لرمزية العنوان الرئيس، فكل بلداننا العربية لا تختلف حكوماتها في اهمال شأن مواطنيها. بلداننا التي تضم الناس الطيبين والبسطاء، تضم ايضا "الضواري"، والضواري هي الحيوانات التي تصل وحشيتها الى حد الافتراس والقضاء على بعضها البعض، لمجرد رغبتها في الحصول على ما ترغب به، حتى لو كان ذلك على حساب هؤلاء الناس البسطاء ولو كانوا مواطنين معهم في بلدانهم!
تضمنت الرواية فصلين وهذان الفصلان تكونا من 26 مقطعا. 13 مقطعا لكل فصل؛ الفصل الأول الذي استهل بـمقطع شعري: "عندما تندس الطفلة الصغيرة/ داخل لحاف من غيمٍ ومطر/ وتحلمُ بالشمس/ ستكبر/ نجمةً مجنونة!" وهذه الكلمات هي اشارة واضحة إلى الشخصية الرئيسة في الرواية "فرح" التي تكشف لها مشاركتها في أحدى المسابقات العالمية في بلدة اوربية صغيرة "إبسالا" ما غاب عن بالها، وهو يغيب عن بال كل ناس بلدها، عندما شاهدت هذه البلدة الصغيرة التي اقيمت فيها المسابقة العلمية، وما ضمته من جمال لطبيعتها واهتمام مسؤوليها بها، وتوفير كل شيء لمواطنيها، بأمكانياتها البسيطة. في هذه المسابقة عرفت مدى تخلف بلدها وبلداننا العربية، عن ما وصلت اليه الدول الاخرى، على الرغم من كل الثروات الهائلة التي تمتلكها دولنا العربية، لكن مواطنيها لا يجدون ابسط الاحتياجات الانسانية! وهذا الواقع الذي اكتشفته في سفرتها سوف يؤدي بها الى الاحساس بالحيف والتخلف الذي تعيشه في بلدها! فتتغير مشاعرها الى بغض بلدها، بعد ان تربت على حبه والتفاني من اجله. وعندما يتكلم لها ضاري عن الكويت التي حرمته من ان تهبه جنسيتها رغم أنه ولد فيها! "وكأن الحياة تسخر مني. لم تكن ثمة شرفة أطل منها على الكويت الا من خلالك، أنت الذي ما فتئت تنتهز أية فرصة لتسدد طعنة أخرى لقدسية الوطن، تجيء بالشكوك فوق الشكوك، تلقي بها في حجري لتتأمل - بتشف كاف- مصرع ثوابتي.
الفصل الثاني استهل ايضا بـهذه الكلمات: "كل شيء/ يتكوّر/ مثل حزني/ في دمعة!"
ويحسب لهذه الكاتبة انها تطرح قضية كبيرة في بلدها الكويت وهي قضية "البدون" فالفصل الثاني يبدأ بهذه الكلمة، وهي كلمة متداولة في بلدان الخليج. تطلق على الوافدين لهذه البلدان، بعد اكتشاف النفط ووصول مواطني دول الجوار، الذين يبحثون عن فرص العمل وتمني حياة افضل لما كانوا يعيشونه في بلدانهم، وهؤلاء الـ"بدون" الذي استوطنوا منذ عشرات السنين، بل اكثرهم ولدوا في هذه البلدان النفطية التي لم تمنحهم جنسيتها التي تكفل لهم بعض من الامتيازات التي يحصل عليها مواطنوا البلد الاصليين. وفي هذا الفصل الذي يكشف لها ضاري عن مشاعره المتناقضة عن الكويت فهو بقدر ما يهرب من الكويت، لانها مثل أم تركت رضيعها، حرمته من ما وجب عليها ان تعطيه من حنان وأهتمام، تبقى الكويت هي الحبيبة التي لا يستطيع ان ينساها رغم ابتعاده عنها، وعندما تحين له الفرصة ليساعد احد مواطنيها في حضور مؤتمر علمي لا ينسى ان يعبر عن حبه للكويت بمشاعر مرتبكة متداخلة: "هذا الذي أمارسه فيك الان، انتقامٌ طفيف ومؤذٍ، أنا اشوه فرحكِ التافه بوطنٍ أعي ابعاد فتنته، أستبسل لأجعلك تشبهينني وهو لا تعين خطورته بعد، أنتِ الكويت بتفاصيلها الباذخة مصبوبة في هيئة أنثى، اشتهي إيذاءكِ، لكنك لن تشعري بالأذى إلا لاحقا، بعد ان تتسلل دماء المنفى الباردة الى عروقكِ، وتجدي ارتطامك بالوطن مؤلماً ودونما شغف.
ما الذي يربط ضاري بهذا الوطن الذي لم يهبه ما اراده، وهو القليل؛ ليس سوى الابوة التي فقدها منذ كان صغيراً يبيع مناديل عند اشارة المرور، ان تعيش بلا مستقبل، بلا ضمان، تلاحقك السلطات تطرق ابواب الآخرين من أجل كفالة أو ما شابه: " أحد عشر عاماً قضيتها في المنفى أبذل جهدي لكي أتواءم مع كل ما لا يشبهني، فهذا أنا في النهاية لا أشبه وطني ولا منفاي".
بعض الروايات التي تقرأها، تتمنى ان لا تنتهي، وان تبقى تعيش في اجوائها، وهذا دليل على ان كاتبها او كاتبتها قد بذلت جهدا كبيرا وعاشت صراعا طويلا لانجازها، وليس هذا فقط، ولكن، استطاعت ان توصل الفكرة أو الصورة التي ارادت ان توصلها لقرائها بنجاح. ولا ابالغ اذ اقول انه نجاح كبير للكاتبة بثينة العيسى في عملها الروائي الاول هذا، فقد استطاعت ان تمتلك قدرة وخبرة الآخرين ،الذين امتلكوها بعد رواياتهم العديدة التي كتبوها، واكتسبوا بها امكانية التحكم في قرائهم بعد اجادة هذا الفن، بينما هي حققت هذا الانجاز في روايتها الاولى، وهذا ما يحسب لها أيضاً.
استعانت الكاتبة في روايتها هذه على تقطيع النص إلى مجموعة من المقاطع، واسلوب التقطيع هذا يعتبر عملية منهجية مفيدة، تُسهل تنقل الكاتب بين أحداث الحاضر واسترجاع الماضي. وهي ضرورية لخدمة مسار السرد الذي يتحكم في بناء النص، ومن المعلوم أن السيميوطيقا قد أولت عناية كبرى لعملية التقطيع، لما لهذه العملية من فوائد علمية ومعرفية، حيث تساعد السارد في إيصال صورة متكاملة لما أراد ان يخبر به متلقيه القارئ، فكل مقطع سردي؛ "الفصل أو أجزائه الـ 32 مقطعا التي تكونت منها الرواية" قادر لوحده ان يكون حكاية مستقلة، وأن تكون له غايته الخاصة به، وفي الوقت ذاته يكون قادرا على الاندماج داخل حكاية أكبر، مؤديا وظيفة خاصة داخلها. لذلك استطاعت الكاتبة التنقل في سرد الأحداث الحاضرة والرجوع الى الماضي من خلال هذا التقطيع الذي استعملت له الأرقام "1... 2... 3... الخ"، لتبقى حركتها حرة في التحدث عن الحاضر والماضي والتنقل بين شخصيتي الرواية افراح وضاري، وقد حرصت الكاتبة على إنهاء اكثر مقاطع الرواية بجمل تجعل القارئ متلهفاً لمعرفة المقطع التالي، وكانت تنهيها بكلمات محملة بالسخرية واللطافة، كأنها تعتذر عن عملية نقل القارئ من مقطع الى آخر.
اللغة السلسلة والبسيطة التي كُتبتْ بها الرواية، والصورالجميلة التي تلاحقت على مدى صفحاتها الـتي تجعل القارئ مواظبا ومتلهفاً لمعرفة القادم من الصفحات، كلما انهى صفحة من الرواية أو مقطعا! تلهف لما بعده ليستشف من الجمل الرصينة، واللغة الرائقة، احداثا كانت تفاجئه بجديدها: "أشيحُ ببصري، السيارة تمضي، أنت لا تلوح، وأنا لا ألتفت".
***
يوسف علوان