قراءات نقدية
دراسة في رواية (ليون الإفريقي) للكاتب أمين معلوف (2)
وقفة مع كتاب (غرناطة) أنموذجا.. المعينات الوظائفية في الضمائرية والزمكانية والشخوصية المتصلة، الفصل الأول ـ المبحث (2)
مهاد نظري:
لعل الغائية الروائية التي تسعى بدورها إلى توصيف وتصوير ومعالجة الممارسات المقامية بطرائق التشخيص المباشرة وغير المباشرة، في بنيات المادة المرجعية المحالة إلى دائرة التخييل السردي الروائي، هي من الآثار الأكثر أهمية وتندرا، خصوصا فيما يتعلق بنوعية وكيفية التعامل مع تلك الجملة من المقامات الأخبارية والمروية بطريقة (الحكي = الحكواتي) كما إن حالات المنظور الخطابي والحكائي في طبيعة هكذا روايات، لا تكتمل معيناتها إلا في حالات استيعاب هذه الجملة من التقانيات (المعينات ـ المقامية ـ المنظور الأداتي ـ المقاربة الاتصالية ـ ضمائرية الحضور ـ الوظائف المتصلة) وتبعا لهذه الاختزالية الوظائفية في تشريح المفاهيم المنجدلة في الفضاء النصي الخاص في محاور رواية (ليون الأفريقي) نعاين حدوث هذه الشبكة من مفاهيم الإجراءات على أسس بينية وغير ذلك من خصائص الأخبار والمسرود الصراعي المتشكل بين (الأنا الشاهدة) وتراجيديا التلاحم السيكولوجي المتبادل في تعددية الأصوات والوقائع ذات الطابع التأريخي المعزز بالاشتغالات الاستهوائية من بنيات خصوصية الفواعل المعينية في الذوات والمكان والزمن والمقامات السردية الناتجة من تقابلات الأشكال التمظهرية واللاتمظهرية في نماذج وحدات الخطاب والحكاية المرجعية.
ـ الفواعل الاستهوائية وسيطا بين المروى إليه والفاعل الذاتي.
قد لاحظنا في متواليات الفصول الروائية الأولى من النص الروائي، بأن هناك (سيميوطيقا) بين السيرة الذاتية للمكان والأحداث، قد جرت في ضوء الربط بين المعينات الاستهوائية ومستوى المحددات المرجعية الموظفة في التقاويم والتواريخ المؤشرة أعلى اليافطات العنوانية لكل فصل من الفصول.وهذا الأمر ما جعل من المادة المرجعية متراوحة في مسافة المروى إليه راويا، وكأنها حالات نابعة من حال لسان (الحكواتي؟) .ولكن لا يمكننا في الوقت نفسه تحديد زمن هذا الحكواتي، صحيح أن المرويات كانت قادمة من خلال أوضاع شخوصية متمثلة بشخص والدة ليون أو ذلك الأب الذي انقطع رويه على حين غرة، ولكن هل يمكننا تحديد الزمن الذي كانت تبث فيه هذه المرويات حول أخبار السلطان لغرناطة أو كم كان عمر ليون في غضون ذلك الزمن: (كنت في ذلك الحين طفلا بدينا، فلم أكن أجسر على إخراجك معي إلى الشارع خوفا من عيون السوء./ص59 الرواية) من هنا نعلم أن الرائي كانت هي الأم سلمى ذاتها، ولكن هل يعني أن ليون كان طفلا وهو يتلقى المروى إليه في حقيقة الاستطاعة العمرية له في ذلك الزمن؟ولعلنا نتابع في وحدات أخرى ما قاله ليون راويا عن ذاته: (وهكذا ذهبنا في أولى ساعات النهار تحملني أمي، وتحمل أختي مريم أمها، وكلتا الوالدتين تسيران الهويناء لتفادي الانزلاق على الثلج./ص74 الرواية) ويعني هذا أن الوحدات الكلامية قد لا تتقدم أو أنها تتأخر عن الوحدات (التمرسية ـ الاستهوائية) ذلك لأن التحويل بالعامل الزمني ما زال في حيز (المروى إليه راويا) أما حالات الحكي والمسرود فهي قائمة في مدار الاشتغال بالشاهد على المروي أو الاتصال بوسائط (المسرود إليه) كما قلنا سابقا.إذ أن مستوى بناء الأحداث والعلاقات الشخوصية لحد الآن هي تحت (حبكة المروى إليه) أما بما يتعلق بزمن الشخصية ليون، فهو كما نعلم طفلا لا يتجاوز أعوامه الثلاث كما أوردتنا به سياق الرواية.
1ـ الأحوال الاستهوائية في عام الشيخ ـ استغفر الله ـ:
ثمة دائما في طبيعة الأعمال الروائية المرجعية، ما نعثر على شخصية استهوائية، كحال الشخصية المتعلقة في الشيخ ـ استغفر الله ـ وهذا النمط الشخوصي هو من التعقيد والشكوكية في كل مجالات حياته المتوترة: (كانت عمامة الشيخ ـ استغفر الله ـ عريضة وكانت كتفاه ضيقتين وصوته أئمة الجوامع الأبح /وكان في كل صباح يركب ساعة الآذان سطح منزله، أحد أعلى منازل المدينة، لا لكي يدعو المؤمنين للصلاة كما يفعل سنوات طوالا، بل يحدق بعيدا إلى ما كان مثار حنقه.. وكان يصيح في جيرانه الذين لم يكونوا قد استيقظوا تماما بعد: انظروا، إنه قبركم ذاك الذي يشاد هناك على طريق ـ لوشة ـ وأنتم هنا راقدون منتظرين منتظرين قدومهم لدفنكم؟./ص45 الرواية) وبناء على ما جاءت به هذه الوحدات، يمكننا معاينة مستوى الدوافع الاستهوائية في مكنون سيكلوجية هذه الشخصية، وعند التركيز على محض أفعالها نستنتج بأنها الذات المستهواة، بأعتبارها تقدم ملفوظاتها الشعورية من جهة التمظهر فحسب ثم وبالاستعانة بالنية القولية من مقترحاتها الأهوائية.وهنا يمكننا معرفة آليات تخطيب الأهواء لدى هذه الشخصية المغالية في ملفوظها ومفرداتها النفسانية، خصوصا وإنها على مستوى من العاملية التي تستهوي لذاتها حالات بث الأخبار والمواجيد الفوضوية في أذهان الناس.وعلى ههذا النحو نعلم جيدا بأن ما كان يشير إليه هذا الشيخ هو الأشارة إلى (أسوار سانتافية) حيث كان الزعماء من الكاثوليك قد بدأوا بناءها في الربيع، وسرعان ما اتخذت في متوسط موسم الصيف مظهرا من مظاهر المدينة: (وباح لي أبي بأنه كان قبل مولدي بزمن كثيرا، ما يجتمع وعصبة من الأصحاب يوم الجمعة قبل صلاة الظهر الجامعة في دكان وراق لا يبعد كثيرا عن الجامع .. وأنهم كانوا يتراهنون فيما بينهم على عدة المرات التي سيتلفظ فيها الشيخ بعباراته المفضلة في أثناء خطبته./ص46 الرواية) قد لا تختلف الرواية السيرذاتية للزمن والواقعة المرجعية عن سائر أجناس الكتابة التاريخية ـ سيريا ـ فهناك أحوال تقترب من (السير ذاتي) ولا شك أن مستوى زمن الكتابة في رواية (ليون الأفريقي) مرحلة مرتبطة ب (الأنا الحكواتي) حتى وأن كان الغالب فيها هوالراوي نقلا عن مرويات الشخوص والشواهد الأخرى في الرواية.
2 ـ التبئير الداخلي المرتبط بوجهة نظر الراوي:
قد بدت لنا النتائج التي وصلتنا عن طريق الرواة بأن فاعل تلخيصها كان كافيا في مرسلات الاثبات العاملي الذي مصدره (التبئير الداخلي = ذاتية الراوي) فالمسرودات للأمكنة والأحوال الشخوصية قد تتاح من خلال نوع سردي مصدره أحد الشواهد الشخوصية، ولكن وعي الإيصال يتم من خلال ضمير المتكلم الذي هو المبأر والناقل بضمير ذاته الصفرية.ولكن هذا يظل في مجال النمط الداخلي من التبئير الذي يتخذه الراوي المشارك نفسه.فكلما غلب التبئير الصفر على مركزية وجهة نظر الذات الساردة، كلما تم الكشف الزمني عن أوليات (السير الذاتي) للأحداث وطابعها التخييلي المقرون بمنزلة مهمة من مستوى رؤية القارىء للأحداث والأفعال في زمن الحالات الصفرية من النواة الروائية الأولى: (عام السقوط:لم تكن أمي هي إياها عندما كانت تتحدث عن سقوط مدينتنا، وكان يصدر عنها حيال هذه المأساة صوت ونظرة وكلمات ودموع لم أكن أعرفها لها في أية مناسبة..وأما أنا فلم أكن قد بلغت الثالثة من عمري في تلك الأيام الصاخبة، ولست أدري إذا كانت الصيحات المزدحمة في مسمعي في هذه اللحظة تذكرة لما كنت قد سمعته حينذاك حقا أو أنها فقط صدى ألف حكاية حكيت لي مذاك./ص57 الرواية) هنا نعاين كيفية الإدلاء بواسطة الشخصية المحورية ـ ليون ساردا ومتمثلا ـ حول مواضعات الأصوات للرواة، والعلاقة ما بين صوت الفاعل إزاء تعاقبات الرواة ـ سببا في اكتمال مستويات المادة في المروى إليه.ولكن المتخيل لا يمنح نفسه عادة بالقول عن اللاكتمال في زمن المحور العاملي حينذاك، إلا في مؤشرات تقديم المحور ذاته شاهدا في ما مضى من الاستراتيجية في حكاية المروى إليه راويا.وإزاء بيان وضوح صوت المحور الشخوصي ـ ساردا ـ نلاحظ حجم التعاقب في المبنى الحكائي، بدءا من صوت سلمى وانتهاء بصوت ليون ذاته، الذي يمثل الانموذج الجامع في جل مستويات الاستغراق في التفاصيل الدقيقة ذات المنحى الميتاتاريخي والسيكولوجي الخاص بوصف أدق معاينات الملحمة الغرناطية عبر نمو زمنها الضاج بتواصل الأوضاع المسرودة من عبر ثقوب الوثيقة المرجعية.
ـ تشاكل المعينات في علاقات القرائن الواصلة.
هناك جملة واسعة من المسميات والوسائل الاصطلاحية التي تطلق على مفاهيم وخواص (المعينات) منها سبيلا:القرائن المدمجة أو الواصلات في وحدات المينولوفيجيا.غير أننا نود استخدام هذا الاصطلاح في مجال مباحث دراسة رواية (ليون الأفريقي) اعتمادا على مخصوصيات: (الإشارات ـ المحددات التمثيلية ـ العرض والتعيين ـ الإحالة ـ التأثير والمحاكاة) والمراد من وراء كل هذه المصطلحات هو الكشف عن الفحوى الإحالية في علامات وصور ومواقف المرجعية النصية المبنية على شروط وتوافقات الأداة التلفظية وعواملها الزمنية والمكانية والضمائرية والظرفية والسياقية.فالمعينات بوصفها العناصر الاسلوبية والبنائية والسيميائية التي تحيل على السياقات الخاصة بالزمكانية الجارية في صيغة المتكلمين في أوضاع التلفظ والتواصل الإطاري من الملفوظ الكتابي دلاليا وإحاليا.فإذا أخذنا على سبيل المثال بعض من وحدات التلفظ الواردة في سياق جملة مقامية أو احالية، فنلاحظ بأن أدوات التعيين فيها غدت تمثل صفات خاصة بالزمن السردي، ما يجعل تغيرات الأحوال والمقام من وحدة الانطباع المشهدي تبدو وكأنها مفضية إلى تصاعدية عدة مواقف أو أزمنة في الوقت الواحد أو المشهد المحدد في عدة جمل: (وهكذا فإنه كان يقص علي خبر سقوط غرناطة .. كان من المحتم أن تبدأ حكايته من قاعات ـ الحمراء ـ المنجدة) أو ما جاء مقتبسا في هذه الوحدة مثالا: (ولا يعرف أحد في المغرب أنني بالأفريقي: فهناك كنت الحسن بن محمد الوزان) وعلى هذا النحو من هذه الأمثلة وغيرها في موارد متعددة ومشتعبة من وحدات الرواية المسكوكة، نتابع ذلك الحجم من التلفظ في مواضع مقامية وإحالية مختلفة، بل إنها تبدو كما لو كانت علامات أو شيفرات يراد بها أغراض ووظائف مختزلة في عدة جهات من (التلفظ في عدة أوجه) أو الانطباع في عدة علاقات مختلفة في المظهر، غير إنها في مقاييس الأوضاع الدلالية تكشف لنا عن محصلات اتفاقية في الغاية والنتيجة: (وران صمت مطبق على الحضور الذين كانوا يكتفون بإرسال هدير بالموافقة بين الحين والحين..وفتح المليح فمه وكأنه يستعد لمتابعة حججه..ولكنه لم يقل شيئا./ص62 الرواية) وتتبدى العلاقة في الكلام هنا بين الحضور أو اللاحضور، ولكنها واقعة في مجال دلالة مقامية فعل الكلام والاتصال والاندماج، والموقف الإحالي هنا يعبر عن دينامية الاشتغال في فعل التكلم، لو لا إنه كان يقول شيئا لما توقف، فهناك في مسار آخر من الوحدات جعلته وبطريقة ضمنية يقوم بفعل التلفظ، إلا أنه اختار: (وخطا خطوة إلى الوراء، وجلس وبصره إلى الأرض./ص62 .ص63 الرواية) لعل هذا الفعل من المعينات العلامية التي تؤشر لنا دلالة إحالية في وصفها المقامي قد لا يحتاج الشخصية في حالته الوصفية إلى التلفظ بما لا يصح به المتلفظ من خطاب مباشر أوقسري .
1 ـ المعينات الزمكانية المتصلة والمنفصلة:
تواجهنا في هذا الباب الفرعي من مركز دراسة مبحثنا عدة تعالقات في العلاقة الزمانية والمكانية المزاحة عبر مظاهر التلفظ داخل تشكيلات ومتواليات الوحدات المسرودة من النص.ذلك بعد أن أدركنا كيفية قيام المعينات في الجوانب الاشارية والفعلية والاحوالية والمقامية من سياق النص.الآن سوف نتناول كيفية إجراء صيغة المعينات في المجالين (الزماني ـ المكاني) تبعا إلى العلاقة المخصوصة من وظائف النص في الرواية: (وظلت المدافع والمجانيق صامتة في الأيام التالية، وظل الثلج يتساقط على غرناطة موشحا إياها بالسلام وبدعة ما كان يبدو أن شيئا ينبغي أن يقطع معهما أوصالها.فلم تكن هناك معارك، وكانت بعض صيحات الأطفال وحدها تبعث الحياة في الشوارع./ص71 الرواية) قد تنكشف الصور المكانية والزمانية ، ضمن ثنائية تلفظية غالبا، وهذا ما يجعلها تبدو معينات في حضور (الذاتية ـ الموضوعية) فغالبا ما ترتبط الذاتية في حدود خطاب زماني أنفعالي، في حين ترتبط دلالات الموضوعية بالمكانية كظروف في أحوال الوجود والكلية في الأثر المكاني على مواجيد الذات.فالذات والموضوعة كلاهما يشكلان في الزمكانية علاقة حضورية وغيابية، تمتزج بعضهما مع بعض كوقائع اتصالية في الشكل والمضمون والبنية والفضاء والدلالة.
ـ تعليق القراءة:
لا شك في أن المعينات هوية تكوينية تأشيرية داخل النص الروائي، وما يلفت اهتمامنا حول هذه المعينات الاشارية والضمائرية والزمكانية في محاور الرواية، هو قدرتها على خلق القرائن والتوليفات بطرائق محددة وغير محددة.فضلا عن هذه الوظائف والأغراض التي امتاز بها الطابع الروائي، لعلنا نكشف للقارىء عن سقوط غرناطة بيد القائد الصليبي فرديناند، حيث نص بقطع العلاقة بين اليهود والمسيحيين، وهذا الأمر ما جعل أغلب اليهود يشارفون على مغادرة غرناطة: (وعلى هذا فقد مشت سارة وأهل بيتها من غير أن يلتفتوا خلفهم./ص83 الرواية) فيما ظلت سلمى تعاود مسرود غرناطة وسقوطها على أيدي المسيحيين على مسامع صغيرها ليون الأفريقي، وكأنها ذات الوسائل والتقانات من المعينات الحكواتية يحلو بها مقام القص عبر ضمير المروى إليه، وصولا بحضور ليون ذلك الشخصية الساردة في مدار الابعاد الزمكانية والشخوصية المتصلة عبر فضاءات مرجعية المخطوطة التأريخية وإعادة انتاجها في مستحدثات سلطة التخييل وأفعال المتخيل.
***
حيدر عبد الرضا