قراءات نقدية
يوسف علوان: ناصر قوطي.. يُسقط "وهم الطائر": "ليس هناك من يولد حراً"
الكتابة عزاء، وربما هي سلاح ضد الموت، وتساؤل وجودي عن ماهية وجودنا؟ وتفريغ شحنات كهربية، نفرغها من وطيس الذهن لكي لاتحرقنا وتحيلنا رماداً وفي ذات الوقت هي لذة لاتضاهيها لذة! النتاج الفني والأدبي حالة معقدة تحتكم الى عدة اشتراطات؛ ولايستثنى دور اللاوعي في النتاج الأدبي والفني! ولكن تبقى كل التفسيرات عاجزة عن ادراك مغزى الكتابة الابداعية وجدوى التعاطي معها.
هكذا يصف الكاتب ناصر قوطي الكتابة بالنسبة له، وأنت تجد هذا كله في مجموعته القصصية التي صدرت عن دار ميزبوتوميا للطباعة والنشر بعنوان "وهم الطائر" وبـ(102) صفحة من الحجم المتوسط، وقد ضمت المجموعة (14) قصة قصيرة و(7) قصص قصيرة جدا، ولكون القصة القصيرة تتميز عن الرواية بما يخلقه التكثيف والترميز الذي تتطلبه، بسبب حجمها، من اشباعات دلالية لدى المتلقي، ولذلك تكثف المعاني عبر فضاءات سردية متعددة، كالأمكنة والأزمنة، والأحداث والأشخاص، وما تنطوي عليه من أبعاد درامية مشحونة بالتوتر والقلق والاحباط. ولم تصل القصة القصيرة هذه المكانة، إلا عندما اقترن حكيها بالوعي الحاد الذي ينخرط فيه الإنسان، احتجاجا على واقع تملؤه أزمات حادة في شكله ومضمونه، كما يعود الاهتمام بها، لما تتميز به من تصوير لسرعة الإيقاع في الحياة العادية، الذي نعتبره من أكثر الإيقاعات انسجاما مع طبيعة العصر الحالي، وتمثيل شخصياتها للواقع المعاش والمتخيل، فنجد الشخصيات التي تحدث عنها القوطي سواء التي استمدها القاص من التجارب الحياتية الخاصة، أو التي من عالم الخيال: مأزومة ومغرقة في القلق والضياع وتبحث عن منفذ للخروج من واقعها الذي فرض عليها، ويتضح ذلك في قصته المعنونة "جدار..." إذ يصور حالة الصراع الداخلي الذي يعيشه شخص تهيئه تربيته للعمل على تفخيخ نفسه لتفجيرها بين الناس غير ان دايلوجاً داخليا يدور بينه وبين نفسه؛ "كيف ساقتك الظنون وأقنعتك تلك الفتاوى الجهنمية التي غرسها أبوك في وجدانك،...." ص 83 ان أكثر الأشياء خطورة تلك التي يرثها الأبناء عن الآباء، دون ان تعطى لهم فرصة الاختيار، لكي يناقشوها مع أنفسهم، في قبولها او رفضها. غير ان هذا التساؤل الذي يطرحه القاص ينقلب الى صراع لرفض ما أجبرت عليه الشخصية في هذه القصة: "ان تسألهم لم اختاروا الفناء بهذه الطريقة التي تأنف منها اخلاقيات عصور ما قبل التاريخ.... كيف طاوعتك نفسك ان تفارق الجانب المشرق من الوجود وتعانق الظلمة وتنصت لعواء الذئب فيك." ص84.
وقد أجاد ناصر القوطي تصوير هذا الصراع الداخلي للذات، وهو صراع شاق ومؤلم، لان على هذا الشخص ان ينقلب على افكار تلبسته منذ طفولته. فالانسان يولد؛ ليجد ان دينه وافكاره وقيمه التي سيعتنقها ولدت قبله، لذلك يكون غير مختار لهذه الافكارٍ التي يبقى يحملها طول حياته، وعندما يتمرد عليها، إذ ذاك، ليس ببعيد أن يصفه الآخرون بالمجنون او الشاذ:
من حولك الى مسخ؟.. -
- انت تعرف، لم تسأل؟ خلصني ان استطعت
- سأفعل،
فليس سهلا التمرد على مسلمات قومه، انه صراع يبدأ داخل ذاته، يمنعه خوفه ممن حوله، ومن البوح بهذا الرفض، لكل ماهو غير صحيح برأيه!! لكنه اليقين بالنسبة لهم .. فكيف الخروج عليه؟ أنها محنة النبي في قومه فسيلقمونه بالحجر بكل تأكيد!: "حضرت الصحراء ثانية، ماذا أرى، همست بحيرة، تحركت ساقي المتصلبة والمسمرة من حول المشهد! حين غمرت الرمال وجه المدينة، والفسحة التي كنت اقف عليها، تقدمت صرخت صرخات متتالية، وقبل ان اقترب منه راح يتطوى، ويتلوى، تصاحبه عواءات طويلة وهو يحاول الخروج من جسدي، كان لسانه اللاهث يتحسس أثر الدماء في حبيبات الغبار، حين ذاك اندفع من صدري تركني خائراً، بعد ان تجسد امامي بكل هيأته، هيئة ذئب اغبر بأنياب يسيل بينها لعاب اصفر،.. انني اعرف من غرس بذرتك فيّ.. اعرف!
ان قصة "جدار.." تصوير رائع لمسببات ما نعيشه من مآسٍ وقتل وتفجير يودي يومياً بحياة العشرات بل المئات من الناس الذين ليس بينهم من عداء مقنع سوى: "حسبنا ما وجدنا عليه اباءنا". وهنا يؤكد القوطي؛ ليس من الصحيح القول ان الانسان يولد حراً، بل الحقيقة أن الانسان يولد وهو مكبل بأفكار ومعتقدات وأخطاء وخطايا من سبقوه ومطالب بأن يسير على خطاهم.
وقد سعى القاص في تحميل اللغة سياقات لغوية حادة، لخرق المتعارف عليه في تركيبة القصة القصيرة، حيث لم يعد للعقدة او الصراع من معنى فلم نجد في الكثير من قصصه حلاً لما يطرحه من تساؤلات كما في قصة (ترنيمة قديس).. "حضارتنا لم تعط الإنسان حتى أبسط الحقوق بل تسحقه بشروطها القمعية المريعة، والكلام يطول يا صاحبي.. الكلام.. يطول". ص(50).. ليس هناك سوى الخيبة فلا منفعة من كلام في هذا الأمر رغم ان اول قوانين العالم التي سنت في بلدنا قبل آلاف السنين لم تغير عقول طغاتنا ونظرتهم للإنسان.
كذلك في قصة "ما حدث مع أقرب الناس..." ففي نهايتها يصل القاص الى خيبة أمل أخرى من جدوى الكتابة حيث يقول: "الكتابة هوّس، هروب من عالم وحشي نحو بياضات آسرة لا قصدية، تتصاعد من فوهاتها حمم من أخيلة لا يعرفها إلا من أكتوى بنيرانها، ولا خيار أمام من يتعاطاها.. فأما أن يكتب نفسه او يقتل نفسه، وفي الحالتين يكون قد ارتكب إثم الفعل والمكاشفة في عالم يحدث فيه كل شيء بعيدا عن هذه السطور البريئة التي لا تعني شيء" ص(80)، وقد حاول القاص الرهان على اللغة وإمكاناتها التدليلية، والعمل على فتح آفاق سردية مغايرة لانتاج نص مختلف تكون فيه ذات القاص محوراً للمعاني، كذلك ذوبان لغة القاص في ذاته.
في قصة "وهم الطائر" ص (87) التي سميت المجموعة بها يبدأها القاص باقتباس لابو حيان التوحيدي: "رحلٌ ضعيف، وهاجرة محرقة، وبرٌ قفرٌ، وعطش قديم، كيف الوصول الى الري والحال هذه.." ثم اهداء الى الشاعر سلام الناصر، مصحوب بتساءل: "لِمَ لا تطير؟"، في الموروث الشعبي يرمز الطائر الى الحرية والأنطلاق نحو ما تصبو اليه الأنفس، وهذا الرمز "الطائر" كثيرا ما يتمنى المرء ان يكون مثله، له القدرة على التنقل من مكان الى آخر، وهذه الأمنية؛ الطيران/ التنقل تراود المرء الذي لا يستطيع ان يتعايش مع ظروفه الشخصية التي تحيط به. لذلك تراه ينظر لقدرة الطائر على ترك المكان الذي يعيش فيه بسهولة ويسر. لهذا يرمز للطير بالحرية التي نفتقدها في حياتنا اليومية.
في هذه القصة يلجأ القاص لتكثيف الصورة الصغيرة المتتالية لاظهار الصورة الكبيرة التي يصف بها ما حوله، ويبدو ان هذا التكثيف في التفاصيل الصغيرة قد عبر الكاتب عن اعجابه بأسلوب ابو حيان التوحيدي في طريقة الوصف هذه؛ "أن تغدو جثة لا أكثر تألفك الديدان، تكفنك ذرات الغبار، تعد شيء فوق جبينك والعيون لتستحيل شيئاً صداً لا يُقهر يتمحور بين الجناحين، مسخاً صغيراً تكور بين الكتفين، شوه عنده وأُسقط غثر ولادات عسيرة وخذلان من طلق مستمر.. تحاول ان تجسه بحذر، تمرُ أناملك فوق التجاعيد الغائرة، عند الشفتين تلمس ظل ابتسامة فاترة كأنها تهمس اليك أن تصدح، أن تنعب كطائر ليلي وحيد.. شلواً هامداً رغم كل هذا الخفقان المضني ولا جدوى من هذه التحليقات المتصاعدة البلهاء".
إذا صورة الاحباط التي رسمها الكاتب؛ والتي تكونت من هذا العدد الكبير من الصور الصغيرة تعبر عن "وهم" الحرية الذي نرمز به للطير. لذلك جاء التساؤل الذي طرحه الكاتب في إهدائه الى صديقه الشاعر سلام الناصر "لِمَ لا تطير؟" محبطاً يائساً لكنه تساءل ليس إلا: "ما الطيران في مثل هذه السماء إلا محض هبوط نحو الهاوية!".ص 96.
ان عملية الخلق الأدبي يساهم فيها المتلقي، من خلال جمع الصور المتعددة التي يحملها النص ومن ثم ترتيبها وحتى تخيلها.. وهذه مساهمة في عملية الخلق التي يصورها الكاتب في نصه القصصي.
***
يوسف علوان