قراءات نقدية
طالب المعموري: العلاقات اللغوية والبناء النصي في مجموعة آخر رجال الموهيكانز
المبدع والمتلقي يجمعهما نتاجاً جمالي مشترك فاعل، فالأبنية اللغوية وانتاج الصورة والموضوع الشعري وكذلك الايقاع النغمي وغيرها من العناصر التي تشكل الشعرية المعاصرة، ومن هنا فان الاهم شعرية الشعر وبناء العلاقات اللغوية التي يخرجها عن سياق الاخبار والمباشرة الى سياق الشعرية مضافا الى تلك العناصر التلقي بوصفه العنصر المهيمن وعملا حاسما في تحديد النوع الشعري وسماته الجمالية بما صادق عليه الوعي الجمعي والارباب اللغة من جماليات أقرتها الذائقة ..
بين يدي مجموعة شعرية موسومة (آخر رجال الموهيكانز) للشاعر طه الزرباطي الصادرة عن اتحاد الأدباء في العراق، 2022)
حضور العنوان بوصفه بنية نصية لها اشتغالها الدلالي في النص وبنائه الدرامي وانزياحه الانفعالي المكثف ودوره في انتاج المعنى لدى الشاعر، وقد مهد الشاعر في تعريف بعنونة مجموعته آخر رجال الموهيكانز تناصا مع عنوان لفلم انتج عام 1992 من اخراج مايكل مان .. فضلا عن تناص الافكار مع التيمة في سلسلة تصفية الشعوب الاصلية في امريكا وكيفية تشويه الحقيقة باستثمار الاعلام ليصور لنا هذه الاقوام كشعوب متوحشة، يستوجب القضاء عليها ..
استنبط الشاعر عنونة نصوص مجموعته من نفس المجموعة، عنوان استنباطي معجمي صريح ويقصد به ورود العنوان كما هو (صريحاً) داخل المجموعة
استهل الاديب طه الزرباطي مجموعته بالاهداء كعتبة ومناص
لعب الإهداء دوراً مهما في توجيه القراءة وأفق التلقي، وانطلاقا من وصفه نّصا تداولي قائماً على الاتصال ومن خلال أطرافه، الكاتب / النّص / القارئ/ تتشكل شبكة من العلاقات النابعة من خصوصية الإهداء كونه خطابا موازيا بصفةٍ عامةٍ او خاصةٍ، وهو أمر يمكن الوقوف عليه..
فللإهداء وظائف سيميائية ودلالية وتداولية عدة، كما يؤدي الإهداء وظيفة التلميح، والإيحاء، والتكثيف، وخلق المفارقة والانزياح فقد جاء بلغة شعرية عذبة يربط بين حب الام والوطن:1
الاهداء
الى أمي دائما..
كانت تُعلمني الوطن، وهي تُرتلُ (دللولها) العذب،
وحين يَسقط دمعها، سهوا على خدي تبتهلُ وهي
تعلمني المطر سهوا؛ وتزداد دمعاً كانت تبسملُ،
وتحوقلُ بأكثر من لغةٍ، لله أن يفُك طلاسم دعائها، وترانيمها، وحروف لغاتها، لعل العراق سُقي من
دموع أمهاتنا.. لذلك وجعه لذيذ ومالح...
نصوص مجموعته تتنوع فيها عتبات العنونة الا انها ذات مناخ شعري يكاد يهيمن على تجربة قصائده مناخ الحب، والوجع وويلات الحروب والذكريات الطافحة بالفقد والاحزان
تحتوي المجموعة على ثمانية وثلاثين نصاً، تفاوتت العنونة الداخلية للنصوص بين الرمزية والواقعية استهل مجموعته بقصيدة (أشجاري) وانتهى بقصيدة (زجاج شيركوبي كه س).
يرسم لنا الشاعر الزرباطي بلغة ابداعية نابعة من هواجس نفسية صورة او صور متعددة أمام المتلقي صورة لغوية تجديدية تعطي للقصيدة دلالاتها بعيدا عن السطحية المملة.
اللغة مادته التي يصوغ بها منتجه الإبداعي (العلاقات اللغوية والبناء النصي).. والتي تعد من السمات الاساسية للشعرية المعاصرة في بنائها وفي تلقيها، فلابد لهذه اللغة أن تكون قادرة على احتواء فلسفة الشاعر نلمس ذلك في قصيدته (أشجاري):
أشجار الله الحزينةِ،
تتعرى في الخريفِ،
لتستدرج المطرَ،
خجولاً يأتي كشاعرٍ مبتدئ!
بقصائد حبلى بمطر الحروفِ؛
تفقد الأشجار عذريّة أحلامها..
وتغنّي للريحِ بكاملِ عُريها..
وفي نص آخر جميل من قصيدة (من انثيالات السمفونية التاسعة لبتهوفن) تتجلى الخصائص الاسلوبية وهو ينحت جماليات وسمات فنية
بِفارِغِ الشِعْرِ؛
أنتَظِرُ نَصَّك الذي لمْ يولدْ بَعْدُ !
نَصَّك الذي يَحْتَلُنِي تماماً؛
ان ما جاء به الشاعر نصوص حداثوية من حيث انها تتماشى مع روح العصر واعتماده في اشتغالاته تكثيف الجانب الدلالي لتحقيق الايقاع الداخلي من خلال جملة الانزياحات فضلا عن شعرية نصوصه
نص باذخ نابض بالروح والشعرية بانزياحات متعددة ومتنقلة، انزياحات بائنة عن فضاءات الشعرية البلاغية وبشفافية شعرية تتماهى في جسد لغة النص يتشكل من خلالها الشعريات تتجلى كألوان قوس قزح بإيقاع داخلي يتواشج مع الموسيقا صعودا بغضب وارتعاشات الوتر مع تسارع في نبضات القلب وهبوطا مع انسيابية واستسلام جناحي باشق، كما في نصه:
جنودُ كلماتِك تُحِيطٌنِي من كُلِّ صَوبٍ،
وأنا أرفعُ راياتيَ الحَمْراءَ مُستَسلِماً ..
كَباشِقٍ ..!
نَصَك الذي يَفْضَحُ الصَمْتَ الجَبانَ؛
يملأهُ ضرباتٍ للأوتارِ الغاضِبَةِ؛
اعتمد الشاعر التشبيه وهو انحراف لغوي ومفارق الذي يضفي على النص الجمالية الشعرية سيما وان للشعرية علاقة وشيجة بالجمال، والتي تتسم بها وخروجها عن المألوف واللغة النثرية المباشرة العادية الى (الميتا لغة)2 كما في قصيدته (كف من وطن)
أشرب قهوتي الصباحية؛
تحليها ذاكرتي بابتسامتك..
قهوتي المسائية مرّةٌ كالقصيدة!
نكهتها عِطر راحتيك...
*
معَ أول أزيز طائرةٍ؛
أحتمي بشوقي اليك...
ومن شوقك أستبسلُ في المعارك
الحروب شهواتٌ للقتلِ...
يفتعلها الشاذون ...
وينزفها المخدوعون...
وظف الشاعر (الكف) كرمز يحتوي في طياته الكثير من الخفايا والخبايا والأسرار وما ينطوي من ذاكرة المكان والزمان وما يكنه من حب لوطنه فهو عاشق ولهان كما هو واضح من خلال العتبة الخارجية للنص
تفتضح كفه تراب وطنه/ أكتفي بملء كفي بالتراب
فثمة إيحاءات إلى زمن الكامن في هذا النص، ما هو الا زمن بائس، ضجر بنفسه، وضاق بعصره، من وويلات الحروب وإيحاءات إلى موت، وحجم المعاناة والتشظّي في الذات الشاعرة .
فعلى مستوى اللفظ نلاحظ تكرار الحرب والأسى والقتل.. متشابه من حيث الدلالة الرمزية، كما هو جلي في مفرداتها (أزيز طائرة / استبسل في المعارك/ الحرب لعبة الاضاحي/ الحروب شهوات للقتل/ أذهب للأسر / دخلت الحرب شهيدا/ في الحرب نقتل عدوا / لكن الحروب قائمة / )
وهذا التشكل "اللفظي" متعدد الدلالات "المعنوية" حسب المواقف التي يمثلها النص.
وظَف موهبته أولا، ثم ثقافته ثانيا لإخراج نصوصه من إطاره الضيق (لفظا) إلى رحاب الدلالات العميقة (معنى) كما في المقطع الخامس من قصيدته (كف من وطن) ص54
محلتنا...
وكر للذكريات الطافحة،
كالمجاري...
الحروب شهوات للقتل..
يفتعلها المخدوعون...
لجأ الشاعر في نصوصه الاهتمام باللغة الشعرية والتكثيف الدلالي والتركيز العالي واللغة الايحائية مبتعدة عن اللغة المعيارية المباشرة
اعتمد التجريب الذي بدوره يخالف السائد من اتجاهات جمالية، أما على مستوى النصوص ففيها من الجمال والصور الشعرية مليئة بالإنزياحات اللغوية ومن استعارة ومجاز واضداد ومفارقات لفظية تبهر المتلقي.
منجز شعري يكشف عن ملكة ابداعية وامكانات عالية في تشكيل اللغة
***
طالب عمران المعموري
..........................
المصادر
1- الزرباطي طه، آخر رجال الموهيكانز، ط1، منشورات اتحاد الادباء، بغداد، 2022 .
2- الشعرية في ديوان السياب، سعدون احمد، رسالة ماجستير، الجزائر، جامعة محمد خيضر – بسكرة، كلية الآداب واللغات، قسم الادب العربي، 2010 .