قراءات نقدية
أسامة غانم: الرمز الأسطوري بديلاً عن الواقع
استلهم القاص محمود جنداري في قصة "زو – العصفور الصاعقة"*، الأساطير السومرية في بنائها، بل عمد في سردها من البداية الى النهاية على المتخيل الأسطوري فقط، ولم يتقرب نهائياً الى الزمن الحاضر، هذا ما يبدو عند القراءة للوهلة الاولى، ولكن عند القراءة العميقة، والمقارنة بين الصور المتخيلة المعلنة والصور الواقعية الخاتلة، نعثر على ما اراد القاص أن ينوء عنه الا وهو الزمن الحاضر، عن طريق المتخيل المكثف في الخطاب الرمزي – الأسطوري، في بناء نص سردي له القدرة على خلق الصور، بمعنى ابداع الصور وليس إعادة إنتاجها، ويتسم هذا النص بالتجريب والتجديد غير المسبوق في كتابة القصة القصيرة، عراقياً وعربياً، حيث نلج نص محمود جنداري الرمزي – السحري بدون توجّس، والمشحون بالأسطورة المستمدة من الواقع، مكوراً تاريخ العالم وتاريخ الإنسان منذ بدء الخليقة بين يديه ككرة من بلور، لينقلك عبرها من عصر السلالات السومرية الست الى جزيرة دلمون، ومن مدينة أوروك الى يثرب، ومن اتونابشتم الى السامري، لكي يغذي بها خيال المتلقي ووعيه، ولكي يدين ويؤشّر الحالات غير الإنسانية، وبالسرد المتداخل المخترق للزمكانية، والغاء تسلسل القصة التقليدية الأفقي، وتزاوج الفنتازي بالتاريخ، وفي اللحظة ذاتها يعمل على تأسيس وبناء نصاً سردياً بتقنيات مختلفة كلياً، مفكّكاً الأسطورة والتاريخ ملتقطاً شذرات من هنا وهناك، غير مترابطة لإعادة تركيبها، وصياغتها صياغة معاصرة برؤية شمولية، مكوناً منظومة متماسكة ليصنع منها أسطورة واقعنا الحاضر، وبهذا يترك لوحة شاملة، متكاملة، ومتداخلة، لكنها في الحقيقة أجزاء متفرقة مختلفة متعددة على المتلقي أن يقوم بإعادة تركيب هذه الأجزاء وترتيبها للوصول الى مقصد القاص والمعنى من خلال المعنى المستنبط من النصّ.
تعتبر المجموعة القصصية " مصاطب الآلهة " والتي تتضمن قصة " زو – العصفور الصاعقة "، من اجمل وأفضل ما كتبه جنداري، وهي كتابة تجريبية حداثية ظل القاص محمود جنداري متفرداً يشتغل عليها، كتابة متميزة ومهمة في القص العراقي الحديث والقص العربي،كان يصبو اليها منذ اول قصة كتبها، وكان يؤمن بالكتابة التي يسميها " المحلية الخلاقة "، ودلالة على ذلك، ففي أحد اللقاءات قال: " أنا أحب بلدي العراق، أنا محلي، قلباً وروحاً وفكراً وتطلعاً، أنا مفتوناً بتاريخ العراق، الى حد انني بدأت أرى العالم من خلال العراق، أنا محلي وسأظل كذلك"1. ونص القصة يكون نصاً مفتوحاً في تفاعله مع المتلقي، وفي تفاعل النصّ القصصي ومؤوله / الناقد، وهذا ما أشار إليه فولفغانغ إيزر في دراساته النقدية فما " هو أساسيّ بالنسبة لقراءة كل عمل أدبي هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه"2، ولأن مفهوم "الانفتاح" له علاقة حتمية صميمية بالمؤول / الناقد الذي يستهلك الأثر أو النصّ، وايضاً، يمنح النصّ المفتوح متلقيه حرية، ليتمكن من التمركز وسط نسيج من العلاقات النصية، وذلك لا يتم إلا بقراءة مفتوحة، تعمل على إكمال النهايات الناقصة وسد الفراغات في النصّ المفتوح. ومن الأمثلة التي يستعرضها إيكو في كتابه "الأثر المفتوح" في تجلي "الانفتاح" من خلال الاستعارة التجريبية التي تجعل المتلقي يعلم بأن الدلالات والرموز الموجودة في سرد القصة يتحتم عليه اكتشافها. لأنه لابد للمتلقي من " الظن بأن كل سطر في النص يخفي معنى سرياً آخر، كلمات، بدلاً من التصريح، تخفي ما لم يقال، ومجد القارىء يكون باكتشاف انه يمكن للنصوص أن تقول كل شيء عدا ما يريد مؤلفوها أن تعنيه. وبمجرد أن يدعي اكتشاف المعنى المزعوم، تكون على يقين من أنه ليس المعنى الحقيقي، حيث يكون ذلك الأخير هو الأبعد"3. وفي هذا يدرك المتلقي أن المعنى لا نهائي، ويتبدل بتبدل القراء، وتباين التأويلات، واختلاف زمن القراءة.
ليس من الممكن أبداً، الاعتماد على النقد الأسطوري فقط، في تحليل واستبطان نصْ القصة، لأن هذا سيعمل على تثبيت الرؤية الأحادية، القاصرة على الالمام بكل الجوانب، لذا يجب اللجوء في قراءتنا الى النقد الثقافي المتشعب الفروع (من فروعه النقد الأسطوري) فالنقد الثقافي يهتم بالمضمرات الدلالية الكامنة وراء السرد الجمالي الظاهر، وهو ينبني على نظرية الأنساق المضمرة، وهي أنساق ثقافية – تاريخية – معرفية – ايدولوجية، تتقن الاختفاء تحت مجازية النصوص، لذا فأن النقد الثقافي هو مشروع في الأنساق، والنسق يكون مرتبط بكل ما هو مضمر في النص، وهذا ما تميز به نص القصة " زو- العصفور الصاعقة ". ليس ذلك فحسب، كذلك يحتاج المتلقي الى مرجعيات: ثقافية – معرفية – تاريخية، لفهم معنى النص القصصي واستيعاب الفكرة، لأن القاص يعمل بقصدية ميتا نصية على احالتها خارج النص تماماً الى ما وراء السرد والى ما وراء القصة، ففي هكذا علاقة ما بين النص والمؤول، يصبح بإمكان المؤول تحديد قصد النص.
وهذا ما نلمسه منذ عتبة النص الا وهو عنوان القصة، لقد وضع العنوان بقصدية عالية، متلاعباً بفكر ومخيلة القارىء العادي، من خلال الأيحاءات المبطنة والغموض الذي يكتنف العنوان، بدلالات تتداخل فيما بينها: ابستمولوجية – أسطورية، تستعيد التاريخ الى الواقع، وتشتغل على اظهار الصورة المختفية / المستعارة من حاضر القاص القابعة تحت الصورة الظاهرة / المستعارة من ملحمة جلجامش - الماضي، صور مليئة بالشفرات والاستعارات، فالعنوان هو البوابة الأولى للدخول لأي نص، وبتفكيكه نستطيع اضاءة النص كله. فالعنوان الذي وجد على الللوح الطيني هو " طائر العاصفة – زو " فقام محمود جنداري بتغيره الى " زو – العصفور الصاعقة "، ففي هذا التقديم والتأخير بشكله البسيط، يعني الشيء الكثير وفي ذات الوقت مهم جداً، حيث يكشف للأخرين ما يعتمل في رؤيته وفكره تجاه الآخر والعالم وتجاه ذاته القلقة. زو سارق لألواح الحكمة / القدر، رؤية ايدولوجية بحتة عندما يكون المستبد يسيطر على اقدار الناس، وكذلك مسيطر على المعرفة والثقافة، فكيف سيكون الوضع؟
ففي الأسطورة السومرية، يكون الطائر "زو" هو إله ثانوي يرمز الى قوى العالم السفلي المُدمرة، ورمزاً للشر، ويسمى ايضاً بالاكدية " انزو"، وعند البابليون ينذر بالسوء، ويتصورون فيه ارواح الموتى على هيئة طيور، وهو إله يرتبط بالعواصف الرعدية، وهو طير العاصفة الخرافي في المصادر الاكدية، ويصور على شكل نسر براس اسد، يعتبر في الاساطير السومرية والاكدية، أنه إله وشيطان " نصف رجل ونصف طائر "، واسطورة " زو " أن الاله "انليل " في النسخة الاكدية، وهو نفسه الإله " انكي " في النسخة السومرية، كان يستحم حين باغته " زو " وسرق منه الواح القدر ذات القوى السحرية الهائلة التي تعطي حاملها سلطة مطلقة على الآلهة والبشر والكون واخفاءها على قمة جبل. امر " آنو " إله السماء الآلهة الأخرى باستعادة الواح القدر، رغم انهم جميعا كانوا يخشون الشيطان. وبحسب أحد النصوص، قتل زو من قبل مردوخ.
وهنا نتسأل لماذا لجأ القاص الى استعارة الأسطورة السومرية؟ وهل هناك ضرورة في استعارة الاسطورة؟ وما لذي اراد أن يقوله من خلالها؟ لقد عمل القاص على مطابقة هذه الاستعارة بالواقع الحاضر عن طريق الرمز والغرائبية ومزامنة الحدث الآني مع الحدث القصصي، وذلك بالاشتغال على المتخيَل التجريبي والابتعاد عن المباشرة في السرد، لذا يستخدم القاص الترميز والاستعارة والإحالة في السرد، لتأسيس علاقة جدلية بين المتخيل والتاريخ والواقع، وليس ذلك فحسب، بل أن هنالك علاقة متبادلة قوية بين المتخيل والتأويل، عليه يجب أن يُنظر إلى التأويل على أنه " شيء يُجري على التخييل، بالأحرى على أنه شيء يُجري في التخييل، يصبح، عندئذ، موقف مناهضة التأويل موقفاً يتعذر الدفاع عنه، لأنه مساوٍ لرفض شكل هامّ من أشكال التخييل ( الحديث ) الذي يعني بالتأويل: أي أنه يعني بمدياته وحدوده وضرورته وقصوره"4.
تبدأ القصة بمشهد الطوفان، " انهمر المطر طوال اربعين يوماً ولم يتوقف. مطر غزير واصل سقوطه في الليل والنهار وريح جامحة اعولت محتدمة بصراخ محتبس في فراغات كونية هائلة. احتربت مع الظلمة المستوطنة هناك قبل خلق العالم "**، فما هي دلالة الطوفان الملحق بالمطر، رغم أن لكلا المفردتين معنى دلالي رمزي، غير المعنى الحقيقي الفعلي، فالطوفان هو دائما يعني الموت لكل ما يجتاحه، وبالذات الإنسان، ثم تاتي مفردة " مطر " مرتين للتوكيد، بصحبة: ريح جامحة – صراخ محتبس – ظلمة مستوطنة، أي فوق الموت، موت، عكس المعنى الحقيقي الذي يعني انبعاث الحياة في كل الكائنات، واحيانا تاتي مفردة " مطر " بتفسيرات وتأويلات عديدة لدي النقاد والباحثين، فبعضهم وجد فيها الثورة، والبعض الآخر اعتبرها رمزا للانبعاث، ولكن هذه الاستشهاد يجعلنا نتسأل، ما هو قصد القاص فيه؟ " ما نظن نحن أنه هو معنى النص، لا غيره. وتتمثل هنا مهمة المؤول الرئيسة في أن يعيد، بنفسه، إنتاج " المنطق " المؤلف واتجاهاته ومعطياته الثقافية ثانية، أي باختصار: أن يعيد إنتاج عالمه. وهو يتلخص تحديداً ببناء خيالي جديد للذات المتكلمة "5. وعند العودة لمضامين أسطورة الفيضان، سوف يتكشف لنا السبب الحقيقي له، من حيث أن الطوفان حدث نتيجة طغيان وفساد البشر، وعادة ما يحل بقصاص الهي، وكذلك توصف مياه الفيضان بأنها تعمل على تطهير البشرية بولادة جديدة، كما تحتوي معظم أساطير الطوفان على بطل ثقافي يمثل رغبة البشر للحياة: زيوسدرا- اوتونابشتم – نوح. المفارقة أن هذه الشخصيات الثلاث هي لشخصية واحدة، ولكنها اتية من ثلاث حضارات مختلفة، في اللغة والزمان، فالأولى اكدية والثانية سومرية، والثالثة النبي نوح الذي جاء ذكره في القرآن في عدد من السور، وفي التوراة في سفر التكوين،وفي الانجيل، ونحن بدورنا نتسأل لماذا عمد جنداري الى أن يجعل مفتتح قصته بــ: الطوفان وقبل خلق العالم؟! " فراغات كونية هائلة، قبل خلق العالم ". ولماذا الماء والفراغ؟. " ينظر في الدم المسكوب على الطين ويقرأ بشفتيه مراحل تكوّن العالم عبر انهمار المطر وعويل الريح ". يتعرف على ذلك المتلقي عندما يرى بأن زمن القصة السردي من بداية القصة لنهايتها هو الايام الاربعين لمطر الطوفان والذي يعتبر احدى الركائز الأساسية التي تستند عليها عمليات السر القصصي لبناء القص، أي أن زمن القصة هو زمن عدد ايام الفيضان الاربعين فقط.
إما في الاستشهاد يختلف الوضع، لأن الطوفان حدث نتيجة خنوع واستسلام وجبن الناس عما يفعله الطاغي، الدكتاتور، المستبد بهم، وعليه يجب تحريك واستنهاض الوعي في ذات المتلقي، وبالتحديد الإنسان العراقي، وحثه على التمرد ورفض الظلم. ونقرأ بجمالية عالية عندما يصف استبداد وعجرفة ووحشية اله السماء أنو تجاه الشعب: " من اور الى حيث يجلس – آنو – هنا فوق جبل امانوس يُسبح لنفسه ويقرأ في النسخة الاولى من تلمود بابل. كلمة كلمة ومن حوله، آمين. جانباً ينتظر مرور الاقوام تحت قدميه، مباركاً بقليل من الاهتمام حشوداً تعبر على شفا صراط مستقيم كأنه حد السيف، من كتلة النور الأبهى الى كتلة الظلام الابهى، وينقل نظراته التي لا تخطىء، من قبل آنو الجالس على منصة التسلط ".
في القصة تتكرر ثنائيات كثيرة: الحياة / الموت، النهار / الليل، الضوء / الظلام، الآلهة / الإنسان، السلام / الحرب. ولكل مفردة من هذه الثنائيات لها دلالتها واحالاتها المجازية مع مرجعيتها الواقعية.
القصة موشومة بالدم ومختومة بالدم المسفوك، اينما تولي وجهك تشاهد نافورات الدم منتشرة في كل مكان وفي كل زمان، فالاقمار تنز دماً والشموس تنزف دماً، فهي قصة تحاول ان تقول بأن الإنسان قد كتب عليه لعنة الدم الابدية منذ بدأ الخليقة والفناء:
* اختفت نينوى. سقطت الى الابد وهلك ملكها ابلط بعد خمس سنوات من الاستحمام في احوض الدم.
* والشمس التي تظهر دوماً وهي تنزف دماً. فتاريخ سفك الدم منذ الخليقة الى يومنا هذا:
* سقطت نينوى. سقطت الى الابد وهلك ملكها ابلط بعد خمس سنوات من الاستحمام في احواض الدم
* اسفارأً لم تعلو ولم يجف مداها بعد، ومدادها من الدم والدم لايجف سريعاً في أول ايام المطر.
* قتل من اجل مجدها خمبابا العظيم المنذور لحراسة غابة الارز.
* حياة ارابخا السرية، غسلها المطر / فسال حبر الكتابة من عيني الاميرة فملا نهر الخاصة واختلط الدم ببحر دجلة وبحر الفرات.
* من ذبح نبونيدس وقطع راس مروان ولسانه وحز رقبة ابلط وذبح اهل بغداد في 1258؟ من هدم الكعبة؟.
- نبونيدس ملك بلاد بابل تزوج من ابنة نبوخذنصر وهي نكتوريس Nictoris من ما اهله إلى حكم الامبراطورية البابلية. كان أحد ملوك بابل استلم العرش في عام 556ق.م وتنحى عن العرش سنة 539ق.م، بعد غزو الفرس للعراق بالتحالف مع الليديين بقيادة كورش وكانت نهاية الدولة البابلية بإزاحته عن الحكم.
- وهزم «مروان» في معركة «الزاب» الحاسمة، التي وقعت بينه وبين عبد الله بن علي بن عبد الله، حيث التقي الجيشان في منطقة الزاب بين الموصل وأربيل، وانهزم جيش «مروان» وفر إلى مصر، حيث قتل في قرية «أبو صير» بالجيزة، وقطع رأسه ووجه به إلى عبد الله بن علي فنظر إليه وغفل، فجاءت هرة، فاقتلعت لسانه وجعلت تمضغه.
- فى سنة 1258 سقطت بغداد فى ايد المغول ودمروها وأبادوا سكانها وقبضوا على الخليفة العباسي المستعصم بالله ورجالته وركلوه بالرجلين حتى الموت.
- هدم أبو الطاهر القرمطي الكعبة عندما هجم على الحُجاج بجيشه، فقتل منهم ثلاثين ألفاً داخل الحرم المكي، حيث قال قولته الشهيرة: "أنا، انا أخلق الخلق، وأفنيهم أنا"، وبعد أن انتهى القتال أمر أبو الطاهر أن تردم بئر زمزم بجثث القتلى، وسرق الحجر الأسود وكسوة الكعبة أيضاً، وظل الحجر بحوزته في البيت الذي بناه أبوه ما يزيد على عقد من الزمان.
وبالرغم من أن قصة " زو- العصفور الصاعقة " مستمدة من ملحمة جلجامش، الا ان القاص يخرج من النص ليستعير من التاريخ الذي يعتبر قريب للحاضر الحالي بالنسبة لتاريخ ملحمة جلجامش، أي أن ما اراد أن يقوله جنداري هو أن تاريخ العراق منذ عصر السلالات وليومنا هذا هو عبارة عن حروب ومذابح وقتل واغتيالات وانقلابات دموية ومؤامرات، أي يعني بالمختصر نزيف الدم العراقي مازال مستمراً عبر القرون، بل أن هناك مفارقة مثيرة مدهشة للمتلقي على شكل تنبؤ لما سيكون عليه العراق بعد مائة سنة القادمة، ولكنها تقع عام 2003م، عام الاحتلال الامريكي للعراق، وما قاموا به من قتل وتعذيب للسجناء في ابو غريب واضطهاد،وسرقة اطنان من الذهب من البنك المركزي، ثم يسلموه وهو في فوضى عارمة لسياسي الصدفة الذين ولائهم لدولة جارة رغم ان القصة كتبت عام 1988م وهو رحل عن هذا العالم 1995م:
" ان المائة سنة المقبلة فيها مجاعات وطواغيت. طاعون وطوفان / حرائق واغتيالات ونساء يحكمن بالخفية واعتداءات وزنى بالمحارم وسرقات ".
إن كل قراءة للنص تحوي مادة موضوع ضمنية يحيل اليها النص وتوجه استيعاب القارىء إلى فهم يمكن أن يقال عنه إنه صحيح، الى حدّ ان كل من يقرأ النص يكون مأخوذاً بالمعنى المقصود ويستلزم " فهم النص فهماً لمادة الموضوع التي يتحدث عنها النص، في الدوافع الادراكية التي تكمن خلف البحث وذلك لفهم النص وجعله موضوعاً للبحث. ولهذا السبب ينبغي أن يشتمل الفهم النصي على عملية فهم ذاتي أيضاً: إذ ان ما ينبغي فهمه ليس كلمات النص وعلاقاتها فقط، بل اسباب ممارسة النص دعواه في القارىء أيضاً، وذلك لأن القارىء هو المخاطب المباشر في ذلك النص"6. فاللغة في النص تحمل اسرار الذات واسرار المتخيل سوية.
منذ السطور الأولى، يعمل القاص على اقتران الفجر بـ الخلق ونشوء المدن / حضارة والسيف / ابادة، وهذه المفردات تتضمن الكثير من الرموز والدلالات التي تحيل المتلقي الى القيام بربط الداخل بالخارج في النص القصصي، وكيفية نشوء حضارات وعصور جديدة تسود ثم تندثر وتختفي لا يبقى منها الا الأثار، وحقب متتالية مختلفة:
- بدأ الخلق / حاول الخالق / بحد السيف.
- انشق الفجر واتسع حد السيف.
- انشق الفجر قبل ان تظهر المدن.
" بدأت المدن تظهر / والازمان تنضج / والحقب تتحدد بعلاماتها، انبياءً أو ملوكاً أو رؤى والانعطافات تداخلت بدمائها الشرسة كما يتداخل الضوء بالظلام. والعالم بدأ يغادر فراغاته التي يسبح بها ويتوضح يوماً بعد يوم رؤى من داخل المطر / وعبر انهماره البليد ".
وظهرت نينوى /
كما يظهر البرق / ظهرت نينوى.
اختفت نينوى.
من الضوء الى الضوء.
إما اللعب بالأزمنة والوقائع التاريخية، فهي كثيرة جداً، وعلى سبيل المثال نأخذ المقطع التالي الذي يتضمن كذلك سخرية واستهزاء:
" تضايق آنو وخفت نوره ولبس نعليه من على منصة التاريخ وقال اجعلوا من هذه مبولة / وهم بالنهوض ولكنه لمح آدم وزوجه يُطردان من الجنة في اليوم الثالث من ايام المطر الأربعين ظهر ابن شحر بجسده الناري يجر خلفه آدم وزوجه بحبل ".
ففي القصة ربط مباشر بين السخرية الأدبية وبين الأسطورة السومرية، والتهكم فيها ليس فقط لحفظ التاريخ، ولكن ليُسْأل السلطة،وعندما ترتبط بالهجاء كما في قصة زو، فأن التهكم يأخذ بكل تأكيد ابعاداً ايدولوجية اكثر دقة، ولأن أسلوب الما بعد الحداثي " يتطلب الاستدعاء التهكمي الساخر المتعمد للتاريخ بأشكاله البنائية والوظيفية "7. حيث نجد أن " المشابهات الشكلية تشير الى الفروق التهكمية في المضمون وفي الشكل. وهنا تؤدي القوة الهجائية للتجاور التهكمي دورها "8.
إن اكثر الذين تناولوا القصة بالدراسة والتحليل، لم اشاهد أي احداً منهم يشير ولو مجرد اشارة للتساؤلات المبثوثة بين الاسطر والتي جاءت كأنها مقحمة بالسرد وليس لها علاقة به، بينما في الحقيقة الاجوبة لهذه التساؤلات متواجدة في النص، وقريبة جدا، فقط تحتاج الى حفر وتدقيق للسطور، ولكي يكتشف المتلقي أن التاريخ يعيد نفسه، كما يحاول القاص أن يوصل ذلك للمتلقي، مرة على شكل مأساة، ومرة أخرى على شكل كوميدية كما قال ماركس:
"هل الارهاب علامة؟ هل السؤال علامة؟ هل الصوت علامة؟ هل المعابد علامة؟ هل النورس الابيض علامة؟ هل القتل علامة؟ هل المجاعة علامة؟ هل الأبواب علامة؟ هل المآذن علامة؟ هل الغواية علامة؟ هل الكتابة علامة؟ ".
سأتناول علامتين فقط، لتوضيح ما ارد بهما القاص، من معاني وهما:
هل القتل علامة؟ / هل الكتابة علامة؟
نعم علامة، لأنها تدلل على فاعلها ومقتفي أثرها، ويسميها البعض بالرمز. ويعدّ هذا المصطلح على حد قول بارت من المصطلحات الغامضة جداً بسبب استخدامه في معاجم مختلفة، فالرمز، بمعناه العام يرتبط بالفعل الإنساني الذي يستطيع الدخول الى أعماق الأشياء واستبطان مكنوناتها. " هل الكتابة علامة؟ اهي موج ام برق يخطف عقول البائسين؟ "، هنا يجيب القاص على السؤال بسؤال، بمعنى أن على المتلقي استخلاص الجواب من بين الأسئلة، لتكون الكتابة الرمز الثوري لعقل المثقف الحقيقي، لقد استعاض جلجامش عند فقده لعشبة الخلود، بأن يتوجه الى الأعمار، والتصالح مع مواطني مدينته اوروك، بالإضافة الى كتابة ملحمته، كان خلوده، فالكتابة اصبحت هي الخلود وهذا خاضع لتأويلات مختلفة كثيرة حسب القراء، وحسب وجهات نظرهم المتعددة. ولمعرفة معنى هذه العلامات يجب أن تكون هنالك امكانية فهمها وتوضيحها، أي " الطرق التي بها تصنع المعنى، الطرق التي يتحصل بها القراء على معنى هذه الاعمال. فإن المعنى يربط قيم ذوقٍ ما بالعمليات التي يؤديها المرء للوصول اليه.أن نصاً ما يمكن أن يصنع معنى، وشخصاً ما يمكن أن يصنع معنى من نصاً ما. ولو أن نصاً أصبح يصنع معنى بعد أن كان لا يصنع معنى في البداية، فذلك أن شخصاً ما قد صنع له معنى. إن صناعة المعنى توحي بان على المرء لكي يدرس الدلالة الأدبية أن يحلل العمليات التفسيرية" 9.
هذا النمط من الأدب التجريبي ما بعد الحداثي قام بالاشتغال عليه محمود جنداري في مجموعته الأخيرة " مصاطب الآلهة " حيث يتصف غالباً بمناهضة السلطة السياسية، ولكن ليس بصورة مباشرة، بل عن طريق الاستعارة والمجاز والتخييل والتورية، وهذا ادى الى الالتقاء مع مختلف أنماط النظريات النقدية الحداثية، وبالأخص نقد استجابة القارىء، وجمالية التلقي، والتأويلية، ونظرية النقد الثقافي، والنظرية الجنسية، ونظرية ما بعد الاستعمار، والتعددية، وغيرها، ويتميز بالانعكاس الذاتي واحياء البعد الشكلي من القصة، وهنا نتسأل مرة أخرى لماذا لجأ محمود جنداري الى أسطورة جلجامش في كتابة قصته " زو – العصفور الصاعقة؟، ولماذا هذه الأسطورة بالذات؟ لأن دلالتها تشير الى حالة التشظي، وفي ذات الوقت تعمل على تكريس هذه الحالة، لتميزها بالتلاعب في الثيمات والامكنة والازمنة، والشخصيات. وتميزها كذلك بانها تقوض نظاماً عن قصدية عالية لتشكل مكانه نظاما مغايرا للسابق.
تنتهي القصة بمشاهدة كبير الآلهة " انو "، وهو في حالة الغلمة والاشتهاء للفتاة فائقة الجمال، ابنة الكاهن تلبونايا، وهو مخمور، يستدرجها بالوعيد / الخوف، وهو في خضم هذه العملية، يقوم زو بسرقة الواح الحكمة للمرة الثانية (هنا تستبدل جملة الواح القدر بالواح الحكمة بينما في كل القصة يسميها الواح القدر) نشواناً:
" تحمل اسرار ارابخا في سجلاتها السرية، اقتربت الفتاة ممسكة باللوح فوق راسها وانحسر الثوب قليلاً عن حلمة نهدها، بهت انو فجلس على منصة الشهوة. تابع اهتزاز النهد وطلب شراباً. وامر ان يركن السجل عند اقدام المنصة / ان الواح الحكمة والنواقيس المقدسة لا تزال خلف اسوار اوروك. بينما انقض الاله زو واختطف لوح ارابخا وطار به نشواناً من جبل الى جبل ".
أخيراً. هل الشهوة علامة؟.
***
أسامة غانم
...................
الهوامش والاحالات
*محمود جنداري – " زو – العصفور الصاعقة " قصة، مجلة الأقلام العدد 11-12 / 1988م، بغداد.
** جميع الاقتباسات التي ترد في الدراسة هي من قصة " زو- العصفور الصاعقة " والمحصورة ما بين الصفحات 152 – 164 في مجلة الاقلام.
1 - حوار مع محمود جنداري اجراه هاتف الثلج في مجلة " أفاق عربية " العدد 11 / 1989م، بغداد / العراق.
2 - تحرير: سوزان روبين سليمان وإنجي كروسمان - القارىء في النص: مقالات في الجمهور والتأويل، ترجمة: د. حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت / لبنان، 2007م، ص 129.
3 – وليم راي – المعنى الأدبي:من الظاهراتية الى التفكيكية، ترجمة: د يوسف يوئيل عزيز، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد / العراق، 1987م، ص 175.
4 – القارىء في النص: مقالات في الجمور والتأويل. ص 198- 199.
5 – ديفيد كوزنز هوي – الحلقة النقدية: الأدب والتاريخ والهرمنيوطيقا الفلسفية، ترجمة: خالدة حامد، منشورات الجمل، كولونيا / المانيا، بغداد / العراق، 2007م، ص 27. الاستشهاد يعود للناقد الامريكي أ د هيرش.
6 – المصدر السابق،ص 212.
7 - ليندا هتشيون – ما وراء القص التاريخي: السخرية والتناص مع التاريخ، ترجمة: أماني ابو رحمة، المجلة الثقافية الجزائرية، 10-6-2011م.
8 – ليندا هَتْشيون – سياسة ما بعد حداثية، ترجمة: د حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت / لبنان، 2009م، ص 351.
9 – جوناثان كلر – مطاردة العلامات: علم العلامات، والأدب، والتفكيك، ترجمة: خيري دومة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018م، ص 82.
*نشرت في مجلة تامرّا العدد 16- 17 تشرين الثاني 2022م. بعقوبة / العراق.
* نشرت في مجلة الرقيم العدد 34 / 2023م، كربلاء – العراق.