قراءات نقدية
نزار سرطاوي: الرواية التاريخية.. خنجر سليمان لصبحي فحماوي نموذجًا
كان وهج النار المتدفق بلهب هادر يحرق يد سليمان الحلبي اليمنى المثبتة بجنزير نحاسي يُكبِّلها بعدّة لفّات على منصة حديدية ثقيلة تقف بارتفاع صاحبها، والنار تشوي لحمه الذي صار يَحْمَرُّ ويسوَدُّ وينقبض ويتلوّى متساقطًا عن بقايا أصابع يده البيضاء على شكل كُتلٍ صغيرة مُتْلَفة مُتفحِّمة، إلى أن سقطت كل هذه النُّتَفِ المحروقة على تراب تل العقارب، بينما يقف القُضاة وكبار الضباط الفرنسيين وضباط الأمن والحراس والعساكر ورجال الدين الأزهريون والمسيحيون والصحافيون، والمؤرخون، يتأملونه بعيون جاحظة، معظمها بشماتة الانتقام، وبعضها بالشفقة عليه.. كانوا يتجمهرون حوله بأفواه مفتوحة وعيون مبحلقة، بينما هو يقف في وسطهم بأعصاب تغلي، رابط الجأش لا يبدي اهتزازًا، ونظراته تحدِجُهُم كخِنْجَرَين تخترقان أعينهم المجرمة.
بهذا المشهد الوحشيّ المُروّع الطافح بالفظاعة والقسوة والألم يفتتح صبحي الحماوي روايته التاريخية خنجر سليمان، التي يقدم فيها تسجيلًا سرديًا روائيًا لحدث تاريخي هام شهدته منطقتنا، أثناء الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام في أواخر القرن الثامن عشر (1798) بقيادة نابوليون بونابارت. كان نابوليون يهدف إلى تأسيس مستعمرة فرنسية كبرى في المنطقة. وقد كان لقيام الشاب السوري سليمان الحلبي باغتيال الجنرال كْلِبير في 14 حزيران عام 1800 تأثيرًا بالغًا على الحملة ساهم في رحيل القوات الفرنسية عام 1801.
ليست خنجر سليمان الرواية التاريخية الأولى التي يخطها قلم صبحي فحماوي. فقد سبقتها على سبيل المثال قصة عشق كنعانية (2009)، أخناتون ونفرتيتي الكنعانية (2020)، و هاني بعل الكنعاني (2022). ولعل القاسم المشترك بين هذه الروايات جميعًا هو أنها تتناول حُقَبًا من تاريخ أمتنا واجهت خلالها تحدياتٍ جسامًا لم تكن تهدف إلى ضعضعتها ونهب خيراتها فحسب، بل سعت إلى طمسِ هويتها العربية، أو بالأحرى، القضاءِ على كينونتها ووجودها، كما في هاني بعل على سبيل المثال.
لعل من المفيد، إذ نصنف خنجر سليمان روايةً تاريخية، أن نتحدث بإيجاز عن الرواية التاريخية تاريخًا وتكوينًا. يسجل االدارسون أن أول عمل روائي تاريخي هو رواية ويفرلي للأديب السكوتلندي السير والتر سْكوت، التي صدرت عام 1814. وبعد صدورها، بدأ العديد من الكُتّاب الغربيين يقبلون على كتابتها. ولعل أكثر الروايات التاريخية شهرةً لدى القارئ العربي الحرب والسلام (1814) للكاتب الروسي ليو تولستوي، البؤساء(1862) للكاتب الفرنسي فكتور هوجو، ذهب مع الريح (1936) للكاتبة الأميركية مارغريت ميتشل، و مائة عام من العزلة (1967) للكاتب الكولمبي غابرييل غارسيا مركيز.
أما في الأدب العربي فيعتبر الكاتب اللبناني جُرجي زيدان صاحب سلسلة روايات تاريخ الإسلام أبا الرواية التاريخية العربية، وكانت رواية المملوك الشارد (1891) الأولى في هذه السلسلة. وفي مطلع القرن العشرين اقتحم العديد من الكتاب العرب باب الرواية التاريخية. وقد قامت الباحثة الجزائرية سليمة بالنور في بحثها الموسوم "الرواية التاريخية: بين التأسيس والصيرورة" بتتبع تطور الرواية التاريخية العربية ورصد أعمال عشرات الروائيين الذين عنوا بكتابتها. ونكتفي منهم بذكر نجيب محفوظ في ثلاثيته التاريخية: رادوبيس (1934) و عبث الأقدار (1939) و كفاح طيبة (1944)، واسيني الأعرج في ذاكرة الماء (1997) و شرفات بحر الشمال (2001)، ورضوى عاشور في ثلاثية غرناطة (2001) و الطنطورية (2012).
وبطبيعة الحال فإن عددًا لا بأس به من الروائيين الأردنيين كتبوا الرواية التاريخية. ونكتفي بذكر أربعةٍ منهم ورواية واحدة لكل منهم: هاشم غرايبة، (بترا، 2006)، إبراهيم نصر الله (قناديل ملك الجليل، 2012)، سميحة خريس (فستق عبيد،2017)، وأحمد أبو سليم (ياسين،2021).
لم تحظَ الرواية التاريخية باهتمام كافٍ إلا بعد مرور اكثر من 120 عامًا على صدور رواية والتر سكوت. ففي عام 1937 أصدر الكاتب المجري جورج لوكش كتابه الشهير الرواية التاريخية. وقد عرّف لوكاش الرواية التاريخية بأنها "جنسٌ أدبي يجمع بين التمثيل الفني للشخوص وحياتهم الفردية في إطار السياق الاجتماعي والتاريخي الأشمل الذي يتواجدون فيه". ووجدت آراء لوكش صدى واسعًا لدى النقاد والباحثين بعد أن تُرجم كتابه إلى العديد من اللغات. ومنذ ذلك الحين بدأت العناية بدراسة الرواية التاريخية تتزايد، وظهر العديد من الباحثين والمُنَظّرين، الذين شكلت آراؤهم ما يمكن أن نطلق عليه نظرية الرواية التاريخية. وكان بين هؤلاء كُتاب بارزون مثل الروسي ميخائيل باختين والألماني إريك أورباخ والكندي نورثروب فراي. ويُمثل هؤلاء الرعيلَ الأول. أما الرعيل الثاني فنذكر منهم الإنجليزي دورِس ليسنغ، والأميركي هيدن وايت، والإيطالي فرانكو موريتي، والكندية ليندا هاتشيون. وقد أسهمت كتابات هؤلاء النقاد في تخصيص مساحة أكبر للرواية التاريخية واعتبارها نوعًا مستقلًا عن سائر أنواع الرواية.
أما الباحثون العرب فقد اهتم عددٌ لا بأس به منهم بالرواية التاريخية، وخصوصًا العربية. أذكر منهم على سبيل المثال سعيد يقطين، قاسم عبده قاسم، شريف بموسى، محمد القاضي، حلمي القاعود، نضال الشمالي، وسليمة بالنور. هؤلاء النقاد وسواهم لم يتأخروا عن نظرائهم الغربيين في تناول الرواية التاريخية فحسب، بل إن الغالبية العظمى منهم مالوا إلى الاعتماد على طروحات الغربيين واقتباس آرائهم، فشكلت النظريات الغربية بالنسبة لهم أهم المرجعيات. لذا نجد في معظم كتاباتهم أصداءَ للطروحات الغربية في هذا المجال.
الرواية التاريخية إذن اكتسبت حيزّا خاصًّا بها شأنها شأن أنواع الرواية الأخرى، كروايات الرعب، والجريمة، والغموض، والرومانس، والإثارة، والخيال العلمي، وسواها. فهي تشترك مع هذه الأنواع في كونها عملًا سرديًّا نثريًّا خياليًّا، كما تشترك معها في العناصر الأساسية للرواية، كالحبكة وعنصري الزمان والمكان، وكذلك الشخوص وزاوية الرؤية والصراع.
أمّا ما يُميّز الرواية التاريخية عن سائر ضروب الرواية فهو، كما يشي اسمها، أنها تتناول أحداثًا تاريخية، فهي تماثل التاريخ من حيث أنه هو أيضًا عمل سردي يتناول أحداثًا تاريخية. غير أنها تختلف عن السرد التاريخي في أنها تتناول الأحداث تناولًا فنيًا تمتزج فيه الحقيقة بالخيال. وبمعنى آخر فإن السرد في الرواية هو إعادة صياغة للتاريخ من منظور روائي فنّي. ومن هنا فإن للرواية التاريخية خصائصَ تميزها عن أنواع الرواية الأخرى. فعلاوة على ما ذكرت حول عنصريِ الزمان والمكان وعن تناول أحداث تاريخية حقيقية، ومزج هذه الأحداث بالخيال من خلال السرد، فإن الرواية التاريخية تتيح لنا الإحساس بالزمان والمكان وتخوض في موضوعات ذات صلة بكل من الماضي والحاضر. كما أنها تمزج بين الشخصيات التاريخية والمتخيلة. لذا يتعين على كاتب الرواية إجراء بحث شامل ليكون دقيقًا في تصوير الفترة الزمنية التي تدور خلالها الأحداث، آخذًا بعين الاعتبار السياقَ الاجتماعي والثقافي للأحداث، وأحيانًا يلتزم باستخدام لغةٍ وحوارٍ مناسبين للفترة الزمنية. وربما يرتأى أن يؤكد على الإقرار بالبحث، فيأتي على ذكره المصادر التي استعان بها في كتابة روايته.
***
من هذا المنطلق يمكننا أن نقرأ خنجر سليمان للروائي صبحي فحماوي باعتبارها تمثل الرواية تاريخية تمثيلًا صادقًا، ليس لأنها تغطي حقبة تاريخية بعينها فقط، بل لأن عناصر الرواية التاريخية تتمثل فيها تمثلًا إبداعيًا كما سنلاحظ تاليًا.
تتلخص الرواية في أن سليمان محمد الأمين بطل الرواية، الذي شبَّ وترعرع في مدينة حلب، يسافر إلى مصر بهدف الدراسة في الأزهر. وبعد ثلاثة أعوامٍ من الدراسة يعود إلى حلب، لكنه لا يلبث أن يسافر إلى مصر ثانية، حيث ينجح في تنفيذ ما عقد عليه العزم، وهو قتل القائد الفرنسي، الجنرال كلِبير. وإثر ذلك يقبض عليه الفرنسيون ويحكمون عليه بالإعدام على الخازوق بعد إحراق يده اليمني.
لقد اختار الروائي هذا الحدث الهامَّ من تاريخ أمتنا، الذي نعرفه جيدًا، فقد قرأنا هذه المعلومة في إطار دراستنا للتاريخ في المرحلة الثانوية. غير أن فحماوي حوّل هذا الحدث، الذي لم يستغرق سوى دقائقَ معدودةٍ، إلى نقطة ارتكاز في نسيجة الروائي، الذي يغطي نحو عقدين من الزمن. وبطبيعة الحال فإن هذا الامتداد الزماني واكبه امتداد مكاني. فاغتيال كليبر حدث في حديقة قصره في القاهرة. لكن أحداث الرواية غطت مساحةً جغرافيةً شاسعة امتدت من حلب إلى القاهرة، مرورًا بالعديد من المدن في بلاد الشام ومصر. وبذلك استكملت الرواية عنصرين هامين من عناصر الرواية. الأول هو تناول واقعةٍ تاريخية، والثاني هو الزمان والمكان اللذان جرت فيهما أحداث الرواية. وهنا يُسجّل للكاتب بَسْطُ احداث روايته على هذا الامتداد البانورامي زمانًا ومكانًا، ما أعطاها أبعادًا درامية تثير اهتمام القُرّاء والنقاد على حدٍ سواء.
أما العنصر الثالث للرواية التاريخية فيتمثل في مزجها بين الحقيقة والخيال بصورةٍ احترافية. فالحقائق التاريخية معروفة وتبدأ من الفصل الأول، حيث نتعرف إلى الطفل سليمان محمد الأمين وهو لم يتجاوز الأربعة الأعوام. وفي هذه المعلومة دِقّة تاريخية واضحة. فالزمان هو العام 1781، وسليمان، كما تشير سيرته التاريخية من مواليد عام 1777. والفرق بينهما أربعة أعوم. أما المكان فهو حلب، وهذه أيضًا حقيقة، ومثلها أن والده كان يعمل في التجارة. لكن تفاصيل حياة هذا الشاب الذي كان مغمورًا قبل اغتياله للجنرال الفرنسي هي في غالبيتها من نسج خيال الكاتب. وقل الشيء نفسه عن تفاصيل رحلته من حلب إلى مصر التي رافق والده في جزء كبير منها. فثمة تفاصيل كثيرة عن العلاقات التي تربط والده بالكثير من تجار المدن التي يمرون بها. ولا بد أن تكون تفاصيل هذه العلاقات والمبادلات التجارية وما تشكله من سياق اجتماعي هي من اختلاق الكاتب. أما أسماء الأماكن والأسواق، كالمسجد الأموي وسوق مدحت باشا وسوق الخياطين في دمشق وقصر هشام في أريحا وغيرها من الأماكن التي ربما لا يزال معظمها باقيًا على حاله هذه الأيام، فهي أسماءُ حقيقية يعرفها الكاتب ويعرفها الكثير من القراء. هكذا فإن الأماكن والتواريخ الحقيقية تُشكّل هيكلًا عظميًا ينسج حوله الكاتب تفاصيلَ تتناسب معه لتُشَكِّلَ الملامح الخارجية، ما يجعل الرواية كيانًا عضويًا متكاملًا.
الشخصيات بدورها تتصل اتصالًا وثيقًا بهذا المزج بين الحقيقة والخيال. فثمة شخصيات تاريخية حقيقية تتفاعل مع الشخصيات الروائية. فالجنرال كلِبير وأعوانه وسليمان الحلبي ووالده وزملاؤه الذين حُكِم عليهم بالإعدام وكأنهم شركاء في الجريمة، وغير هؤلاء كثيرون يضيق المجال عن ذكرهم، هم أناس حقيقيون مذكورون في كتب التاريخ. ومثل هؤلاء يضفون على الرواية صفة الأصالةً. أما الشخصيات الخيالية التي يخترعها المؤلف كتلك التي يتفاعل معها سليمان في حلب ومعظم الشخصيات التي يقابلها هو ووالده أثناء الرحلة من حلب إلى غزة، فتمثل الخبرات والنضالات ووجهات نظر الأشخاص الذين يعيشون في ذلك المكان وتلك الحقبة.
وهكذا فإننا نحن القرّاءَ نصدق الرواية بكل تفاصيلها، دون الالتفات إلى ما هو حقيقي وما هو خيالي. ومثل هذا الانسجام مع أحداث الرواية هو أيضًا من خصائص الرواية التاريخية المصممة جيدًا. فهو يمنحنا إحساسًا قويًا بالزمان والمكان، وينقلنا إلى العصر التاريخي ويجعلنا نشعر بالانغماس في عالم الماضي، خصوصًا إذا جاءت الأحداث في إطار سياقها الاجتماعي والثقافي. ولا شكّ أن رواية خنجر سليمان تتعمق في الأعراف الاجتماعية والثقافية في ذلك الزمن، وتفسح لنا المجال لإلقاء نظرةً ثاقبةً على حياة الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية والخلفيات. وعلاوة على ذلك نتعرف من خلالها على جوانب مختلفة من السلوك البشري، والأعراف السائدة في الماضي.
لكن هذا المزج بين الحقيقي والخيالي في خنجر سليمان لم يأتِ اعتباطًا. فقد استقى فحماوي الأحداثَ التاريخية من المراجع والمصادر الموثوقة أسوة بما يفعله كتاب الرواية التاريخية المحترفون. وقد حرص على ذكر ذلك صراحةً في الفصل الذي يحمل الرقم صفر في الصفحات الاولى من الرواية، حيث يقول: "وكان أول ما قرأت هو كتاب المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" إضافة إلى كتب أخرى كثيرة غير هذا الكتاب.. ورحت أُرتِّبُ الوقائع المذكورة، وأنسج عليها من مخيلتي الأدبية." وفي أماكن لاحقة ذكر الكاتب مراجع أخرى. وعلى سبيل المثال أشار غير مرة إلى ما أوردته صحيفة الاحتلال الفرنسي "كورييه دي ليجيبت" حول مراسيم تشييع جثمان كلِبير. كما اتصل الكاتب ببعض الأكاديممين من حلب للحصول على معلومات حول سليمان الحلبي ومن القاهرة لمعرفة المزيدعن وقائع الاغتيال. كذلك فإن المؤلف تعرف على الكثير من الأماكن التي وردت في روايته خلال زياراته إلى سوريا وفرنسا وإقامته في مصر وزياراته المتكررة لها. ولا ريب أن المراجع التاريخية التي اطّلع عليها والأماكن التي زارها شحذت مخيلته وشكلت مصدر إلهام له ليضيف التفاصيل المناسبة لأحداث الرواية.
السؤال الذي قد يطرحه القارئ الذي لا يجد في الرواية التاريخية ما يستحق الاهتمام: ما علاقتنا بأحداث طواها الزمن؟ وما الذي يمكن أن نخرج به من رواية مثل خنجر سليمان؟ والحقيقة أن ما يضفي أهمية خاصة على الرواية التاريخية هو انعكاس القضايا المعاصرة في مجملها كما في تفاصيلها. فهي تقارن بصورة ضمنية بين الأحداث التاريخية والقضايا المعاصرة. ولا يساورني أدنى شك في أن فحماوي كتب هذه الرواية وعينه على الواقع العربي. فهو من ناحية يتحدث عن الاستعمار الفرنسي وعدوانه الظالم على أجزاءَ من الوطن العربي. فهؤلاء الفرنسيون يمثلون المستعمرين كافة، الذين يدعّون أنهم يمثلون قمة الحضارة الإنسانية، ومع ذلك فإنهم يتعاملون مع الشعوب بمنتهى القسوة والوحشية والهمجية.
كذلك فإن فحماوي يرى أن للماضي ارتباطًا وثيقًا بالحاضر وتأثيرًا كبيرًا عليه. فالاستعمار الفرنسي عاد للاعتداء على الشعوب العربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وما زال الفرنسيون وسواهم من الدول الاستعمارية يحيكون المؤامرات ضد هذه الشعوب. وتأكيدًا لهذه النزعة الإجرامية يُذكرنا بأن فرنسا ما تزال تحتفظ في "متحف الإنسان" في بارس بجماجم الكثيرين ممن فتكت بهم جيوشها في الدول التي استعمرتها، ومن بينها جمجمة سليمان الحلبي، التي حصل فحماوي على صورةٍ لها، واستخدمها في غلاف روايته، وجعل في أسفلها صورةً للسكين التي غرزها سليمان في صدر كلِبير وأحاطهما بالسواد تذكيرًا للقارئ بالحقد الاستعماري العميق. وهذا يمثل انحياز فحماوي لقضايا الأمة.
كما يؤكد فحماوي هذا الارتباط بين الماضي والحاضر في إشارات لاذعة يُلمّح من خلالها إلى أن التاريخ يعيد نفسه. فمثلًا يتحدث بسخرية مكشوفة عن "التنسيق الأمني" الذي يقوم به "أبو محمد" مختار إحد القرى (ص 99). ويستخدم العبارة نفسها في حديثه عن "أعضاء ديوان الأزهر" الذين يصفهم بالجواسيس وعملاء التنسيق الأمني مع الاحتلال (ص 270). وهو بذلك يذكرنا بالتنسيق الامني في فلسطين "مع قوات الاحتلال الصهيوني بأسلوب لا يخلو من سخرية مريرة، وكأنه ينبهنا إلى أن التاريخ يعيد نفسه.
***
خنجر سليمان إذن تحمل كل تلك الخصائص التي تجعل منها رواية تاريخية بامتياز – روايةً تتناول سيرةَ بطل ضحى بحياته في سبيل حرية شعبه في تلك الحقبة الهامة من تاريخ شعبنا العربي. لقد رأى فحماوي في سليمان الحلبي بطلًا يكاد يكون أسطوريًا ناضل بطريقته الفريدة في سبيل حرية "شعبه". ومن الواضح أن سليمان السوري الحلبي كان يرى أن أهل مصر هم شعبه أيضًا. وهذا يدل على أن النزعة القومية الضيقة السائدة في أيامنا هذه، والتي هي صناعة استعمارية بامتياز، لم تكن شائعة في تلك الحقبة. بل كانت الشعوب العربية ترى نفسها شعبًا واحدًا. من هنا فإن رواية خنجر سليمان بالنسبة لفحماوي هي بمثابة لبنة أخرى في مشروعه الإبداعي الذي ينصب في مجمله على طرح قضايا الأمة.
***
نزار سرطاوي