قراءات نقدية
سهير أبو جلود: سعد ياسين يوسف والنظام اللغوي المبتكر.. قراءة نقدية
تتناول هذه القراءة شعر سعد ياسين يوسف من خلال محورين: الأول عن تعريف شاعرنا للشعر والثانية عن أهم سمات نصوصه الأخيرة بشكل خاص .
قبل سنوات كنت بصدد جمع تعريفات الشعراء عن الشعر - بعد أنْ اعتدنا قراءة تعريفات الشعر من النقاد - وقد جمعت تلك التعريفات في كتابي الموسوم ب (ما الشعر؟) فتوصلت إلى أنَّ تنوع المنابع الفكرية للشعراء يقود بالضرورة إلى اختلاف لغتهم ومن ثم تنوع تعريفاتهم، بمعنى أن تنوع المواقف الفكرية للشعراء يؤدي إلى اختلاف تعريفاتهم للشعر فيصبح تعريف كل شاعر بمثابة صوته الخاص وبصمته التي تميزه من الآخر.
وكان الدكتور سعد ياسين يوسف من ضمن الشعراء الذين استقيت منهم تعريف الشعر. ولأنه من ميسان من أعماق تاريخ العراق حيث ولدت الكلمة وانتشرت في بقاع البلدان فإنَّ مرجعية تعريفه للشعر تختلف عن الشعراء الآخرين فهو يضع الشعر في الحيز بين ما هو تاريخي وما قبل التاريخ، يضع الشعر في هذا الحدّ الفاصل بينهما حتى تبدو القصيدة عنده وكأنَّها كائن حي وُلد للتو، يعرّف الشعر فيقول:
"الشعر: تجسير للهوة بين ضفتين حيتين بصور جمالية مكثفة لغويا ًودلالياً تتدفق بنبضٍ متواتر لتولّد كماً هائلاً من حلقاتِ المعنى في موضوعٍ محدد"
إذن الشعر عنده تجسير للهوة بين ضفتين حيتين، وهاتان الضفتان هما تماماً ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ فتأتي القصيدة وكأنها مولودة من هذا الحد الفاصل بين الزمنين.
إنَّ هذا الفهم الحضاري المتقدم للشعر ألقى بظلاله على شعر سعد ياسين يوسف سيما في نصوصه الأخيرة التي أصبحت قادرة على إيقاظ الوعي الإنساني المطلوب بقدرتها على إحداث التغيير المرجو منها لأنها تضع يدها على الخلل بمعنى أنها لا تضخم السلبيات كما يفعل الكثير من الشعراء، بل تتجاوز المألوف من القصائد، وفي تقديري الشخصي أنَّه من السهل على الشاعر أنْ يضع يده على الخطأ غير أنَّ الصعوبة تكمن في أنْ يرشدنا إلى خطوة أولى من خطوات الحل، وسعد ياسين يوسف يضيء لنا السلبيات والأوهام من خلال جعل القارئ مشاركاً في خطوات الحل وتحفيزه على السؤال والتفكير ؛ من هنا قلت: إنه يضيء السلبيات ولا يضخّمها ولا يتفنن في جلد المجتمع كما يفعل الجميع لذلك نجد في كلّ نصّ من نصوصه هناك بؤرة مضيئة تسهم في تعزيز الوعي الفكري عند القارئ وتمنح القارئ الخطوة أوالعتبة الأولى لتلقي نصوصه .
ثمة مسألة أخرى في نصوصه إلا وهي جدليّة الأفكار كونها عامل مهم من عوامل شعرية قصيدة النثر، فإذا انتفت هذه الصفة سقط جزء كبير من شروطها. وتتجلى لنا تلك الجدلية بكثرة في قصائده النايضة بالوعي عبر خطابها الجمالي.
المسألة الأهم عندي هو هذا النظام اللغوي المبتكر في قصائده الذي وضعني أمام اختيار وسؤال صعب :أي المناهج التي يمكن أنْ تخدم مثل هكذا نصوص؟ لا يمكن لأي نوع من المناهج النقدية أنْ يخدم نظاماً نصياً مبتكراً، فلو عرضنا نصوص سعد ياسين يوسف على مناهج النقد التقليدية لن نصل إلى نتيجة بالتأكيد، لكن – على وفق قراءاتنا لنصوصه - وجدنا أنَّ المنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي نجحا في فهم هذه النصوص، المنهج الاستقرائي :"منهج يخدم نمطاً من التفسير يقوم على يقينية التجربة بمدركها الحسي الذي يتنامى من الجزء إلى الكل،" ويسير هذا المنهج جنباً إلى جنب مع المنهج الاستنباطي الذي يستمد يقينه من الكل إلى الجزء،و لم يغبْ المنهج الاستدلالي عن خدمة نصوصه، فهو وكما معروف للجميع يربط بين العقل والمقدمات والنتائج ويخدم مسألة الانتقال من فكرة إلى أخرى وهذا موجود بكثرة في قصائده الأخيرة لذلك قلت: إنَّ هناك نظاماً لغوياً مبتكراً علينا أنْ نتأنى قبل اختيار المنهج ونحاور خطواته قبل التطبيق .
ولو تناولنا نصا من نصوصه من مجموعة أشجار لاهثة في العراء* بعنوان (قلاع مخلعة الأبواب) ص 81، علما انني دائما ما أختار من نصوصه ما لا علاقة له بالشجرة، لأني ضد أنْ يُحجَم الشاعر برمز محدد فهذا يحدَ من ابداعه لذا فأنا أبحث في نصوصه عن تفرد آخر له وهو كثير..
ففي هذه القصيدة التي تناولتها في كتابي "عتبات نقدية" يقول فيها:
" قلاعُك..
تلكَ الَّتي لوّحت منها للغزاة ِ
بمفاتيحك
وارتفعتْ أعلامُهم المُتهرّئةُ
فوقَ أسوارهِا في ظلمةِ " سبتمْبَر "
خلّعتِ الرِّيحُ أبوابَها
ورمَتْها مرثيّة َرمْل ٍ
هَجرتْها القوافلُ
وما حفلتْ بها حوافرُ النَّدى..
وهي تدوسُ مفاتيحَها
الصَّدئةَ ... "
هذه القلاع تعيدنا إلى "قلعة كافكا" وصعوبة الوصول إليها، قلعة سعد ياسين يوسف أيضا قلعة يصعب الوصول إليها فهي بكل بساطة شاهد حيّ على مشوار حياة على أحداث وصعوبات وعلى ركام من الذكريات والخيبات ولكنها رغم ذلك هي مكان آمن، بدلالة المفتاح، المفتاح هنا سلاح ذو حدين فهو رمز للأمان إلى جانب السطوة والنفوذ، وكما قلت: إنَّ شاعرنا يجعل القارئ يشاركه في البحث ويحفزه على التفكير والسؤال فهو يعمد هنا إلى وضع القارئ في موضع إثارة وتساؤل وهو يشاركه ويستكشف معه مراسم تسليم ذلك المفتاح ومراسم رفع الأعلام التي ترفع أثناء المعركة وليس في نهايتها، وهي ليست دلالة على الاستسلام والخيانة، بل ان الشاعر ومن خلال هذه الاعلام ينقض عهدا بائداً،ينقض كلَّ مالم يعد مصدرا آمنا للحياة بدلالة السمة المتهرئة التي أعطاها للأعلام، وليس فقط في هذه القصيدة بل في معظم نصوصه الأخيرة نجد هناك استشرافا لمواسم أمان جديدة يفتح فيها الشاعر كوة أمل بثبات يحذَر فيه من الوقوع تحت وطأة الشعارات المزيفة بدلالة سمة الصدأ التي أعطاها للمفتاح في نهاية النص وهذا هو الحدَ الآخر من سلاح رمزية المفتاح .
إنَّ مثل هكذا نصّ قصير يمكن أن يُقرأ أكثر من قراءة ويمنحني أكثر من مستوى للتلقي، ففي هذا النصّ نجد ثلاثة مستويات للتلقي هي:
المستوى الإخباري الذي يستشرف فيها مواسم أمان جديدة يفتتح بها الشاعر كوة أمل جديدة.
والمستوى الثاني هو المستوى الرمزي وأقصد به هنا رمزي الأعلام والمفتاح، أما المستوى الثالث فهو المستوى الأسلوبي، أسلوب المخاطبة للقلعة وهذا ماتناولناه بالتفصيل في كتابنا القادم ان شاء الله الذي تناول مستويات التلقي في قصيدة النثر العراقية وكان لنصوص شاعرنا حصة فيها .
هذا هو النظام اللغوي الجديد والمتفرد الذي عنيته، لسعد ياسين يوسف.
***
ا. د. سهير أبو جلود
أستاذة الأدب الحديث ونقده في كلية الآداب - الجامعة المستنصرية
............................
* قراءة نقدية قُدمت من على منصة كلية آداب الجامعة المستنصرية لمناسبة الاحتفاء بمنجز الشاعر سعد ياسين يوسف في يوم الشعر العالمي بتاريخ 21-3-2023.
* سعد ياسين يوسف، أشجار لاهثة في العراء، مجموعة شعرية، دار أمل الجديدة للنشر، دمشق 2018، ص 81