قراءات نقدية
طه حسين في رواية "المغاربة" لعبد الكريم جويطي
المدخل: الرواية بين فن التخييل والتذكير والتذكر..
" ان كل فن عليه ان يصير علما وكل علم عليه ان يصير فنا.." (محمد برادة في الخطاب الروائي لباختين.)
صدرت للاستاذ الروائي عبد الكريم جويطي عدة روايات اخرها رواية "ثورة الايام الاربعة" الطبعة الثانية (2022).
اما رواية " المغاربة" فقد صدرت طبعتها الاولى (2016) والطبعة الخامسة (2021).
لم يسبق لي قط ان قرات للجويطي اية رواية من رواياته وكل ما اذكر انني قرات مساهمته في ترجمة كتاب " الموريسكي"من تاليف حسن اوريد وترجمة عبد الكريم جويطي مع مراجعة للترجمة قام بها المؤلف مما يعني ان المؤلف قام باعادة صياغة الكثير من عبارات الترجمة لتتلاءم مع روح النص الاصلي الصادر باللغة الفرنسية (2011).
ان عدم اطلاعي على اعمال جويطي يرجع لسبب بسيط سبق ان اشرت اليه في مناسبة سابقة..حيث ان قراءاتي للاعمال الروائية تقلصت كثيرا نظرا لانصرافي وتركيزي على قراءة الاعمال البحثية الفكرية التي تتمحور حول بعض القضايا التي اهتم بها او اشتغل عليها..
ومن حسن الحط والطالع ان صديقي الاستاذ محمد مزهار الذي يشاركني في حوارات فكرية عميقة يابى الا ان يشركني في بعض قراءاته الروائية الخصبة لتكون موضع مناقشة بيننا حول مضامينها وما يثيره مؤلفها من قضايا واشكالات..وضمن هذا السياق تندرج قراءتي لبعض فصول رواية " المغاربة للاستاذ عبد الكريم جويطي التي نالت جائزة المغرب للكتاب (2017).
ساركز في هذه العجالة على بعض الفصول فقط وابدي بعض الملاحظات حولها.. ولن اتوقف عند الاسلوب الفني او البنية الروائية لانني لست مطلعا على انتاج المؤلف اطلاعا كافيا يسمح لي بابداء راي في المضون..
كما سأتوقف عند الفصلين اللذين استدعى فيهما المؤلف رمزية "طه حسين" الادبية..بغية البحث عن غاية هذا الاستدعاء وسياقاته وعلاقته بموضوع الرواية التي تتناول صورة المغاربة عبر التاريخ وتسعى للكشف عن جوانب من مسلكياتهم وتمظهراتهم ونفسياتهم.. وما تميزوا به من افعال نتيجة الاحداث الجسام التي صهرت شخصيتهم و شكلت امزجتهم عبر العصور المتطاولة.. (حسب رؤية المؤلف..).
و سنحاول ان نقف عند البنية الروائية لكي نفهم غرض المؤلف من سرديته او محكياته الروائية وضمن اي اطار وسياق جاء استدعاؤه لطه حسين هل لرمزيته الادبية.. اومن منطلق ان الادب يعتبر بمثابة رهان على الحرية والقيم الحافزة على التغيير والتجدد..
لقد اختار المؤلف جنس الرواية ليصوغ من خلاله اسئلته المركبة حول شخصية المغاربة وهويتهم المتعددة التلوينات.. والبوتقة التي انصهرت فيها مختلف المكونات نتيجة تناقضات السلطة وحيفها والصراعات المريرة الدائرة حولها..
هل تمثل الرواية النسيج الادبي القادر على احتواء التعبيرات المختلفة لتوصيل الرسالة والكشف عن مكنونات الشخصية الثاوية في اعماق الذاكرة الجمعية..؟
لا شك ان الرواية تعتبر الفن المعبر عن ايقاع العصر.. وقد اعتبرها "لوكتش" (1885/1971) بانها ملحمة الطبقة الوسطى في بحثها عن المكانة والدور المؤثر..
ان الموضوعات التعبيرية في الاداب الحية دليل على الحيوية وعلى ما يصيب الامم الحية من عوارض ومن نشاط وفتور او محافظة وتجدد..
وان الفن الرفيع لا يقوم الا على الخلق والابداع.. والمعرفة ، اما معرفة منطق تعتمد على العقل او معرفة بداهة وعمادها الخيال..
الخيال باب من ابواب المعرفة وان اختلط فيه الصدق بالوهم او الضلال..
ويمتاز فن الخيال على الخداع لان الفن صناعة او صياغة منفصلة عن الموضوع.. وكلما ارتقينا في تقدير الفن كلما ارتقينا في تقدير الحس والبداهة وفي العلم بوظيفة الخيال..
الخيال وظيفة تنفذ الى اسرار الخلق والابداع..
نخلص مما تقدم ان مفتاح الفن الروائي باشكاله المتعددة يكمن في ملكة الخيال لدى المبدع..فالقصة فن ادبي يوظف الخيال ليعبر عن الحياة كحلم وقيم ومثل..
وانطلاقا من وظيفة الخيال في فن الابداع تبلورت نظرية الرواية وهي نظرية حول دلالة الرواية ومعناها من الوجهة الفلسفية والتاريخية والبنائية..
والجدير بالذكر ان نظرية الرواية تحتل حيزا هاما من كتابات الفلاسفة والنقاد والمحللي الخطاب.. بالرغم من ان تاريخ النصوص الروائية كجنس ادبي يرجع الى القرن السابع عشر الميلادي..
وقد تبوات نظرية الرواية هذه المكانة نتيجة توافق ظهورها مع تبلور جملة من التحولات الاجتماعية والفكرية والعلمية على الصعيد الاوروبي..
وقد ترتب عن هذا الوضع تجدد البحث عن الاشكالية الادبية او الاجناس الادبية التي تتاسس عليها المقولات الجمالية ضمن اطار جدلي "هيجلي"للاستتيقا او الظاهرة الجمالية.. للتفكير في اشكالية الانسان من زواياها المتعددة.. وذلك من منظور فلسفي كمنهج حياة ضمنه يتشكل الابداع الادبي بمختلف صيغه ومضامينه..
اذن في الرواية تتداخل الذكرى الخلاقة القادرة على ادراك الموضوع ذاته وعلى تحويله..وما يجعل من هذه الذاكرة حقيقة واقعية هو قبول السيرورة الحيوية للحياة ذاتها.. ان الوحدة المعيشية تشكل المكون الموضوعي لتحقيق التجانس الذي يتطلبه الشكل الروائي..
ومن هنا الحضور الذاتي الطاغي في السرد.. بحيث يستحضر السارد تفاصيل الذاكرة عبر التخييل من خلال اسئلة تنبع من التحولات التي يشهدها العالم من حول الانسان.. وهذا ما يثير لدى المبدع الاسئلة الملتبسة او المسكوت عنها والتي يستطيع الادب وحده الاقتراب منها ومعالجتها وذلك بالغوص في تلافيف الذاكرة واستحضار ما تكتنزه من اطياف يعيد لها المبدع عنفوان الحياة بنفحة من روح الخيال الفني الخلاق فتعود حية تسعى على مسرح الحياة..
افالتذكر والتذكير هو ربط الماضي بالحاضر بحيث يشكل العتبة الاولى لفهم المحكيات الروائية..
ان ازدهار التفكير النظري في الرواية واتساعه ليشمل بقية الاجناس الادبية الاخرى مما جعل الخطاب الروائي خليطا من اللغات والاصوات والخطابات والنصوص كمرآة لما تمور به المجتمعات الحديثة..
ونتيجة لهذا الوضع الاجتماعي الجديد تحول الروائي عما كان عليه فتبدلت سلوكات الابطال لتكون ملائمة لاجواء الرواية الحديثة.. والتحولات البنيوية التي عرفتها المجتمعات الاوروبية منذ القرن التاسع عشر..
وتمثل هذا المناخ في الكتابة الروائية التي تعددت فيها التعبيرات والمواقف الايديولوجية المتصارعة..
فاللغة هي خطاب محمل بالدلالات والمعاني التي تكشف عن انماط العلائق القائمة بين الا شخاص والاهداف الكامنة وراء الخطاب الروائي..
ومن ثم فان الرواية جزء من ثقافة المجتمع والثقافة مكونة من خطابات تعيها الذاكرة الجماعية وكل فرد في المجتمع يستمد موقعه وموقفه من تلك الخطابات المتعددة الاشكال التعبيرية ضمن جدلية الذات والعالم..
ومن هذا المنظور فان الرواية صيرورة مستمرة لا تتبلور الا بوعي تاريخي..
الخطاب الروائي واثر الطبائع في أنماط الشخصية والهوية..
"يقدس الماضي في حياة البشر.. رغم ا نه امر انقضى ولا سبيل لملامسته الا عبر التذكير.." (ص9).
في رواية "المغاربة" تطرق المؤلف للمكونات التي صهرت شخصية المغاربة عبر التاريخ..واثرت في رؤيتهم وطبعت أنماط سلوكهم وردود افعالهم..
وليس قصدي عرض سردية الرواية او ملابساتها.. وانما اريد الوقوف عند توظيف المؤلف للطبائع الراسخة في أعماق الذاكرة الجماعية وما انتهى اليه من عناصر تشكل الملامح الأساسية للشخصية التاريخية..
لقد تكلم المؤرخون قديما عن طبائع الأمم وعن العلاقة بين طبائعها وآثارها الأدبية والثقافية..، و كثر الكلام في هذه العلاقة بعد ظهور المباحث النفسية.. والنظر في اطوار الجماعات البشرية..
ما يرومه الدارس من دراسة طبائع الأمم هو فهم ادابها وثقافتها..، كما ان فهم الثقافة يتطلب بحث عناصر الاجناس او بحث الامزجة على ضوء العقائد الموروثة.. فهي بواعث محددة آثارها معروفة وليست من اللبس فتختلط فيها الآراء..
ان ظاهرة الطبائع المنبثقة عن الطبائع الموروثة هي التي نسجت حولها الرواية..
كيف عالج المؤلف البواعث المنبثقة عن الاخلاق المتمكنة في طبائع الأجيال المتعاقبة بحيث لا يصعب على المؤرخ ان يسجل تاثيرها في تكوين المجتمعات وحوادث التاريخ..باعتبارها محور الصراعات الكبرى في معضلات النفس البشرية.. قد تتمثل في قصة او مذهبا فلسفيا او رايا من اراء السلوك والأخلاق..
مضن أي سياق صاغ المؤلف ملامح الشخصية التاريخية "للمغاربة"..
هذا ما سنعرض له في محاولة للبحث عن عقدة الرواية وسداها وما يتخللها من شعور وأفكار، توحي بالتخييل والتفكير..فيصبح تصوير الموقف يغني عن العناية بالشخوص او الحوادث..
" المغاربة" قراءة لانماط الشخصية والطبائع الراسخة عبر التاريخ..
" بلد ببحرين وانهار جارية واراض خصبة وغابات..حكمته الصحراء منحته قادة وزعماء اشداء..ولكنهم بلاخيال ولا طموح.." (ص123).
في فصل"موت الجد" يتحدث السارد عن الجد والجدة والأرض التي كان يزرعها الجد وهذه العناصر كلها ترمز الى الشخصية المتجذرة رغم ما حدث من تغييرات في اطوار المجتمع ومظاهره وتقاليده..
مات الجد حزنا على ارضه التي اخذتها الدولة لتقيم عليها تجزئة سكنية..
كانت الارض هي حياته لهذا كان حزنه كبيرا وجليلا.. (ص29).
انتهت كل الملاحم التي شهدها المكان قرونا من الزمن تطوع فيها الأرض وتغرس الأشجار وتزهر الازهار ويربو العشب.. ولان الفلاح يحرس ارثا مقدسا فان الجد كان يقوم بطواف على ظهر حماره حول الأرض التي كان يزرعها.. فتعرض لضربة شمس قاتلة لانه لم يعد يعرف كيف يروض الفراغ المحيط به.. ولما رحل ترك فراغا مهولا اثر على حفيده الذي ودع طفولته ونظرته للعالم والاشياء..
ان الاشياء والأماكن والأشخاص رغم ما يربطنا بها من أواصر ووشائج عميقة وراسخة فانها الى زوال.. (ص30).
في فصل عودة الباشا يتحدث السارد عن البا شا الذي يرمز الى السلطة والقوة التي يتناوب على حملها رجال غلاظ أ شداد.. يحظون بالهيبة والمكانة الرفيعة.. يجلهم الناس ويخشونهم..
السلطة دائما محاطة بالنزوات ( المال والنساء)..ولا احد يستطيع ان يعترضها او يرشدها.. (ص65).
الزمن وحده هو القادر ان يفعل فعله في الجاه والسلطة..فلا شيئ يبقى لان كل شيئ عابر.. (ص69).
الناس لا يحكمون بالسلاح فقط بل يحكمون أيضا بالخبر فالاخبار عدة الحكم شريطة معرفة قراءتها.. (ص81).
كان باشا مراكش العتيد داهية يتقن اللعب على الحبلين.. و يرجع سلوكه المزدوج الى المنطق القبلي الذي يتسم بالتناقض في اكثر من موقف.. ( بين الحب والبغض والقسوة و العطف.. فالازدواجية تتيح له الانتقال بين اطراف الأشياء المتنافرة بدون ادنى حرج.. (ص103).
في فصل مقامات الغريب حديث عن الولاية والاولياء والكزامات والصوفية..التي ترمز الى زمن الولاية والكرامة والمعجزات..والغربة بمعناها الصوفي مقام زهد وصفاء طوية وترفع عن مشاغل الناس الدنيوية..واشد غربة هي غربة الدار والوطن.. وقد ضاع الشيخ الغريب المرابط الدلائي وطمس قبره لان المغاربة لا يحرسون الذكرى الا اذا كانت تحرسها سلطة قائمة.. (109).
كان الشيخ اخر الصلحاء صلى الفجر واسلم الروح.. وقد حضر جنازته جميع الاولياء والزهاد ببلاد المغرب..لم يعرف احد كيف وصلهم الخبر وهل طويت لهم الأرض ام طاروا باجنحة.. (116ص).
في فصل هذيان المغاربة ينقل شذرات واقتبسات عن المغرب و يصورفيها شخصية المغاربة بأسلوب هجائي قدحي وتبخيسي وعدمي و سلبي.. وقد جاء هذا الهذيان الذي اطلقه المؤلف ( في باب المغاربة/1) وفي (باب السلاطين/2).
وسنعرض بعص الصور في سردية المؤلف عن طبائع ومسلكيات الشخصية المغربية المتجذرة كما رسمها المؤلف في روايته " المغاربة"..
يقول السارد" صد البحر المغاربة الأوائل فاداروا له ظهورهم..
حضارة بنيت بين جواجز ثلاثة، بحر وجبل وصحراء.. ولان المغرب كان بعيدا جدا من الامبراطوريات حيث تخف قبضة الدولة و الدين والتاريخ.. فقد كان دوما ملكا للمدعين والحالمين بالسلطة والكاذبين الكبار..
شعب بلا خيال لم يحلم بمجتمع اخر الا من خلال متنبئين فاشلين ومدعين بئيسين للمهدوية..، شعب وزع كل آلامه على القبور.. وقعد على قارعة التاريخ ينتظر الكرامات..
كم ازدهرت في هذا البلد الشروح والحواشي والمختصرات وطمرت المصادر.. وحفرت خنادق عميقة بين العقل واصول المعارف.. في تلك الأوساط التعليمية المتحجرة التي صاغت عقلية المغاربة لقرون..
كان كل شيئ قد قيل والمعارف استنفدت ولم تعد هناك حاجة الى الابداع والابتكار..يكفي الحفظ والقدرة على الاستظهار.. (ص122).
" بلد هرب فيه الناس من مدع الى مدع اخر اخبث وادهى..
بلد ببحرين وانهار جارية وارض خصبة وغابات..، حكمته الصحراء ومنحته قادة وزعماء ومنظرين اشداء..لكنهم بلا خيال..
لا تثق في تقوى معظم المغاربة..
شعب خرج من افدح ما في اتراجيديا اليونانية ( انقياد لحب التسلط والتملك واقتراف لا فظع الجرائم..لا احد يتحمل المسؤولية..الذين اضاعوا اجيالا او الذين عذبوا وقتلوا وشردوا لا احد يعترف او يعتذر..). (ص123).
" المغاربة تمرسوا منذ امد بعيد في موقف الدفاع ضد الغزاة والمخزن والجوائح والصحراء...من هنا تاتي مهادنتهم لذواتهم..
لم يعرف هذا البلد حتى عند ابرز اوليائه وفقهائه وعلمائه وكتابه ومفكريه عملا عميقا على الذات وحفرا بداخلها.. (ص125).
عقلية المغاربة عقلية تجارية وكل من في البلد يطلب من الوطن مقابلا:المقاوم والمناضل والسياسي والمثقف والرياضي والفنان ورجل الدين.. (ص127).
لا يريد هذا البلد ان ينفض يديه من شيئ انتهى وينصرف لبناء شيئ جديد.. (ص129).
" المغاربة مالكيون لان المذهب أرضى الجميع ، لان الامام مالك يرى ان السلطان الجائر خير من امة سائبة.. وافق المذهب النخب الحضرية لانه اعلى من شان الحضر (والبورجوازية التجارية التي أمن لها سوقا تجاريا..).واحبوا في المذهب اقراره للمصالح المرسلة لا ستعابها ما يستجد في الواقع.. (ص134).
في فصل الكتاب الذي يأتي بعد فصل الهذيان يعلق السارد على ما اطلقه من شذرات قادحة في الصفحات االسابقة بقوله:" اكتب شذرات هذيان رجل لا يعرف ماذا يفعل بوقته ، رجل يعيش بين اكتب فقط ولم تعد له صلة حقيقية بالعالم... اكتب عن نفسي عن الصحراء عن السلاطين والاولياء والصالحين..وقد اكتفي بنسخ نصوص تاريخية.. (اكتب عن المغاربة..) (ص145).
في باب السلاطين تحدث السارد عن الرابطة التي اسسست دولة المرابطين وكل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب.. فلا تقوم سلطة الا على انقاض أخرى.. (ص242).
في باب الاولياء والصالحين يذكر شذرات ومرويات وعجائب عن رجال التشف والتصوف والصلحاء والفقهاء.. الذين كان لهم دور واسهام في ثقافة المغرب الفقهية والصوفية والعلمية والسياسية..
ختم السارد الرواية بنبرة تشاؤمية تحيل على شكسبير في نظرته للمأساة الإنسانية.. فقال السارد على لسان بطل شكسبير "هملت" (انه زمن الجنون الكبير والعمى الهائل..). (ص339).
ملحوظة..
ان الشذرات القادحة في شخصية "المغاربة" ورموزهم التاريخية تندرج ضمن النظرة التشائمية والتبخيسية والسخرية الهجائية « Satire في الجنس الادبي التي تنزع الى التعسف في الاحكام والتكلف في التاويل والشطط في الاستنتاج..وتختزل الموضوعي في الذاتي..
وعلى الباحث المدقق ان يراجع هذه الاحكام والتاويلات..بالاستناد الى المصادر الموثوقة لتصحيح الرؤية السفسطائية ..بتقديم شروحا للافكار..، تعتمد على قراءة استقصائية عميقة تحيط بواقع المجتمع وتكشف عن إشكاليات تجربته التاريخية..
فالتاويلات المغرضة والاحكام المتعسفة التي وردت في النص تعود الى خطأ منهجي وقع فيه المؤلف عندما اسقط النظر بعين الحاضر على الخطاب السردي الذي يعبر عن التجربةا لتخيلية.. وتعكس رؤية الكاتب او سارد و مواقفه واحكامه من الشخصيات والوقائع والاحداث التي تناولها موضوع الرواية..
ان وضع الادب داخل التاريخ في شكل ادبي نتاج الخيال حيث تعاد صياغة الواقع فتتداخل الخرافة بالواقع والحقيقة بالخيال.. ولم نعد نزعم انه يرتقي الى مرتبة القول الملزم او الراي المقبول..
ان غاية الادب الرقي بذوق المتلقي ووجدانه.. وغاية التاريخ تجديد الظروف الذهنية الجماعية والفردية..
ان الشخصية التاريخية الصادقة هي التي تتوافق عناصرها وتجتمع ملامحها وتتلاقى اجزاؤها كما تتلاقى أجزاء الهيكل المتفرقة..
اما الشخصية الروائية ففيها الخيال والابداع وقد تمثل الإنسانية اجود تمثيل ومع ذلك فهي مجرد وهم وخيال..
طه حسين في رواية "المغاربة"
"والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكي والبصيرة النافذة هو الذي يحفل بما وراء اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ." (طه حسين: جنة الشوك/ص32).
1- استخلاص العبرة من كتاب الأيام:
جاء ذكر طه حسين في فصلين من رواية "المغاربة"..في فصل ( طه حسين والشيخ./ص45).وفي فصل ليالي الباشا (2- البكاء بين يدي طه حسين /ص263).
والسؤال الذي يطرح نفسه على القارئ ،لماذا هذا الاستدعاء وضمن أي سياق يجدر فهمه..
يتحدث السارد عن طه حسين باعتباره نموذجا يقتدى به، فهو الضرير الذي قهرظروف حياته وبيئته واستطاع ان يصبح عميدا للادب العربي ومديرا للجامعة المصرية ووزيرا للتعليم وهو قبل هذا كله صاحب كتاب " في الشعر الجاهلي " /1926).الذي احدث ثورة فكرية في الادب.. وذلك بالدعوة الى الاخذ بمنهج نقدي تقويمي للثقافة العربية..على أسس عقلانية تاريخية.. استجابة لضرورات النهوض والتقدم..
يشير السارد الى كتاب "الأيام" الذي سجل فيه طه حسين اطوارا من سيرته وذكر فيه اصابته في صباه بآفة العمى وكيف تحدى ظلام البصر بنور البصيرة..و شدة الإصرار ومضاء العزيمة..
ويستخلص السارد من تجربة طه حسين في كتاب الأيام درسا في التحدي:" ليس من السهل ان تكون ا عمى عليك ان تشق بالاظافر الأحجار الصلدة لتشق طريقك الخاص.. وتتحدى العجز وتنتزع الاعتراف من الاخرين وذلك بالتحفز للدفاع عن النفس..
" على الاعمى ان يكون حالما كبيرا.. فالعميان لديهم القدرة على انقاذ العالم.. لانهم يعيشون حاضرا بلا اطلال ولا معالم دارسة.. (ص46).
" يقول السارد بان كتاب الأيام تركيب تجريدي لجزئيات حياة تكللت بانتصار او وهم انتصار.. انها استعراض انشائي لشخصية صارت مرموقة وافراغ لحياة الاعمى من حسها التراجيدي.. كل صفحات الكتاب لا تتسع للحظة واحدة من حياة اعمى قلق ضائع ومرتبك..
كتب طه حسين أيامه بعنفوان واقدام وبراءة من تنقصه الخبرة بالزمن والناس..، ما كان ليكتبها في شيخوخته وهو يسمع الطعون توجه الى رسالته التحديثية ومواقفه السياسية الليبرالية..
"ليس هناك اكثر فجاجة من حياة تقدم على انها ناجحة وممتلئة.." (ص47).
انشغل السارد بسيرة طه حسين قرأ اعماله وما كتب عنه.. (الكتابة عبارة عن تصوير واسترجاع وتذكر احاسيس..).هل كان طه حسين يطلب الشهرة ويسعى الى تقلد المناصب..؟ ام كان صاحب مشروع للاصلاح ودعوة للبناء..؟
ما سر الكآبة التي كانت بادية على محياه في أيامه الأخيرة..؟ وما سر قلقه وتدخينه المفرط..؟ وما معنى العبارة التي اطلقها قبل وفاته:" ايةحماقة؟ هل يمكن ان نجعل من الاعمى قائد سفينة..؟ ومن هم العميان الذين يقودون السفينة..؟ اهم أجهزة الدعاية الضخمة ، وأجهزة الامن الرهيبة و القادة الملهمون الخالدون..؟
فتح طه حسين ابوابا وحرك موجا راكدا..وتجاوز ماهو متاح لرجل في مقامه.. (ص 48).
دعى الى التجديد والإصلاح والحرية والكرامة والانخراط في الحضارة الإنسانية..
2- البكاء بين يدي طه حسين:
في هذا الفصل يستطرد السارد في الحديث عن طه حسين و اعماله الأدبية ورسالته الفكرية التي تنير الافهام وتهذب القلوب.. ويطرح السارد السؤال عن أهمية طه حسين..؟
اليس هو من قهر الظلام وحاول ان يقرب الشرق من الغرب.. (زعيم التنوير العربي..).ص265
أهمية طه حسين انه خلص الى دور لافكار في احداث التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي.. ( هاجم ودافع وخاض معارك ضارية من اجل تعميم التعليم وحرية الجامعة..).
كتب عن مستقبل الثقافة وضرورة تجديد مناهج التعليم ليكون ملائما لتحديات العصر.. (ص266).
ثم يسأل السارد " ضمن أي سياق يمكن ان ندرج كتابات طه حسين الإسلامية (الوعد الحق ومرآة الإسلام وعلى هامش السيرة والفتنة الكبرى..). هل تعتبر تراجعا عن نزعته التغريبية والعلمانية..؟
ان طه حسين ابن هذا الشرق بمآسيه وتناقضاته الذي ظهر فيه الأنبياء والفلاسفة والمتصوفة والدجالون والجلادون والسماسرة وتجار السلاح..وفيه زرعت إسرائيل.. (ككيان وظيفي لخدمة الهيمنة الغربية..).
الشرق الحزين الذي يلبس اكثر من قناع ويعتنق اكثر من مذهب..
لوظهر طه حسين في بلد اخر غير مصر لكان له اثر بالغ..؟ (ص268).
الخلاصة..
كان طه حسين ذكي القلب عضب اللسان عصيا لا يقبل ولا يطيق الإذعان وحازما لا يحب التردد.. ولعل هذه الخصال هي التي صهرته وجعلت منه الاديب (ذو المراس العنيد.) الذي جمع الى عقله الناقد إحساسا مرهفا وشعورا حادا وذوقا دقيقا لا يفوته شيئ..
يلح بأسلوب واضح يتسم بشيئ من الغموض والاغماض يقصده قصدا.. ولعل سحر الاداء يصرف القارئ عن الفكرة الى الأسلوب الذي يعرض الفكرة..
ان الفكرة التي راودته وشكلت صلب مشروعه الفكري تدور حول" التجديد والتقليد." فدعوته الى التجديد الادبي والفني هي أساسا دعوة الى التجديد الحضاري والاندماج في اثار الحضارة المادية والعقلية.. بحيث تتيح لنا ان ننتج ادبا جديدا يعبر عن تطلعنا الى الاسهام في الحضارة الإنسانية..
ويرى انه لا سبيل الى ان يتجدد ادبنا الا بالاستزادة من التعليم ومن الثقافة بالقديم والجديد في وقت واحد.. (كتاب تقليد وتجديد ص141).
فالاديب لا يستطيع ان ينتج ادبا جديدا الا اذا استكمل أدوات الإنتاج المتمثلة في القافة الواسعة العميقة..
فالآداب الحية هي العابرة للعصور والبيئات والاجيال لانها تلهم الناس وتوحي اليهم بما انتجه العقل الإنساني من العلم والمعرفة.. والوان الفن والجمال والادب الرفيع..ليكون الغذاء الذي يصقل العقول ويشحذ الهمم وزادا يحي النفوس وتراثا إنسانيا خصبا ومثمرا يجدد الحياة عبر العصور والزمن الممتد..
فالغاية العليا من الادب والفن ان يبلغ الانسان اقصى الدرجات من الثقافة والمعرفة..في طلب الكمال..
والكمال الادبي يستلزم ان تكون اللغة ملائمة للحياة.. وان يكون الادب مرآة للبيئة متصل بالحياة مصور لوقائعها ناقل لخصائصها من جيل الى جيل لتصبح موضوعا لدرس التاريخ..
الادب قيمة إنسانية والاديب صاحب رسالة في عالم العقل والروح والضمير..
ويمتاز الادب بالصراع المتصل العنيف المتغلغل في كل شيئ ، المتنا ول لكل شيئ بين العقل الرزين والمزاج الدقيق والشعور الرقيق والذوق المهذب..
الاديب صاحب تعمق للاشياء التي تتصل بالفن من جهة وبالعقل الناقد من جهة لخرى.. بحيث يكتب في العقل والنفس والرسم والموسيقى والتصوير والنحت.. وفي نقد الادباء ويقرب الى القراء اطاريح كبار المفكرين..
ويقوم بتحليل العقل الانساني وهو يفكر ويلاحظ ويتأمل ويحاور الفلاسفة ليخلص الى إقامة مذهبه الفلسفي..
(انظر كتاب الوان لطه حسين /ص61).
مجمل القول ان استدعاء رمزية طه حسين الاديب في المتن الروائي انما يحيل على حضور الشرق فكرا وفنا وقيما روحية ونظم اجتماع.. كتعبير يعكس عمق الروابط والاواصر الحضارية بين المغرب والمشرق..
***
احمد بابانا العلوي