قراءات نقدية
المفارقة في وخزات نازفة.. ومضات قصصية للكاتب هاني أبو انعيم
(للبيع حذاء لطفل، لم يلبس قط) يقال بأن هذه أول قصة قصيرة جدا وهي للكاتب الأمريكي أرنست هيمنجواي كتبت عام 1925 وقد عدها أعظم ما كتبه خلال تاريخه الإبداعي.وهناك من قال بأن القصة القصيرة جدا ولدت بشكلها الفني في مستهل القرن الرابع عشر عندما كتب جيوفاني بوكاشيو الديكاميرون وتعني عشرة أيام بالإيطالية. أما في الوطن العربي فقد كانت بداياتها منتصف القرن العشرين.
القصة القصيرة جدا هي لون من ألوان الأدب الحديث. وقد جاءت كنتاج للتغييرات التي أصابت العالم، وقد تعرضت لعمليات إجهاض كثيرة في بداية تكوينها.لكن ما يشاهده الراصد لهذا الفن سيجد بأن الساحة الفنية تشهد نموا مضطردا في مجالها.
تعتمد ال ق ق ج تقنيات تتميز بها عن غيرها من الفنون الأدبية وهي استلهام التراث (التناص)، الاقتصاد اللغوي، التكثيف والمفارقة. وقد ارتأيت دراسة تقنية المفارقة وذلك لأن مجموعة وخزات نازفة زاخرة بها.
والمفارقة تستخدم في ال ق ق ج كتقنية قصصية بهدف الابتعاد عن السرد، كما أنها تبعث الإثارة والحماس في نفس المتلقي. وتسهم في منح النص القوة والعمق وذلك عن طريق محاورة الأضداد بطريقة توحي بعدم الاتساق كي يدرك المتلقي حجم التناقض في الواقع المعيش.
والمتلقي لوخزات هاني أبو انعيم يلاحظ أنه حاول أن يسلط الضوء في العديد منها على تلك المتناقضات والمفارقات التي التقطها من الواقع والتي تحفل بها حياتنا كبشر.
ففي القصة الموسومة ب وظيفة (حاضر بالفضيلة، وغادر يلعب القمار). نلاحظ بأن القاص بنى قصته على المفارقة في السلوك لشخصية وجدت توازنها في القيام بالفعل ونقيضه دون أدنى شعور بالحرج. كما ويهيمن التقابل على مكونات القصة فالفضيلة التي حاضر بها مقابل لعب القمار الذي قام بفعله.
فهذا التناقض يصنع لدى المتلقي مفارقة عجيبة حينما تخالف أقوال الشخصية أفعالها، فهذه القصة تعكس واقعا ديدنه النفاق والكذب.
وفي القصة الموسومة ب تمرين (تبرعت بقرنية لزوجها، ظل يحدق بالممرضة) وفيها نجد الكاتب قد طرح نوع من أشكال المفارقات الخفية وهي التي تعتمد على الألفاظ الموحية غير المباشرة والتي تفتح باب التأويل. فبعد أن ضحت الزوجة بنصف بصرها وتبرعت له بقرنيتها كانت ردة فعله التحديق بالممرضة. وهنا تكمن المفارقة فبدلا من حفظ المعروف من طرف الزوج للزوجة قابله بالنكران. كما نجد نفس المفارقة في القصة الموسومة بتماد (حمله على كتفيه احتفاء، تمخط بقلنسوته).
وفي القصة الموسومة ب إيمان (حمله الجوع على زيارة بيوت أبنائه، وجد الجميع صياما) وهنا نجد القاص وقد نسب إلى الأبناء فعل الصيام وأراد أن يقول شيئا آخر وهو أن الأبناء لم يقدموا على تقديم الطعام لأبيهم الجائع.وفعل الصيام يقابله الإيمان وفعل الأبناء لم يكن من الإيمان وهنا تأتي المفارقة التي تم طرحها كقضية وجدانية عن طريق موقف قاس وهو موقف ألأبناء من أبيهم وقد سببت صدمة ودهشة للمتلقي.
كما نلحظ استخدام الكاتب للكوميديا السوداء وهي من أهم منتجات المفارقة في ال ق ق ج وقد تجلت في القصة الموسمة ب فرض كفاية (دعاهم إلى الجهاد، وأوصى سائقه بإيصالهم) وتبدو المفارقة هنا بذلك الشخص الذي ينصح ثم لا يطبق نصائحه على نفسه، فبطل القصة الذي يدعو الناس إلى الجهاد تخلى عنه وأوصى سائقه بإيصال المتطوعين منهم.
وفي القصة الموسومة ب قناع (سترت كامل عريها، وخلعت برقع الحياء) وتكمن هنا المفارقة السلوكية فالمرأة بالرغم من سترها لكامل جسدها إلا أنها تعرت أخلاقيا فكان لباسها قناع تخدع به المجتمع وتظهر عفافها بينما هي في الحقيقة غير طاهرة.
وفي القصة الموسومة ب ذاكرة (حملته في أحشائها مغتبطة، وافته في قصره تجهم) وهنا نجد المفارقة الوصفية قد برزت، فالأم التي حملت جنينها طيلة شهور الحمل وكانت مغتبطه بهذا الحمل وكان رحمها البيت الذي يحميه ويمده بالغذاء على حساب صحتها ثم سهرت وربت وحينما كبر وانفصل في بيته غضب حينما زارته، فهذه القصة تعكس حالة إنسانية واقعية تكثر في مجتمعاتنا وهي جحود الأبناء لفضل الآباء.
ونجد المفارقة الحركية وقد تجلت في هبوط(ارتقى على أكتاف الناس.وسقط من عيونهم) فالارتقاء هو ضد السقوط وهذه المفارقة كانت وظيفتها تعرية الأمراض المجتمعية التي تنمو وتتغول عند البعض فبعد أن منحوه مركزه أشاح عنهم ولم بنظر إلى مشاكلهم فسقط من عيونهم.
بقي أن نقول بأن هاني أبو انعيم قد استخدم في وخزات نازفة أساليب بلاغية وأسلوبية في كتابة مجموعته مثل التكثيف، التلميح، الإيجاز، التناص، السخرية والرمزية. كما أنه حاول انتقاء مفردات ذات رمزية وإيحاء لعناوين ومضاته القصصية. وقد نجح في سبر أغوار حالات إنسانية شتى بلغة ناقدة وساخرة
الكتاب: من إصدارات دار فلاور للنشر والطبع والتوزيع/2014
***
قراءة: بديعة النعيمي