قراءات نقدية
قراءة في ديوان الشاعر إدريس الطالبي
تمهيد: قبل الخوض في تلابيب ديوان شاعرنا الأريب سي الطلابي لابد من التذكير بأن الرجل جامع مانع فقد جمع بين العديد من الحسنات فهو كاتب ومخرج مسرحي وممثل قدير،وقاص خاض تجربة السرد والحكي بكل أريحية،وهو أيضا شاعر زجال تشبع بروح التراث الشعبي والأصالة المغربية القُحة،لهذا نحن أبناء مدينة خريبكة نعتبره خير سفير للمدينة إلى جانب أسماء أخرى نعتز بها ونقدرها خير تقدير.
1) مدخل:
وعود على بدء نعود للحديث عن ديوان "فعلي يلكاني" المولود الجديد لسي إدريس والصادر عن جامعة المبدعين المغاربة، يحتوي فهرس هذا الديوان على أربع وعشرين قصيدة متوسطة الطول،وتقديم راق للفنان الحسين السطاتي.
الولوج لديوان الصديق الطالبي يقتضي أن نطأ عتبته ممثلة في عنوانه فعلي يلقاني،وهذا العنوان يذكرنا بلفظ شائع بين العامة وهو " كلا يلقى فعلو" أي أن ما تقترفه يدا المرء من خير أو شر سيتحمل وحده نتائجها،والشاعر يعلن عبر عنوانه مسؤوليته المسبقة عن فسيفسائه الشعري وتطريزاته الجمالية،العنوان مقتبس من قصيدة "شاد العسة" وكان بمثابة قفلة لهذه القصيدة:
في مرس الكلام
حاضي لخوا ليفيض
مول الشي
مانا كساب
شوية زهواني
نشتت زريعة السفا
في ڭاعة البراني ...
عاد راسي حاجة وشان
خماس مني تراس
فعلي يلڭاني .
إذا تجاوزنا العتبة وولجنا المتن،فإننا نجد أنفسنا أمام فيض جمالي دافق يمتح من قاموس البادية الأصيل والموروث الثقافي الشعبي الحامل لجينات تاريخ الهوية المغربية المتأصلة التي تميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب،لأنها تؤسس لعلاقة وجدانية راسخة بين الذات الشاعرة ووجدان الأمة.
بداية الديوان تتوشح بشذرات زجلية عميقة،مهد بها الشاعر لنصوصه .وضمنها حِكما ذات بعد انساني حاول من خلالها مقاربة النفس البشرية ومحاولة الكشف عن تأثير الغريزة في البشر:
راڭد على غدرو
وبايت يتسارى
في ڭلوب الناس
*
نقرب ليا ننساني
نهرب مني نلڭاني
هذه الشذرات هي بمثابة جسر للعبور إلى عوالم الشاعر ودخول صرح إبداعه الموشى بسحر الكلام وتواشيحه الناطقة بالجمال، في قصيدته الأولى خيط الجراية التي تتضمن مجموعة من الاستعارات والتشبيهات، فالشاعر كان حريصا على استغلال عملية النسج التي تتم من خلال إعداد السدا كخطوة أولى تتم في الشارع العام وتكون فرصة للعامة لنفح النسوة ببعض القطع النقدية " كبياض أو فتوح" وهو تقليد أصبح اليوم شبه منعدم،لتبدأ فيما بعد عملية النسج داخل البيت باستعمال الطعمة، الشاعر عمد إلى نسج الكلام وتشكيله في تركيب جمالي ذو بعد دلالي عميق، يقول:
نغزل ظل الصوفة
نلوح البياض في غربال الفتوح
ناوي نڭرج هينوكة الكلام
قبل ما يشفڭ الصبح
في ڭلب اللي بايت ينج
البهوت بين الطوارف .
عادة نستعمل كلمة نكرج للتعبير عن إنهاء عملية النسج سواء تعلق الأمر بزربية أو جلابة أو حرشيش وهنا الشاعر يتوق لا نهاء هينوكة الكلام قبل شقشقة الصبح. على من في قلبه مرض.
سنكتشف أننا كلما أوغلنا في الصرح الإبداعي للشاعر إدريس الطالبي،يصادفنا زخم شعري معبر وذو حمولة فكرية وثقافية عميقة، وقوة جمالية على المستوى اللغوي وتوظيف للأمثال الشعبية السائدة بالمنطقة التي ينتمي إليها الشاعر، وكذلك بعض الأحداث التي تناولها المخيال الشعبي عبر العيطة الخريبكية الأصيلة.
بكرةعلال
علال
درويش بحالك وبحالي
علال بڭرة يكساب
جطو في ورث غريب
وكلب ياريت كون كان سلوڭي
جحموم يبات يقيدح
كاسر لعباد
بڭرة غارزة الذات وجابت في ليام
ميشدها طيكوك ماعندها تويتر ولا فايسبوك
مرة مرة تروف بڭطرات حليب
بكرة علال عنوان يحيل على الماضي الضارب في القدم الذي كنا نسمع عنه ولم نعشه، بكر علال مصطلح أطلقه المتفقهون من المغاربة في بداية الاستقلال على القطيع المخدوع بلغة فئة من الساسة كانوا يُعلّمون أبنائهم ويدفعونهم للمناصب العليا وبالمقابل يسخرون أبناء الشعب لأعمال السخرة
في نص بكرة علال هناك لغة مُشبعة بالخلفية الرمزية وقوة التلميح،فالبقرة هي الوطن الذي لا يملك فيه الفقراء إلا الفتات،هذا الفتات الذي لا يتردد بعض الساسة الفاسدين من سلبهم إياه.
عراضة جات لعلال من دوار غريب
ولو طارت زردة علال مايزڭل
السفة المردومة والبڭري مخضر بالزبيب
تزيزعلال ولبس حوايجو الكبار
ومشط الفريزي ودار الريحة
وڭبل مايسڭد وصى بلاك على ميرزة
يحظيها ويديها فيها
وڭبل مايڭيدهم بجوج بطوال مثين
صوت صارف ڭايداه كلبة عيشورية
تسمع من بعيد
بلاك عينو خضرا وجاه بلوغ الكلب ولد الكلب
بقى يتحرحز ويتركل وينقز
تابع خزيت
خف من البرق أولاد علي الفراقشية ضربوا ليه النقب
ساڭوا البڭرة وخلاو الكلب
كملات الجوقة وتفرتكات الناس
وعڭب علال مسري يتڭرع
بين كدا وشعب
جاتو السخفة ورفداتو الكربة
مللي مالقى لابڭرة لاكلب
عرف الخيات سمرو ليه على الحفا وداروها بيه
تسنى حتى بان ليه الزهواني
شعل معاه بهراوة لمسلانو
مللي ڭاع هذه لهطة في بوك
ڭوليا نحضي زمري بيدي
ياولد الكلب
الزردة رمز لتلك الهدايا المسمومة التي يقدمها بعض المرشحين للضحك على البسطاء من أبناء الشعب .قبل الانقضاض على أرزاقهم.
2) الصورة الشعرية والايقاع:
من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد. وتستند على مكونات ثلاث:
1) اللغة من خلال الألفاظ يوصل الشاعر المعنى
2) العاطفة وهي تعبير عما يخالج ذات الشاعر من أحاسيس
3) الخيال ويستند عليه الشاعر لنقل صور وتمثلات تتجاوز الواقع
ويجدر بنا التأكيد على أن هناك أيضا مُكوّنا التشبيه والاستعارة التي قد تكون صريحة أو مكنية وأصلها تشبيه حذف أحد طرفيه.
فإلى أي حد نجح شاعرنا في منح المتلقي صورا شعرية ماتعة؟
إن سبر أغوار نصوص الشاعر إدريس الطلبي يجعلنا نكتشف أنه اشتغل على تطوير الصور الشعري داخل النص حيث جعلها تتحرك وتُثري النص .فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفه للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال،ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية الزجلية،وهناك نماذج متعددة
القلم مني دواية
نغنيك وحدي
المداد بحر فيك دوايا
طرزني منك سطر
رشمني غناية
في صدر الوقت
نڭولك
مدي فيك جزر
مواجك فيا بحر
نغرق بك آية
لبسة مشطوحة
في كف البصر.
في هذا النموذج نكتشف الاشتغال القوي لسي إدريس على الصورة الشعرية،وتوسله بالتشبيه "المداد بحر" تشبيه بليغ وأيضا الاستعارة حيث تتجاوزمستواها الدلالي المتداول إلى المستوى الايحائي وذلك بتوظيف ألفاظ تتجاوز معناها الحقيقي لتؤدي معنى ثانيّاً في بعد مجازي"رشمني غناية في صدر الوقت،مواجك في بحر"
بالنسبة للايقاع: يقول ابن فارس المتوفي سنة 395م ميلادية: "إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم،وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة" أما عند ابن طباطبا فيرتبط الإيقاع باعتدال الوزن وصواب المعنى.في حين عند المحدثين فإن الايقاع هو التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الألفاظ والانتقال ما بين الخفة والثقل ليخلقا معًا فضاء الجمال.
والايقاع: داخلي يستند على الموازنة (يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ،) والتكرار(هو مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك). وخارجي وهو العروض والقافية.
فألى أي حد نجح الشاعر إدريس الطالبي في تطويع نصوصه بشكل يخدم نسق التتابعات والإرجاعات ذاتِ الطابع الزمني والموسيقي، ليقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ؟وإلى أي حدّ نجح في صياغة شعره على النحو الموسيقي الذي يتناسب وخلجات نفسه ودفق مشاعره؟
والبارح خير وسلامة
شفت العدة ولات
في يد الهراب
والكلاب تحالاو
على رجلين الطلاب
والبارح خير وسلامة
شفت البلاد طالية الحنة
سالفها ساد عين القبلة
موسدة كف الريح
والبارح خير وسلامة
شفت البحربحال إلى مريض
ومغطي بدربالة
والبارح خير وسلامة
شفت برا عمية
مغنبرة بفليج
وتابعها مخيط عوج
والبارح خير وسلامة
شفت الحجامة
هازين رايات بلا لون
كيڭولو كلام زوين
فيه ريحة الند
والبارح خير وسلامة
شفت يد كبيرة
باردة بحال الثلج
كطفي النجوم
وكتهرس عروش الغنباز
والبارح خير وسلامة
شفت الوقت زعفان
كيبري على عكاز
في جيوب ليتامى
والبارح خير وسلامة
شفت الليل هاز شمعة طافية
وكيتسارى بين القبور
والبارح خير وسلامة
شفت وشفت وشفت
ومــــــــــــــــــا عقلت
في قصيدة خير سلامة نلمس جمالية الايقاع الداخلي من خلال تكرار لفظ "خير وسلامة" بشكل حقق الانسجام ما بين الألفاظ والمسموعات اللتان تؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي تؤدي إلى الوصول إلى غاية البلاغة والبيان.
كما نلاحظ أن الطالبي استغل كل الإمكانيات الإيقاعية المتاحة لتحقيق تناغم موسيقي يخدم البنية الجوهرية للنص
خاتمة
لقد استطاع إدريس الطالبي كشاعر وفنان مسرحي متألق أن يفتح للمتلقي فجوات للرؤيا من خلال متن لغوي شعبي، يتضمن صورا شعرية متوهجة وايقاعا موسيقيا يمتح من العيوط والتراث الشعبي، ولغة لصيقة بالواقع اليومي، جمعت ما بين كل المحسنات اللغوية والعلاقات المتبادلة بين نص وأخر وهذا لعمري مدعاة لتقديم تهانينا شاعرنا القدير وتمنياتنا بطول العمر والصحة والعافية
***
محمد محضار