قراءات نقدية
قراءة في المجموعة الشعرية: أخطاء تروضها الموسيقى للشاعر مهدي القريشي
التداولية الشعرية بين الكيفيات الرؤية وفاعلية أوجه الدال
توطئة: إن آليات الوظيفة الشعرية بأدواتها البالغة الكفاءة وفواعل مشاغلها الإنتاجية الممكنة تتحدد في تجربة مجموعة (أخطاء تروضها الموسيقى) للشاعر العذب الصديق مهدي القريشي، الذي شكل في مهام التجربة الشعرية لديه منذ عدة عقود خلت، ذلك الحراك الدينامي على النحو المخصوص الذي يرقى بدقة ساحرية الصور والمفردات ومقادير الصنعة الشعرية التي تعتمد على عوامل وعناصر متفردة في مجال البناء والصوغ والاستعارة ومقصديات (أوجه الدال) المحتشد بأعلى مشروعية الاستدلال والدليل التقاني المتماسك في موصولات خطاب النص الشعري.
ـ الرؤية الشعرية وحصيلة إنفعالات الذات المتضخمة.
لا شك أن خلاصة كل نسيج شعري، ذلك المشروع والشروع في إنطلاق الذات والانتقال بها نحو تحولات خاصة متراوحة ما بين (الذات ـ الانطباع ـ وحدة الموضوعةـ مؤثرات الفعل الدوالي) وبهذا الأمر تبدو خرائطية القول الشعري، اعتمادا على جملة محمولات ومنعطفات في أقاليم الأفعال الصورية المفتوحة أو المحددة عبرة مواطن النمو في حصيلة مكونات البنية الشعرية ومجالاتها المألوفة والمغايرة في رسم أحوال الدال والتدليل.نقرأ ما جاءت به قصيدة (هذيان) من الاشارات والإيحاءات الإجزائية:
دائمًا تقذفني شوارع إلى كراجات...
ثمة رحيل يقود أناسها كخراف!
فيما تتقدّمني هاوية
وبين أصابعي سعادةٌ سائلة!./ص6
يتكثف المتن الشعري عبر مراحله الدلالية المتشكلة بالدرجة الأولى من حدود حال الذات القائمة على تمديد إحساسها بواقعها المختل عبر أغراضه الاستنزافية الملتهبة من جراء قضايا مصيرية حالكة، لذا وجدنا جملة (دائما تقذفني شوارع) بمثابة المستغلق من الانتعاش في حيوات تراتيبية مستقرة في مقامات أكثر أمنا واستقرارا، وذلك ما تتحدد به لفظة (كراجات) تأشيرا إلى مدى تخطي الذات في كل الجهات اللاموطنة إلى شكل إرتكازية هذه الذات.
1ـ الرحيل إمعانا في منظور المعادل التقديري:
تتجاوز غائية الملفوظ الذواتي في عتبات البوح، إلى حدود من المقاربة والمقارنة اللتان تتصلان بالاعتبار الاستعاري إلى علامة خاصة من التمثيل المعادل كقول الشاعر: (ثمة رحيل يقود أناسها كخراف!) وما يتكشف عنه هذا التمثيل المعادل بالتذيل التعجبي، أن هناك حالات قمعية خاصة قامت بها جهات سلطوية أو لربما جهات خاصة من ضغوطات الواقع النفسي والعاطفي، لذا بدا من خلالها الرحيل وكأنه مستوى مهيمن من ترحيل قطيع من الخراف إلى المراعيها.كما ولا تكتف الذات من الخلاص من نازلات افتقارها المعنوي والمادي في محيطها المبلول بالفقدان والغبطة والترحيل، فما زالت بأنتظارها تقادما (فيما تتقدمني هاوية ـ وبين أصابعي سعادة سائلة!) إن الخطاب الدوالي هنا وهناك قد أدمن لنفسه حدود لغة هذيانية، فما عاد ينفك منها الفاعل الشعري، إلا بإخضاع جل ملازمات البوح بما هو أدهى من رحلة التيه والهذيان المستوفي بعلامات التعجب وهوامش التنقيط التي هي بمنأى عن إمكانية اختزال ما هو خارج دائرة فضاء التوصيف:
لماذا يمدُّ النهار عنقه متثائباً؟
يسأل عن موعد غروب الشمس!
أخيراً رأيتُ سيارة تعلوها حمىّ
تبحث عن بنفسجة بلون الطفولة...
لم تبلغي سنَّ الظلام؟
سأنقش مراهقتي على ضفاف الصباح ./ص6
تبعا من جملة (بين أصابعي سعادة سائلة) تتلاحق محاور خطية الألم الممجوج عبر تصوير مكامن الأحوال المتشيئة بروح التحفيز نحو تشكيل لغة منزاحة ومفترضة غدت تكشف لنا مدى رمزية التحاور القائم ما بين (الذات ـ محاور الأشياء) تمسكا بخصائص الطابع الدلالي ذاته من التوظيف السابق، وذلك ما تتحدد به جملة (لماذا يمد النهار عنقه متثائبا؟) تأتي هنا حالات من صعوبة التوصيف في معاينة الرؤية، ولكننا عندما نتعامل وإياها من جوانب سيكولوجية، نلاحظ بأن الذات أصبحت في منجزها اللغوي ـ الاستعاري، تتعدى مسار القراءة الصفاتية للشيء في ذاته وهويته، لذا فإنها باتت تتعامل مع الزمن من خلال أداة تحريك الآفاق عبر رؤى زمنية أكثر ولوجا وقابلية اللغة الواصفة على أن تغور في رسمها عن ملامح متصلة ما بين قيمة الاستعلام ومضاعفة احتمالات أن يكون الزمن النهاري (متعبا، منكسرا، متغافلا ) وهذا الأمر ما جعل الرؤية الشعرية تتلمس طريقها نحو (أخيرا رأيت سيارة تعلوها حمى ـ تبحث عن بنفسجة بلون الطفولة...) أن ما ينبغي التأكيد عليه هنا في وسائط ملفوظات النص، هو تلك الإمكانية الرابطة ما بين (صيغة الملفوظ ـ الفعل التراكيزي ـ مختزلات اللغة المزاحة) وهذا الاستخدام الواعي في مقابلات علائق الدوال، هو بحد ذاته ما جعل ملامح (التجسيد الرمزي) علامة متضمنة في مشتركات الممكن في وظائف السياق الشعري.
2ـ فرضيات الدوال في إيصال محسوسية المعنى:
لعل المقاربة النقدية في وظائف قصيدة مجموعة (أخطاء تروضها الموسيقى) تتعامل في شكلها المكوناتي مع تجربة شعرية ذات محمولات تقع ما بين (فرضية دال ـ مشخصات متراتبة ـ إضاءة أحوال مستورة) وعلى هذا النحو يمكننا القول في شأن قصيدة (مهدي القريشي) على أنها قصيدة عاملية تجتهد في تصوير حوادثها وأفعالها من زاوية لغة استعارية ضاربة في المحسوس الاستبدالي الذي تشرع به مكونات الصورة على هيئة علاقات مستورة ومعلنة في الآن نفسه:
كنْ حذراً منْ إغلاقِ غطاءِ التابوتْ
ثمّةَ شهيدٌ
تنمو الرغبةُ في عينيهِ./ص7 قصيدة : شجرة الكرادة
تندرج معادلات هذه القصيدة عبر فحوى العنونة المركزية (شجرة الكرادة : المكان ـ الفاعل الغائب ـ الصورة المؤنسنة) وعندما نعاين مصدر البعد الإيحائي في جملة (كن حذرا ـ من ـ أغلاق التابوت ) تتجلى بؤرة الفعل القصدي في دال (شهيد) وقد يبلغ هذا الدال توقعا بالالتفات الربطي بين جهات (شهيد : موت ـ ولادة/ التابوت :مجال تحول/شجرة: ـ مرحلة الفردوس الأعلى/ الرغبة في عينيه) ولما كانت جهة الإيعاز الضمائري تدلل على (كن حذرا) أي إلى فاعل غيابي، أكتفت المساحة الدوالية بالإضمار الفعلي عن علية أسباب ماهية (تنمو الرغبة في عينيه) أي إننا لا نعلم من حال هذه الرغبة شيئا: أهي خاطرة دهشة الموت أم مرحلة ملكوتية خاصة قد عاينتها عيني ذلك الشهيد؟:
أن لا يرى وجهَ الله
لكي لا يعاتبَهُ
على طريقةِ استردادِ أمانتِهِ./ص7
أن الذات الشاعرة تسعى ها هنا إلى مستوى (إحالي مستور) من دلالة الاستجابة المتشكلة في وضعية جملة (أن لا يرى وجه الله) والجوهر المراد من حساسية هذه الجملة مبعثها الأوحد حالة متمحورة في المتن الأفعالي: (الشهيد : لا ـ يرى ـ وجه ـ الله = الحالة الشعرية المرتقبة = شفرة) ولا نعلم شيئا من أمر الجملة، حتى تتبين لنا الجملة اللاحقة كعلامة رمزية متجلية في معطى اللاتوقع (لكي لا يعاتبه) وجملة (على طريقة استرداد أمانته) ثم تلي هذه الجمل فاصلة تنقيطية هي من المسكوت عنه في عمق مخصوصية رؤى الدلالة.بمعنى ما تنطوي هذه الجملة الأخيرة على مكنونات تركيزية تنم عن مدى الوضع المأساوي الذي فيه جثة الشهيد من الضرر وما يعاكس خلقه عندما كان سويا بالفطرة متعافى في جميع ما أودعه الله إليه من حسن الخلق والتقويم الصوري.فالشاعر القريشي قد أصاب على نحو ما من التأثير والحنكة في حدود صنيعه لهذه الجملة ومكوناتها المؤثرة في الذائقة القرائية.
ـ منصة الأداء وشعرية التشكيل في منعطفات الخطاب
لا شك أن مجموعة قصائد (أخطاء تروضها الموسيقى) من علامات التجربة ذات الرؤى المكثفة والاستثنائية في تمحور مفاصلها داخل مساحات حسية وتشكيلية وتفارقية من عتبة الذات الشاعرة التي أختطت لها في أفعال وصور وحالات قصائد المجموعة آفاقية إيحائية وقصدية من الخصوصية المثمرة.تواجهنا في بعض النماذج من مجموعة الشاعر، ذلك النوع من (قصيدة المعادلة) التي تشتغل أولا بآلية تشكيلية تقوم بالتقاط حالات الصور بموجب فحوى ارتباطات أفق العين المصورة لكافة مخمناتها الذائقية والتأملية النافذة /وهذا النموذج أطلعنا على مثله في قصيدة (عري البحر):
لا تبتئسْ
إنْ هبطتَ مرغماً،
فالغيمة تخلع بياض عفّتها
لتستر عري البحر./ص20
أي بمعنى ما أن هناك قطبين يتشاركان في تفعيل المعادلة الدوالية: (لا تبتئس:مرسل ـ ضمير غائب/إن هبطت مرغما:حالة فاعل /الغيمة تخلع بياض عفتها:استعارة ـ إحالة/تستر عري البحر:الصورة المعادلة ـ تذهين صوري) وبمثل هذا النوع من (المرسل ـ المرسل إليه) تظل معالجة القطبين (ذات ـ موضوع) في أداة تحويل وتمحور يتطلبان كلاهما (بديل احتمالي) ويفض دال هذا التمظهر بوصفه التشكيلية الخاضعة إلى استنتاجات القارىء المؤول، لأجل المزيد من فاعلية التأويل المباشر واللامباشر، أي بما لا يقترب من التحليل التفسيري وما يمكننا قوله أيضا أن هذا النوع من الشعرية تعتمد الموصوف كنقطة متناسبة الأبعاد والأفعال مع مجاورة القيمة المعادلة في تقانة (فضاء الاستعارة) لأجل أن يكون التدليل من خلال دوالها بمستوى المخاطب الى جهة المرسل إليه غيابا.
1ـ غواية المرآة وخلاصات عقدة الذات:
تلعب فنون المرآيا الشعرية في مسار معطيات المصورات في أحوال القصيدة، ذلك التوهم في مراهنات الزمن (الماقبل ـ المابعد) إذ تقود هذه الجملة من المراويات الشعرية ثمة مجالات عمرية مهيأة إلى اقتياد الكتابة إلى أوج مرحلة متماهية من الإشكالية والحيرة والترقب في جغرافيا خطاب مراوي تجريبي في جملة مؤشراته التقانية والذاتية:
هذا وجهٌ باهتْ
كأن نثيث نعاس
سد مساماتٍ
تمضمضت بعواءِ الليلْ.
هذا خزين الأمس
تتقيأه كلما تَلَمست تجاعيدَ،
تؤهلها للشيخوخة./ص21 قصيدة :خداع المرآة
ليس تألق اللغة وسحرها ما يميز جمالية هذا النص الشعري، بل هناك حالات من الاستنتاج والإثارة في إمكانية الابعاد والأشكال الموصوفة في شاشة المرآة (هذا وجه باهت ـ كأن نثيث نعاس ـ سد مسامات) تتجاوز مستوى الدوال مواضع أفعالها الملفوظية، لتلتحم بالصورة المراوية، ولا شك أن مراد الواصف الشعري، هو الأخذ بفسحة انتاجية ترتبط مع ظرفيات أحوالية خاصة بالزمن والذات التي تغامر في سفرها عبر (تمضمضت بعواء الليل) أوجملة (سد المسامات) أو (هذا خزين الأمس) فهذه الجمل ما هي إلا علامات حياة بأكملها تتراءى للذات عبر تفاصيل القراءة المراوية وعبر تجليات خطاب ثنائية (زاوية الرؤية :الذات ـ المرآة)، وصولا إلى مستوى من الاستعارة المكينة التي تنطبق على (الحالم المراوي) بأدق الدوال إشارة وعلامة وشعرية فاحصة وناقلة لأسمى درجات الزهد في التشكيل اللغوي (أونزت شعرة سوداء في حدائق خريفي ـ تمهلي أيتها المتكلسة في عضد موجة شرسة) من هنا وهناك تترسم لغة الشعر لدى (مهدي القريشي) في إطار شعرية معادلة مكتنزة إبداعا ومخصوصية كفائية إلى النفاذ إلى أعماق الجسد النصي وبلوغاته الأسلوبية التي تحقق للتجربة وشاعرها إنجازا ودورا لا يطوى مهما أسدلت أزمنة الأقفال على محكمات حجبها.
ـ تعليق القراءة:
لقد تصرفت القابلية الشعرية في مجموعة (أخطاء تروضها الموسيقى) في خلق التمايز بالتلميع التأثيري المشحون بأعلى انطباعات الظروف والأحوال والاشارات والعلامات النواتية التراكيزية، كما ينبغي التأكيد عليه هنا، هو أن عملية التداول النوعي في مشغل شعرية الشاعر جاءتنا نتيجة جملة علاقات من (المجاورة ـ التصور المقابل ـ انعطافات الذات ـ معادلة رؤية الأحوال) وصولا إلى تجربة الوحدات الدوالية المؤشرة في التحول والإحالة والمسكوت عنه في فضاء الأسطر البياضية:
كانت النجومٌ تُلمعُ أجنحتها
والشتاءُ يمد يديه إلى أزرارنا
ليضيء برزخا هجرناه ./ص16 قصيدة:عطر خائن
على هذا النحو وجدنا نماذج قصائد مجموعة الشاعر القدير مهدي القريشي الموسومة ب (أخطاء تروضها الموسيقى) مجموعة رؤى شعرية لها أوجه توالدية من الأطروحة الدلالية، التي تتوغل فواعلها ووظائفها الخطابية كحفريات تشق جدران المعنى وتنقش فوقها تماثلات مقصديات وتأملات ورموز وعلامات مدعومة بالانجاز الجمالي والسمة الحسية الانتقائية كتجربة شعرية ناتجة عن رؤية تراكمية مصاغة بأدق أوجه مفعولية وفاعلية شعرية الرؤية وساحرية التخييل النموذجي.
***
حيدر عبد الرضا